لم أجد فيما نشره الجنرال (ويكيليكس) من وثائق ما يثير فضولي، ولم أتفاجأ بقيام الديبلوماسية الأمريكية بنشر ملابسها الداخلية أمام الملأ، فالسياسة الأمريكية متأثرة كثيراً بالصناعة الهوليودية، وغالباً ما تستلهم ثقافتها في صناعة الإثارة التي تستهدف ميول الجمهور الرخيص الذي يبحث عن أدوار خارقة يداوي بها عقدة العجز والفشل. فرغم أن السيد (ويكيليكس) نشر إلى حد الآن أكثر من 600 ألف وثيقة في الدفعة الأولى و250 ألف وثيقة في الدفعة الثانية، ومازال يعد بالمزيد, إلا أن الجمهور الرخيص الذي صفق له بحرارة فاته أن يطرح على نفسه سئوالين, الأول هو: كيف تسنى لضابط غير رفيع وضع يده على هذا الأرشيف المليوني الهائل من الوثائق المصنفة تحت بند (سرية للغاية) ولماذا لم يخضع لطائلة القانون الأمريكي الذي يجرّم بشده انتهاك خصوصيات الدولة؟!. أما السؤال الثاني فهو: لماذا كل ما نشره إلى حد الآن والذي يقارب المليون وثيقة يتعلق بالشأن العربي بالدرجة الأساس ولا يتعداه إلى الشأن الأوروبي إلا بحدود ضيقة غير حساسة، فيما استثنى نهائياً كواليس السياسة الأمريكية والاسرائيلية؟!. ربما أصبح العالم في أمس الحاجة للتحرر من قيود العاطفة التي تكبل عقول الكثيرين وتحجب الحقائق عن بصائرهم وتمنعهم من إدراك أنه لم يسبق للتاريخ السياسي لأي دولة نامية أو متخلفة أن سجل اختراقاً لأمنها القومي بالشاكلة التي مثلتها وثائق (ويكيليكس) فما بالكم حين يجري الحديث عن الدولة العظمى – الولاياتالمتحدة – التي اعتلت وزيرة خارجيتها منبر الديبلوماسية لتقنع العالم أن الملابس الداخلية للديبلوماسية الأمريكية أصبحت بيد رجل واحد، وتعتذر عن مشاهد العري السياسي التي سيراها سكان الأرض على شاشة موقع (ويكيليكس)!. ومع أننا ندرك أن الثقافة الأمريكية لا تفرض حظراً على اللجوء إلى المشاهد السياسية الإباحية التي تخدم المصالح العليا، إلا أن توجيهها بدرجة أساس إلى الشارع العربي لا يخلو من دهاء، وقراءات صائبة لدوائر الحرب النفسية، لأن هذا الشارع (المكبوت) والذي يفتقر إلى الحصانة الثقافية، وأمعنت بتشتيت صفوفه الوطنية والقومية حملات الغزو الفكري، والترويج السلبي للديمقراطية وممارساتها التحررية، ظل يمثل أوسع أسواق الصناعة الهوليودية السياسية وأكبر مستهلكي الأفلام السياسية الإباحية التي تنتهك شرفه الوطني، واستقراره الداخلي، وتغرقه بالأوهام والخيالات التي تجعله بمرور الوقت أسيراً لإملاءاتها، وأداة لهدم كيانه الوطني. نحن لا ندّعي زيف جميع الوثائق المنشورة على موقع (ويكيليكس) لكننا نشبهها بالصناعة السينمائية التي تقتطع لقطات، وتضيف أخرى، وتمزجها بحيل فنية لتخرجها فيلماً في سياق قصة معينة.. فكواليس السياسة حبلى بالأسرار والخصوصيات، ولكل مشهد منها ظرفه الزماني والمكاني ومقتضياته المرحلية، وسياقاته الجدلية، وإذا ما جردنا الحدث من جميع أطره وظروفه الآنية وتداعياته، فبلا شك أننا سوف نسيء فهمه، وربما تقودنا ردود أفعالنا إلى ما لا نرجوه، ولا تحمد عقباه.. وهذا هو بالضبط ما تريده الدوائر الأمريكية من نشر الملابس الداخلية لدبلوماسيتها، أملاً في إثارة شهوة الجمهور الرخيص البليد الذي يسيل لعابه، وتتفجر غرائزه لمشاهد السقوط الأخلاقي السياسي التي ينتجها الجنرال (ويكيليكس) في أقبيته المظلمة. ولعل المتأمل في جميع القضايا التي تداولها الإعلام نقلاً عن تلك الوثائق سيقف عند حقيقة أنها موجهة بعناية فائقة لتغذية مسائل جدلية قائمة على أرض الواقع، أو موضع حساسيات خاصة بين بعض الحكومات، وجميعها من شأنها تعميق الخلافات وتفجير الفتن، وجر المنطقة العربية إلى مستنقعات الفوضى الخلاقة ومشاريع الشرق الأوسط الكبير. من المفارقات اليمنية أن جميع القوى السياسية التي ترفع ألوية معاداة أمريكا، وتقرع الطبول ضد التعاون الرسمي معها هي نفسها التي (تبترع) على (طاسة) الجنرال (ويكيليكس) وتعلن قداستها وتشهد الله على (شرف) و(طهارة) الملابس الداخلية للديبلوماسية الأمريكية.