في عام 1649 م طار رأس الملك (تشارلز الأول)، وولدت الجمهورية في بريطانيا على يد كرومويل. وكان أهم شيء فعله العسكري كرومويل هو شق الطريق إلى (التسامح الديني).. وإذا كانت عظام كرومويل قد أصبحت في المزبلة، بعد نبشها على يدّ تشارلز الثاني، ولكن بريطانيا لم تعد قط لعصر الحكم المطلق. وهذا يقول إن العالم العربي يعيش سياسياً عام 1649 ميلادية! والفضل في عمل كرومويل يعود إلى فيلسوف مشهور هو (جون لوك)، هرب إلى هولندا في جو (التعصب الديني). ويقول عنه المؤرخ (ويل ديورانت): إنه عندما رجع في ولاية وليم الثالث عام 1689م إلى بريطانيا، وكان يناهز الستين، إلا أنه وفي سنة واحدة دفع للطباعة ثلاثة كتب، جعلت منه أحد نجوم الفكر في التاريخ. كان الأول بعنوان ( بحثان عن الحكومة) رفض فيه الحق الإلهي للملوك، وقال بنظرية فصل السلطات، وأرسى فيها قواعد الديموقراطية السياسية. والآخران هما: (رسالة عن التسامح الديني) و(مقال في الفهم الإنساني). وكما حلَّل صديقه (نيوتن) الضوء، فقد قام لوك بتحليل النفس الإنسانية والعمل السياسي. ويقول لوك عن (التسامح الديني): إنه يجب أن ينتقل من التسامح بين أبناء الدين الواحد، إلى التسامح بين أبناء الديانات المختلفة، فأين آذان الشيعة والسنة لسماع مثل هذا الكلام؟ قال الرجل: “يجب أن لا نستبعد إنساناً أياً كان عمله أو وظيفته لأنه وثني أو مسلم أو يهودي”. وأثرت أفكار (جان لوك) في تفجير الثورة الفرنسية و”إعلان حقوق الإنسان”؛ بل وإلى أمريكا الجنوبية فقد تأثر (سيمون بوليفار) بفكره، وحرر خمس دول من الاستعمار الإسباني؛ هي كولومبيا وفنزويلا والأكوادور وبوليفيا وبيرو بين عامي 1819 و1825 م. وهكذا ترك لوك آثاره على جو التنوير والتسامح الديني في أوروبا؛ فأخرج (إيمانويل كانط) كتابه (نحو السلام الدائم) وظهر (ايرازموس) بالنزعة الإنسانية من روتردام. إن أكبر نكبة تحيق بالفكر هي التشدد؛ لأنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على التوازن؛ فالكون ركب على العدل الذي هو قمة التوازن؛ فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم، يقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض. وزيادة النحاس في الجسم يقود إلى تشمع الكبد بمرض ويلسون. والكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد، ولكنها قاتلة إذا نزلت من السماء على شكل صاعقة. وأفضل حالة للطاقة هي الاعتدال، والماء جيد إذا حبس خلف السد، وهو مدمر إذا جاء على شكل الطوفان. وعضلات الجسم فسيولوجياً هي في حالة توتر بين الانقباض والانبساط. ولا يولد الطفل من رحم أمه بدون التقلص والارتخاء. والخوف من العقارب والمخابرات ضروري للحفاظ على الحياة، ولكن زيادتها تدفع صاحبها إلى الرهاب والجنون. والفلسفة الصينية تقوم على مبدأ تبادل السلبية والإيجابية، ويسمونها الين واليانغ. وأفضل شيء في المجتمع هو العدل. وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية بتوازن الغرائز. والوسط الذهبي لكل فضيلة هو وسط بين رذيلتين؛ فالشجاعة وسط بين الخوف والتهور, والكرم رائع إذا جاء بين حدي البخل والإسراف. ومبدأ الثنائية خطأ فليست الأمور أسود أو أبيض، ومنها تعاملنا مع إسرائيل بين حدي الاستحالة والسهولة؛ فإما أنها دويلة العصابات أو أنها التنين النووي؟ ولا يخرج (التدين) عن هذا القانون، والتشدد هو ضد قوانين الحياة، ويدمر نفسه ومن حوله. والفكر الإسلامي المعاصر ابتلي بهذه الوباء؛ فهو ينتشر ويضرب الأدمغة مثل الحمى السحائية. والتدين يشبه الملح في الطعام، وبدون التدين في الحياة تنقلب الحياة إلى عبث لا معنى لها، وبقدر حاجة البدن الضرورية للملح بقدر تسممه إذا زادت الجرعة, فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة أعطى للحياة معنى، ونشر الرحمة والحب والسلام, وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب لا يرحم. وهذا كان مغزى رسالة لوك في التسامح الديني.