مع تطور التقنيات الحديثة وظهور عوالم عديدة فيها هذا الكون المترامي الأطراف بكل مكوناته البشرية والمادية وما يحصل من تبدّل متسارع لا يعرف مداه، ظلّ المتغير يتنقل من مربع إلى آخر في عالم المعلومات ويسجل أرصدة كبيرة في عالم يعترف بالحقيقة المتلازمة مع الحدث. هذه النقلات السريعة لم تدخل بعد ذاكرتنا ونحن نتعايش معها دون إدراك أهميتها, وإن أثرت فإننا نتأثر بمجرد التأثر فقط, هذا الخليط العجيب في ذاكرتنا جعل الأهم في آخر سلّم الاهتمامات. هذا الأمر نلحظه في كل مكان خاصة فيما يتعلق بالجانب الخدمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي وأخيراً السياسي, حيث انعدام دور التوثيق العلمي في كل حياتنا المعيشية وكأننا على عداء مع الوثائق التي تؤرّخ لكل حياتنا وتجعلنا في صدام مع رحلة البحث عن مكامن الدقة، لا يمكن أن تمر مناسبة إلا وتظهر فجأة الذاكرة الشفاهية التي تؤرخ لتلك المناسبة دون ملامستها حقائق وأدلة دقيقة, وتضيع الحقائق في تلك اللحظة, أو أن نتتبع حياة شخصية اجتماعية أو علمية, حيث يسيطر على المتحدث هاجس التذكّر الشفاهي الذي لا يستند إلى الوقائع الحيّة كما حدث في أكثر من مناسبة عند إحياء ذكرى علم من الأعلام اليمنية، ونرى أو نسمع أو نشاهد التنقل غير المنهجي في تتبع سيرة تلك الشخصية. ولا يقتصر ذلك على هذا الأمر, بل تعدى ذلك إلى المؤسسات الأكاديمية التي يفترض أن تكون ذات نهج توثيقي أو علمي لجوانب التوثيق التي لابد أن ترصد لها الكثير من الإمكانيات لكي تكون السند المهم لذاكرة الوطن والأجيال القادمة، حيث نقرأ في أكثر من وسيلة عن تنظيم ندوة عن موضوع ما، حيث تقدم الأوراق العلمية والبحوث والدراسات عن ذلك الموضوع, وتتم النقاشات والمداولات في وأثناء الندوة أو الورشة, ولكن ما نشاهده أن كل ما جرى هو عبارة عن ندوة لمجرد الندوة, ولم تبرز فقط إلا التغطية الخبرية, وبعد ذلك تذهب الندوة وأوراقها وأبحاثها إلى سلة الإهمال، حيث قال لي أحد الباحثين إنه أراد أن يستفيد من أوراق ومناقشات ندوة شارك فيها أكاديميون عن موضوع اقتصادي, ولكن عندما ذهب إلى الجهة المنظمة لم يحصل على وثائق الندوة التي لم يمر على إقامتها غير العامين, حيث أجابوا له أن الندوة لم توثّق. تحسّر ذلك الأكاديمي القادم من الخارج وهو يرى هذا الإهمال المتعمّد من مؤسسة كان الجدير بها أن تكون الرائدة في مجال التوثيق والحفاظ على ذاكرة المجتمع, وأن تحافظ على كل ما يقع في يدها لمئات الأعوام. أبلغ بنا الإهمال والتغاضي عن تاريخنا ونحن لم نزل بعد “حفظة” لا غير في ظل ذلك الانفجار الهائل في عالم المعلومات, أم أننا نتلقى دون أن نحرك ساكناً في أمور هي الأجدر أن تكون في دائرة اهتمامنا؟!.. هذه الأسئلة بحاجة إلى الوقوف أمامها ونحن في هذا العصر الذي يتعاطى مع كل شيء بنفس اللحظة التي ولد فيها الحدث. هل سنقتنع أن الذاكرة الشفهية هي تاريخنا ولا يمكن الاستغناء عنها؟!.