أدركُ أن المعارضة «كل المعارضة وليس اللقاء المشترك وحده » تعمل في ظروف صعبة وواقع أصعب وذلك يعود بأسبابه إلى ظروف ذاتية تتعلق بالمعارضة وأدائها وأسباب موضوعية ترتبط بالواقع المعيش.. هذا الواقع الذي لا تشكّله أو ترسمه السياسة وحدها بل الثقافة والاقتصاد والاجتماع ... إلى آخر هذه المفردات. لكن ينبغي أن نكون موضوعيين وننقد أنفسنا قبل أن ننتقد الآخرين، فالمعركة الأولى تبدأ مع الذات في محاولة لقهر الازدواجية ثم تلازمها المعركة الثانية مع الآخرين .. فالممارسة هي ثمرة الفكر بعد تلقيحها بالواقع المعيش .. وليست مهمة السياسي تغيير الواقع فقط وإنما محاولة فهمه وتفسيره. كل وطني يطمع أن يرى بلاده أقل بؤساً مما هي عليه .. وكل إنسان يريد أن يخلّف لابنه واقعاً أفضل من ذلك الذي خلَّفه له أبوه. لكن المأساة هي مع أولئك الذين لفظتهم القلوب وهم لا يزالون ينامون على وسائد أمجادهم الموهومة ويتابعون صراخهم نحن الأعظم. إن معظم السياسيين في بلادنا لا يمتلكون القدرة على سد الفجوة بين صدق الإنسان الداخلي وبين سلوكه الخارجي.. القدرة على تحقيق التطابق بين ما يحسون به ويبطنونه وبين ما يعلنونه ويعيشون من أجله .. وهم في غاية البعد عن الحياة الحقيقية للناس وهمومهم اليومية.. وعالمهم محصور في القشور ولا يجيدون سوى إحصاء النقود والتطلع إلى تحقيق منافعهم المادية الشخصية. قد تكون مطالب المعارضة عادلة ولكن من قال: إن رئيس الجمهورية بوسعه تحقيقها لمجرد إصدار قرار جمهوري؟ القضية أعمق من ذلك وأشد تعقيداً وجذورها ترجع لمئات من السنين وليس من المعقول أن نغسل من الدماغ الاجتماعي العدواني مئات السنين بالوسائل العادية أو بديمقراطية المجتمعات الاستهلاكية ولن ينجح الأمر بمجرد عقد مؤتمر صحفي ناجح أو رئيس جمهورية عادل. أعود كي أقول: إن مشكلة بلادنا لا تقف عند تخوم السياسة وحدها لكنها تتخطى ذلك إلى المسألة الثقافية والموروث الحضاري ومسائل الاقتصاد والاجتماع ... إلخ. تستطيع المعارضة أن تكون أكثر إقناعاً .. وأن تنجح إذا اشتغلت على قضايا التنمية والحقوق.. وانحازت إلى فهم مغاير لما تفهمه الآن فيما يتعلق بالأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب وكل الخارجين والمتمردين عن القانون .. وأن لا تحصر همها في قضية الانتخابات والتعديلات الدستورية !! وذلك وحده هو الذي سيخرجها من دائرة الاتهام السائد والانطباع المتكرر بأنها ليست إلا جسداً كبيراً وعقلاً صغيراً. إن التأكيد على المضي في الانتخابات في موعدها المحدد بمشاركة اللقاء المشترك أو عدم مشاركته يعتبر إنجازاً لاستحقاق دستوري وحلقة مهمة في حلقات تطوير النظام السياسي باعتباره مهمة جوهرية من مهام القوى السياسية بمختلف أطيافها .. فضلاً عن كونها – أي الانتخابات – ستمضي قدماً في إنجاز الكثير من الحقوق المتعلقة بحياة الناس .. مثل إطلاق العلاوات السنوية للموظفين .. وتنفيذ المرحلة الثالثة من الاستراتيجية الوطنية للمرتبات والأجور – بحسب توقعات مراقبين – وإنجاز الكثير من المشاريع المهمة والمرتبطة بحياة الناس وهمومهم اليومية. إن (الهبّة الشعبية) التي دعا إليها اللقاء المشترك لا تنم سوى عن ضيق أفق سياسي .. وحس وطني قاصر لا يضع مسألة السلم الاجتماعي والأمن والاستقرار في سلم أولوياته وأجندته السياسية .. فضلاً عن كونها تعبيراً صارخاً لمحاولة فرض إجباري لمسألة التوافق السياسي وتغليبها على ما أنتجته المؤسسات الدستورية. ليس غرضي النيل من أحد ولكنه ضجيج اللوم والعتاب ولفت الأنظار لفضح الخطاب المزدوج.