نحن نصوم كل سنة لمدة شهر كامل، ولكننا في الغالب لا نطرح على أنفسنا سؤالاً لماذا نصوم؟ وما معنى الصوم للإنسان؟ بل ما هو (نظام الصوم) أصلاً في تاريخ الجنس البشري؟ وكيف ولد وتطور وأخذ شكل نظام مؤسس معقلن مشرعن؟ في ثلاثة أسئلة تمسك بمفاتيح هذا النظام السنوي. نحن نصوم لأننا وجدنا كل من حولنا يصوم، في تيار اجتماعي يدمغ كل خلاياه البشرية. ونحن نصوم ثانياً لأننا وجدنا آباءنا وأمهاتنا يصومون، وعلمونا أن الصوم واجب ديني وشعيرة أساسية من الإسلام. ولكن السؤال الجوهري والمفصلي والحيوي هو ماذا يريد هذا النظام الشهري المكرر سنوياً كمطلب أعلى؟ ولماذا يراهن على الدخول إلى الروح من خلال (نظام التغذية) أو الحاجات الفيزيولوجية تحديداً؟ ولكن الصوم لا يخص المسلمين، وغير محصور في الامتناع عن الطعام، وليس تقليداً لجماعة تمارس طقوساً سنوية. الصوم مارسته الأديان التي سبقت الإسلام (كما كتب على الذين من قبلكم) والصوم يعني (الامتناع) وردع الحاجات الفيزيولوجية فلا يأكل ولا يشرب، لا يمارس الجنس ولا يدخن، ويرقى إلى أرقى أنواع الصيام بالامتناع عن الكلام: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا). ولما كان الصوم يتحرك باتجاه توليد (التقوى)(لعلكم تتقون) التي هي إحكام الانضباط الداخلي عند الإنسان؛ فيما لو أردنا نقل هذا المصطلح إلى مفاهيم علم النفس SELFCONTROL) فيصبح الصوم بذلك أداة ممتازة لممارسة اللاعنف والمقاومة السلبية، كأسلوب يعتمد الدخول إلى نفسية الخصم، وإيقاظ ضميره للحوار، ولقاء الإرادات، والخروج بإرادة مشتركة موحدة، وليس أن يحطم كل طرف مقابله في آليات الإعدام المتبادل. الصيام آلية هامة انتبهت لها حركات اللاعنف في العالم في اختيارها لوسائلها وأدواتها في تغيير الفرد والمجتمع، لأنها تعتمد تغيير ما بداخل الإنسان في السيطرة على غرائزه وانفعالاته تحت قانون: من يسيطر على نفسه يسيطر على العالم، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ومع أن الصيام تقليد إسلامي عريق؛ فإن المرء يرتاع لعدم تسخير هذه الأداة الرائعة، التي تصقل مستوى تهذيب الفرد، وشحنه بهذا اللون من المقاومة، واستخدامها في دفع الحيوية في مفاصل مجتمع غائب عن حركة التاريخ. بدل هذا تشبعت الثقافة العربية الإسلامية بروح العنف والانقلاب والغدر والتآمر واجتياح بعضنا بعضاً؛ وإلا كيف نفسر اشتداد العنف في مناطق كثيرة في العالم العربي والإسلامي؟ بل وأحيانا في جو رمضان فترى مذابح مروعة تجعلنا نفهم أهمية الصوم في ضبط الانفعالات.