خلق الإنسان مطوقاً بظلمات ثلاث. وتنتج دودة القز الحرير بصمت في شرنقتها. وتتولد الأفكار في صمت في دماغ ودَّع التقليد. أما الجنين فيخرق سجف الرحم الثلاثة، ويتحرر من ظلام الرحم إلى ضوء الحياة، وتطير الفراشة بجناحين بعد التخلص من شرنقة دودة القز، ويبزغ الفكر الجديد بتحطيم قشرة البيضة الاجتماعية. هكذا تعمل قوانين الطبيعة. الرحم هو مكان التخلق، والشرنقة هي وعاء التكوين، والمجتمع هو حوض تشكل الأفكار. ولكن لابد للدودة أن تتخلص من الشرنقة، ولابد للجنين من مغادرة دفء الرحم، ولابد للأفكار من التملص من ضغط العادات العقلية الساحق. ويبدو أن الكلمة تعيش في ظلمات ثلاث من هذا النوع، بين عين الرقيب الإعلامي، وتنافس المنابر، وهيمنة آراء الثقافة المحلية. والكلمة المطبوعة العربية محاصرة بثلاثة حواجز من ضغط الثقافة وانحباسها في مجاري لغة محدودة مثل العربية وليس الانكليزية او الاسبانية لأمة تبلغ واحداً من ثلاثين من الجنس البشري، بآذان صماء من أمية تصل إلى سبعين بالمائة، وتحتاج عبور أكثر من عشرين بوابة عربية، لأخذ براءة الأمان، في لعبة مستحيلة يسقط فيها لاعب السيرك في قبضة شبكة الحبال. مشكلتنا نحن من يكتب أننا نريد نشر الفكرة بأعظم عدد ممكن من المنابر، لأعظم قطاع واسع من شرائح القراء، في أكثر من لغة، وهم يريدون ألا تنطق الموسيقى إلا من ربابة بعينها؟ نحن نريد للنوت الموسيقي أن يدخل بطن أية آلة؛ فيصوت على نحو فريد، وهم يريدون تكرار الصوت بآلة مفردة، فما العمل؟ الموسيقى آلة واحدة كالعود جميلة، ولكن تكرارها ممل، ولو كانت أشجى الأنغام. وعندما سمع مشركو قريش سورة النجم سجدوا لهذا المزيج المذهل المتدفق من عمق المعنى، وانسياب الفقرات، وتماسك الأفكار، وجرس الصوت وموسيقى الألفاظ. وكذلك تفعل الطبيعة فنوعت الأنغام بين عصف الريح وحفيف الشجر. بين هزيم الرعد وخوار البقر. بين نقيق الضفادع وطنين النحل في لسع الإبر، في دبيب النمل وخرير النهر، في سيمفونية كونية رائعة. نحن في ثقافة رأسمالية تعتمد احتكار كل شيء بما فيها احتكار الفكر. ولكن لابد للفكرة أن تتنفس وإلا اختنقت؛ فالدماغ الذي لا يدخله أكسجين يحترق، والماء الذي لا يتدفق يتحول إلى مستنقع، والدم الذي لا يتدفق في شرايين الجسم يعطب بالتخثر القاتل، والمال الذي لا ينساب في مؤسسات المجتمع يدخل اللعنة الفرعونية إلى مفاصله. كل من الفكر والماء والدم والمال تمثل طاقات نوعية: الفكر للعقل، والماء للطبيعة، والدم للبيولوجيا، والمال للمجتمع. الكلمة الطيبة تستعصي على الاحتكار، والطيور النشيطة تحب الهجرة، والدماغ يحتاج إلى الأكسجين، والعقل إلى تجديد الفكر، والجنين إلى مغادرة دفء الرحم، ودودة القز من مغادرة الشرنقة، وامتن الله على نبيه بتزويجه من نساء سائحات فقال:«عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً». ولكن ثقافتنا الإسلامية ليس عندها الاستعداد قط لتفهم أن تمارس المرأة السياحة، وكل العالم مزدحم بوزارات السياحة؟ مما ضغط على عقل الفقهاء لفك السحر فقالوا: لا إن السياحة هنا معناها الصيام. يمكن أن نضحك؟ يمكن أن نبكي على ثقافة تحنطت إلى هذا المقدار. «والسماء رفعها ووضع الميزان»..