الشعب العربي يولد الآن في نار المحنة ولكن المحنة يجب أن تأتي ضمن شروطها الحدية ووسطها الذهبي كي تلعب دور (الإنضاج) و (النمو) لا دور السحق والتعطيل. ويبحث عالم النفس البريطاني (هادفيلد) في كتابه (علم النفس والأخلاق) عن المنبه (المناسب PROPER STIMULI) لتنشيط الإرادة، فالمنبه إذا زاد عن حده تحول إلى عامل بغيض غير محرض أدعى للتشنج والتيبس، كما أنه إذا كان فاتراً خامداً في الطرف المقابل لم يقود إلى التحريض المناسب. العضلة القلبية حتى تنقبض بالشكل الملائم لابد لها من تنبيه عصبي بقدر معتدل، وحتى ننطق الكلام المؤثر يجب أن نكون بين حدي الانفعال والجمود. يجب أن لا يرتفع توتر الانفعال كما يجب أن نتحرر من السكون والجمود . ويعمل العقل بأفضل شروطه إذا مُلِّح ببهارات العاطفة؛ فنقرأ الانفعال في نبرة الصوت وتعبيرات الوجه وحركات اليدين وطبقة الكلام (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول). إذا تكلم الإنسان بلا انفعال خرج الكلام وثيقة باردة ميتة، وإذا تملح بملح العاطفة خرج مؤثراً لذيذاً معبراً. وحتى يخرج الجنين من ظلمات الرحم إلى ضوء الحياة، ومن دفء الأحشاء إلى برودة العالم الخارجي، لابد من دفعه إلى قَدَره بآلية المحنة والمعاناة والتقلص طرداً له ليغادر السكون والراحة والدفء والظلام؛ فيخرج باكياً والناس من حوله يضحكون سروراً؛ لتجاوزه عتبة المعاناة بسلام والنجاح في امتحان الالتحاق بالحياة. إذا تقلص الرحم دفع الجنين إلى الخروج والحياة، وإذا ارتخى فلم يتقلص بقي الجنين في ظلمات ثلاث وظلمات بعضها فوق بعض، ولكن الرحم يعمل بشكل (ديناميكي) متغير بين (التقلص) و (الارتخاء) وفي مثل هذا الحقل المتحرك يخرج الجنين إلى الحياة. إذا تقلص الرحم واستمر في التقلص يتحول الوضع إلى (تشنج) متلاحق وتكزز وعض على الجنين بدون رحمة، فيموت الجنين مختنقاً، وإذا ارتخى الرحم فلم يتقلص بقي الجنين في الظلام يسبح في المجهول لا يعرف جو الحياة الذي ينتظره، فإذا طابت له الإقامة في الرحم اقترب من الموت أيضاً، فظروف الراحة والدعة والإشباع والاعتماد على الآخرين لا تستحث ديناميات الحياة، ولكن الجنين يخرج معافى سليماً في هذه الدورة المتكررة من المعاناة بين دفعات ( تقلص ارتخاء تقلص ..) تزداد وتيرة وعنفاً حتى تنفرج بالخروج. ومن الملفت للنظر أن الرحم الذي يتقلص ويرتخي حتى يصبح الجنين في الخارج يقوم بدفعة تقلص رهيبة واحدة بعد الوضع صيحة واحدة مالها من فواق، ويعرف الأطباء أن تقلص الرحم المتواصل حينها ضرورة مطلقة لإنقاذ حياة الأم من نزف مرعب، تموت فيه بعض الأمهات بعد الوضع.وعاصرت أنا شخصياً أكثر من حالة، كما استدعينا إلى حفلات جراحية لا تنسى من نموذج ليالي دراكولا عند منتصف الليل. تقلص الرحم المتواصل بعد الوضع، يقابله الارتخاء التام في ظروف الحمل، وتتوسط المرحلتان فترة انقلاب وأزمة تحيق بالجنين، لا تكتب له فيه النجاة إلا بهذه الآلية المحيرة والخطيرة بنفس الوقت. لابد من ارتخاء الرحم في أشهر الحمل الأولى بهدوء لا يعرف التعكير حتى يكتمل نمو الجنين، من خلية واحدة ملقحة إلى مائة مليون مليون خلية، في عشرات الأجهزة المعقدة، وقبلها وبعدها جهاز (الخلق الآخر) ولابد من خض وتبادل تيار (التقلص الارتخاء) كي يتم دفع الجنين من ظلمات الرحم إلى ضوء الشمس، ولابد من تقلص الرحم الواسع المتتابع ليغلق فتحات الدم الرهيبة بعد الوضع وكأنها المنخل أو الغربال في سطح الرحم الداخلي بعد انخلاع المشيمة . سنة الله في خلقه. والشعب العربي يولد الآن ضمن هذا القانون.