يخوض الآن الشعب الفلسطيني تحدياً من حجم كبير، ولكن ظروف المعاناة والمشقة هي التي تخلق الشعوب وتطهرها وتصقل إرادتها، ولكن بشرط قدومها وفق وسط ذهبي غير ساحق. ويرى المؤرخ البريطاني (توينبي) أن ظروف التحدي هي التي تدفع البشر للانخراط في مغامرة بناء الحضارة، ولكن فضائل المشقة يجب أن تؤدي دفعها ضمن وسط ذهبي معتدل، فمستنقعات النيل وجنوب العراق حرضت مجموعة المصريين القدماء والسومريين أن ينظموا قنوات الري ويرتفعوا بالحضارة الفرعونية وسومر، ولكن الظروف الكئيبة وقساوة الجو غير المعقولة - كما في برد شمال كندا، ومسافات المحيط الخرافية - عطلت حضارة الاسكيمو والبولينيز؛ لذا وضع (توينبي) الحضارات ضمن طيف متباين، منها ماحققت نفسها، ومنها ما تعضلت وجمدت، كما يحدث في انقطاع الأكسجين عن دماغ الجنين إذا تقلص الرحم أكثر من عادته. الفرد الذي يسحق يمرض ويحقد ويتصرف بردود الفعل لإعادة الاعتبار لذاته، والثور الذي يُهَيِّج بالخرقة الحمراء؛ فينقض عليها في إعصار من الغضب الأعمى، ينسى تحت رد الفعل المدمر، المصارع الاسباني الرشيق، المختبئ خلف الوشاح يحمل السيف القاتل. والجماعة التي تتحطم في الصراعات السياسية تتحول مع الوقت إلى أشكال طائفية محنطة عجيبة تعبد الشيطان، وتحرم على نفسها أكل الباميا، وينحبس الفرد إذا رسمت حوله دائرة على الأرض كما في الطائفة اليزيدية في جبل سنجار، والجنين الذي يعضه الرحم ويتشنج عليه، ينقطع عنه الأكسجين أكسير الحياة فيحترق دماغه، ويخرج أبلهاً قاصر العقل ضعيف النمو يراوده الموت في هجمات. والحضارة التي تتعرض لضغط ساحق تتعطل عن النمو وتفضل الانسحاب والانزواء..سنة الله في خلقه. ولكن المشكلة العويصة في المحنة والمعاناة أنها ضرورية وبدونها لا يبدع الفرد ولا تتطور الجماعة، فعندما كان المصلح (ابن تيمية) يُضرب ويُنَّزل من المنبر وتطير عمامته ويُعَزَّر، ويحكم على سلطان العلماء الإمام (العز بن عبدالسلام) زمن الملك (الأشرف) بن الملك العادل الأيوبي بألا يفتي ولا يجتمع بأحد ويلزم بيته . ويضطر الناس إلى دفن الإمام (ابن جرير الطبري) في بيته خوفاً من الرعاع، وهو صاحب التصنيف في التاريخ وله التفسير الكامل، الذي قال عنه الفقيه المشهور (الاسفراييني) لو سافر رجل إلى الصين في سبيله لما كان كثيراً. ومات المجتهد أبو حنيفة بالسم غالباً، وجُلِد الإمام مالك وشُهِّر به، وعُذَّب الإمام ابن حنبل التعذيب الشديد من أجل فكرة. وقبل هذا عندما كان الرسول () يضرب في الطائف بالحجارة حتى تدمى قدماه الشريفتان.