هذه الأيام دائماً ما تعود بي الذاكرة إلى الوراء.. إلى سنوات سابقة عشناها في تعز بعناوين مدنية خالصة، لا أثر فيها مطلقاً ولا وجود للقبيلة وآثارها وسيطرة أجوائها على الحياة، كما هو الحال في محافظات أخرى.. أتذكر حينها كيف كان حمل السلاح منبوذاً من كل أبناء المحافظة، قبل أن يتحول اليوم إلى ظاهرة تسيّدت وطغت على طبيعة ومسار الحياة في تعز وغير تعز.. كنت وكواحد من أبناء هذه المحافظة أتباهى بما أسمعه وبما يقال وما يُكتب عن تعز الوعي، تعز الحضارة، تعز العلم والثقافة، تعز المحافظة اليمنية التي يُضرب بها المثل في المدنية، والتاريخ الحي النابض بقيم الولاء والانتماء وحب الوطن الذي لا يتزعزع أو ينكسر.. تلك تعز بالأمس.. أما اليوم فقد تغيرت كلياً بسبب محاولات البعض اجترار مساوئ القبيلة دون منافعها إلى تعز نقلاً من محافظات أخرى وفي إطار التقليد الأعمى لما يحدث في تلك المحافظات وما شهدته من نمو القبيلة وسيطرتها على حساب الدولة ومؤسساتها المدنية ومشروعها الحضاري.. كون الفكر القبلي لا يبني دولة أو يتحول إلى دولة على الإطلاق.. ورغم أن الماضي ذهب ولن يعود إلا أن الواقع السائد اليوم، وما تشهده تعز من أحداث مأساوية جعلت أنظار العالم كله تتجه نحوها هو من أعاد ذاكرتي للخلف وجعلني أستسلم للخيال والإبحار في سطور الأمس المنتهي هروباً من واقع لم أتقبله ولم أستصغ حروفه، أو أتكيف مع مشهده وصوره المعتمة والتي أراها حولي من كل اتجاه!.. هذا المشهد الغريب المسيطر اليوم على أجواء تعزالمدينة والمحافظة عموماً لم يدفعني لوحدي للهروب إلى الأمس واسترجاع تاريخ محفور في ذاكرة الأيام وذاكرة تعز.. بل دفع الكثير من أبناء تعز إلى التزام الصمت مما يجري ويحدث وما تشهده مدينتهم من أحداث مؤسفة وموجعة، وبالتالي الهروب إلى الخلف!.. كل الجوانب السلبية والظواهر الغريبة وغير المحببة نراها اليوم تسيطر على الجو العام في تعز وعلى طبيعة الحياة فيها، بل ونراها تكتب وتدون مستقبل هذه المدينة المسالمة المسكونة بعبق التاريخ، وتصبح مرهونة في يد من غيروا أحرفها وباعوا هدوءها وسكونها، وحبها وسلامها لصالح قلة رأت في القبيلة والسلاح وبيع الموت المجاني وسيلة لتحقيق التغيير المرتجى!.. مؤسف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ما تعيشه اليوم تعز..، مؤسف هذا الانهيار للمدنية والثقافة والوعي الذي نشاهده ونقرأه في دفتر القادم بكل ألم ووجع.. الصورة الواضحة التي نقرأها اليوم في تفاصيل ما يحدث تقول بأن هناك من يتجه صوب القضاء على المدنية واغتيال المشروع الحضاري لليمن الذي بدأت معالمه تبرز خلال السنوات القليلة الماضية.. وحتى تنجح الفكرة ويتحقق الهدف نراهم يبدأون من تعز لتاريخها المدني المعلوم والواضح وفكرها التنويري المتفتح الذي يرسي دعائم المدنية ويعزز توجهاتها..، وهو ما يجب تغيير خطه ومساره لصالح القبيلة وسيطرتها، ولصالح الفكر الماضوي الذي لا يؤمن بالحرية وحق الاختلاف، ولا يقبل التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد.. نحن جميعاً ندين ونرفض ما يحدث اليوم ليس في تعز وحسب بل في كل اليمن، فما يحدث فيه تدمير واضح لما تبقى من مدنية في فكر البعض..، وفيه إنهاء لكل الآمال التي ما زالت حية في أن التغيير المطالب به اليوم سيقود إلى الأفضل.. نحن بحاجة إلى مراجعة حقيقية وجادة لكل المواقف الحاصلة..، ما لم فإن القادم سيكون الأسوأ قولاً وحقيقة.. raselalqirshi@gmailÆcom