حين تصارع القذافي مع الإسلاميين في حرب الشوارع أطلق عليهم لقب “الزنادقة” وبين الحين والآخر نسمع هذا اللفظ يستعمل كسلاح بين الفرق المتصارعة، بما يحمل من ظلال سلبية مشوهة معتمة؛ زندقة وزنديق. وأنا شخصياً نالني شيء من هذه الألقاب؛ فيممت شطري إلى معاجم اللغة لأعرف المعنى؛ فوجدت مثلاً في كتاب (لسان العرب) لابن منظور الأفريقي، أن الكلمة في أصلها ليست عربية، بل معرّبة وأصلها فارسي، من كلمة (زَنْدِ كِرَايْ) وهو من يقول بدوام بقاء الدهر.. أما الزندقة فتعني الضيق، وفي التهذيب أن الزنديق من لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق. أما أحمد بن يحيى فاعتبر أن الكلمة ليست من كلام العرب، وإنما تقول زَنْدَق وزَنْدَقي إذا كان شديد البخل, فإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامة قالوا ملحد ودهري. حسناً إذن الزندقة والزنديق حسب ما تتناقله العامة ويطلقه من يريد تلطيخ سمعة أحد فيستخدم كلمة ليست (الملحد) والأخيرة موجودة في القرآن بمعنى الظلم, “ومن يرد فيه بإلحاد بظلم” من سورة الحج، بل كلمة زنديق بما تحمل من ظلال سوداء، أكثر من الإلحاد العقلاني بما تحمل من مسحة تردٍ أخلاقي لو جاز التعبير (كافر وفاسد أخلاقياً وإباحي) ولكن لماذا استخدام مثل هذه الألفاظ في الحرب العقائدية؟!. والجواب هو انقطاع الحوار والبحث العلمي وضرب من الجنون في عاصفة الصحراء. وفي الوقت الراهن يبدو أن بيننا وبين ولادة العقل مسافة جيدة، وهذه النزعة التدميرية هي بالأحرى عنوان للمرحلة التي يعيشها العقل العربي أو المسلم في قسم لا يستهان به، ولكن لا يعني أنه لا يوجد تيار تنويري يحاول الخروج من هذه الظلمات. ومن المهم أن نفهم أن مثل هذه المصطلحات ورواجها يؤشر على عصر مظلم ترويعي إرهابي، بحيث أن كل مثقف يضع يده على رأسه ولسانه مع أي تعبير، لا يمشي حسب مسطرة الفقهاء أو الديكتاتوريين المعششين في غابة العرب المخيفة. هنا يجعلني أنقل ثلاث نقولات عن إمام وفقيه وفيلسوف من عصور شتى؛ الأول الإمام علي كرّم الله وجهه في صراعه مع الخوارج، حين سئل عنهم: هل هم منافقون؟ فاعتبرهم ليسوا كذلك لأنهم يذكرون الله كثيراً, والمنافقون يذكرون الله قليلاً، كما لم يعتبرهم كافرين، كل ما في الأمر أنهم طلاب حق أخطأوا طريقهم في الوصول إلى الصواب!!. قال كرّم الله وجهه: ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه. وأما ابن تيمية فاعتبر المجتمع الراشد حين يسود مبدأ ذهبي بين العلماء فيخطّىء بعضهم بعضاً في الاجتهادات، أما أهل البدع فيكفر بعضهم بعضاً، وأنا اضيف أن أهل السياسة يخون بعضهم بعضاً. ونحن قد ابتلينا بالأمراض الثلاثة من التكفير والزندقة واستحلال الدم ومن نجح في انقلاب أصبح بطلاً قومياً، ومن فشل علقت مشنقته. أما الفيلسوف “برتراند راسل” فضرب مثلاً مضحكاً عن حمار له في الزريبة انحبس فيه والنار تلتهم الزريبة من حريق, قال: حاولنا بكل الوسائل إقناعه بالخروج فلم يستجب, فلم يكن بد من سحبه بالقوة العارية.. والبشر أحياناً يتصرفون على هذا النحو فلا يعرفون مصلحتهم. فهل نقول مع استفحال ظاهرة التكفير والاتهام بالزندقة ومرادفاتها: أننا أمام عصر جديد للخوارج دون اسم الخوارج. ذلك أن الخوارج هم منهج أكثر منهم أسماء مثل الأزارقة والأباضية وجماعة تندوف من صحراء الجزائر, حيث انزووا في النهاية في حواف صحارى العالم العربي.