عمر عبد الغني الهمداني في أحد كافيهات نيويورك، يعمل اليوم رجلٌ كان يومًا قاضيًا ، وكان نائبًا، وكان صوتًا مرتفعًا في وجه الظلم والفساد. يعمل بيده، لا بخطبه. يبحث عن بقية حياة، لا عن صفقة، ولا عن امتياز، ولا عن راتب صمت. العمل ليس عيبًا ، كلنا نبحث عن عمل بلا شبهة. العيب كل العيب في أن تُنهب الأوطان، وتُسرق الثروات، وتُختصر الدولة في أشخاص، والكرامة في حزب، بينما يُترك رجالٌ عظماء بحجم أحمد سيف حاشد ليواجهوا مصيرهم وحدهم. العيب ليس أن يعمل نائب سابق في كافيه، العيب أن يعمل الفساد حاكمًا، وأن يعمل الانتهازيون زعماء، وأن يعمل القتلة خطباء وطن. هذا الرجل لم يُنفَ بقرار، بل نُفي بمنظومة. لم يُقصَ بمرسوم، بل أُخرج من المشهد لأن صوته لم يُشترَ، ولم يُدجَّن، ولم يُعاد تدويره. كان يستطيع—كما فعل غيره—أن: يبيع الموقف باسم "المرحلة". يبرر الجريمة باسم "الضرورة". يتاجر بالضحايا باسم "الدولة". لكنه اختار الطريق الأصعب: أن يبقى نظيفًا... ولو كان الثمن وحيدًا. في وطنٍ وزمن ٍ صار فيهما المنصب مكافأة للانحناء، والثروة تعويضًا عن الخيانة، أصرّ أحمد سيف حاشد أن يخسر كل شيء إلا نفسه. وحين نراه اليوم يعمل في كافيه، لا نرى سقوط رجل عظيم ، بل نرى سقوط أنظمة كاملة عجزت عن أن تحتفظ بواحدٍ شريف. فحاشد لم يكن مجرد نائب، بل كان ظاهرة حقوقية وصوتاً لا يهدأ تحت قبة البرلمان وفي الساحات. اختياره للرحيل والعمل بكرامته بعيداً عن أموال "اللجنة الخاصة" أو عطايا "التمكين" هو الدرس الأخير الذي يقدمه لهذا الجيل. رسالتنا للقاضي النبيل أحمد سيف حاشد : قد لا تعرفنا، لكننا نعرفك. نعرفك يوم اخترت أن تكون نائبًا بلا قطيع، وصوتًا بلا سقف، وموقفًا بلا ثمن. نعرفك يوم قلت "لا" حين كانت "نعم" أقصر طريق للسلامة، وأكثرها ازدحامًا. اليوم، وأنت تعمل بيدك في آخر العمر، ولما تتعافى بعد من المرض والألم، نقول لك بوضوح لا لبس فيه: لم تخسر شيئًا. الذين باعوا مواقفهم خسروا أنفسهم. الذين راكموا الثروة خسروا أسماءهم. الذين جلسوا على الكراسي رغم أوجاعنا، خسروا احترام التاريخ. أنت، وحدك، خرجت خفيفًا لأنك لم تحمل عارًا، ولم تسكت عن فساد، ولم تساوم على دم، ولم تقايض بأوجاع الناس. لو كان لهذا الوطن ميزان عدل، لكان مكانك في ضمير الدولة، لا في كافيه غريب. لكن يكفيك—ويكفينا—أنك في خاتمة العمر لم تُفرّط بمنجزات أوله، ولم تهدم ما بنيت، ولم تنقض عهدك مع نفسك. نحن لا نشفق عليك، وإن كنا نتوجع، نحن نحترمك. ونحن لا نرثي حالك، نحن نُدين حال وطن لم يعرف كيف يحتفظ برجاله. سلامٌ عليك وأنت تعمل... وسلامٌ على كل يدٍ يمنية آثرت كفاف يومها بكرامة على بذخٍ مغموسٍ بالذل. سلامٌ عليك، وسلامٌ على كل موقف لم يُبع، وعلى كل يدٍ بقيت نظيفة ولو لم تمسك سوى فنجان قهوة. نعم يا عزيزي! خرجتَ تعملُ حين الآخرون هُنَا لا يعملون سوى بالإتّجار بِنَا من قُوتنا من دمانا من مواجعنا يبنون من بُؤْسنا الشركاتِ والمُدُنَا يستثمرون بآلام الشعوب فهمْ لا أنتَ أعداؤُنا الأنذالُ والجُبَنَا