للمرة الرابعة أقولها وأنا التقيك على الدوام, فلم تبرح مخيلتي, ولم يحس قلمي أنك ذهبت, فأنا وهو متحفزان لأن نلقاك عند أول منعطف عند أول شارع, أنت موجود في كل مكان. صباح الأمل بغد أفضل, هاهو المشاغب الكبير والمناكف الذي ما بعده مناكف يرحل متحدياً كما هي عادته, لم يستأذن حتى ولا لوّح حتى في الرحيل, هكذا هو محمد علي الأكوع يأتي متى يشاء ويذهب حين يقرر الذهاب, وحدنا هنا وهناك وفي كل المحطات تركنا وذهب حيث لا قطار ولا حتى راحلة نذهب بها. لا بأس في هذا الصباح أن أعود إلى الطريق بين المستشفى الجمهوري في تعز أو رأس بتان كما كان يسميه التعزيون، حيث كان برللو الإيطالي يعالج الناس ما استطاع من التخلف, هناك على ذلك الطريق لمحته بقامته الطويلة وجسده النحيل, وبعد سنين كثيرة ظل بقامته المديدة هو هو لم يتغير إلا نضجاً وتعمقاً في هذه الحياة, قلت فيما بعد حين عرفته عن قرب: يا عم محمد تقارع الجميع, كيف تعيش با عتبار أن العيش كان يأتي من مصدر واحد, طولت السؤال: هل تعتمد على حبات الكدم من الجيش وبقايا الراتب, ضحك قال: رحم الله محمد النعمان, عاد ليسأل: وأنت ما دخلك تسأل؟ قلت: سأترك الثورة, عاد ليقول: وين عتسير؟؟, عتموت جوع!!, النعمان نصحني: إذا أردت أن تخاصم الناس فليكن لديك رزق إضافي, ترك لي أبي (توثره) قالها على طريقة أهل صنعاء التي أحب وأعشق, توثره قديمة في البونية رممتها وفتحت دكانين أو ثلاثة - لم أعد أذكر- وعشت منها, والسيارة لا أريد سيارة فمثلما رأيتني طالعاً نازلاً في طريق المستشفى أنا هنا كذلك, لازلت أناشد روحه أن تطل علينا ذات صباح ويقول لنا أين هي درره؟, كتبت ذات عمود أناشده وقد عنونته (يا عم محمد) قلت هذا الرجل ينثر درره في كل مكان لماذا لا يودعها ضفتي كتاب, قارىء حصيف كتب لي فيما بعد وقد توقفت عن الكتابة لشهر رمضان وقلت لكي أقيم نفسي, سبقني ذلك القارىء الذي لم يكتب اسمه: أنا سأقيمك فعمود يا عم محمد لن أنساه ما حييت, كتب لي رسالة: أيها الولد العزيز أدع الله أن يخرج كتاب لي أعده الآن أو أكاد أنتهي منه أن يخرج صباحاً وأموت ظهراً, قلت: لماذا؟ قال: لأنه سيفتح عليّ أبواب جهنم, لا أدري هل صدر صباح يوم رحيله؟, وقد استفزني في لحظة أخرى لأكتب ما كتبت حين دخل وكنت أمام نائب وزير الإعلام حينها عبدالرحمن الأكوع وهناك يجلس العظيم عمر الجاوي رحمه الله, أنا متهيب أن أتكلم مع الجاوي وهو دخل بيده ورقة كالعادة في هذا الجيب حكاية وفي ذلك أخرى وكيس يمتلىء بالذكريات وفم ينثرها ولا تدري ماذا تفعل تجاه السيل الهادر من تاريخ يذرذره في كل مكان يحل فيه, وحيث تلتقيه تجد جديداً من اللقية إلى النعمان, ناولني: اقرأ يابن عمي قاسم يقولها بعض الأحيان بالتعزي وأخرى بصنعانيته المحببة لا فرق, قرأت عن الغادر ومحمد بن الحسين وحديثهما في عيبان أيام آخر الهجمات على صنعاء, عن الوصول إلى قصر الوصول، القصر الجمهوري الآن وقول الغادر: والله ما تشموه, قرأت لم أعلق, قال أمراً: اعطها لعمك عمر, قرأ الجاوي, ولم أسمع إلا رنة طريقة الجاوي في الحديث على طريقة العدنيين: بطل يا أكوع, رد عليه: والله يا عمر لو تصيح لا يوم القيامة هذه هي الحقيقة, ناولها لعبدالرحمن الأكوع الذي لم يعلق مهابة واحتراماً, أنا ظللت ساكتاً أراقب كان لا بد من ذلك, كان شجاعاً ولا بأس أن أذكر مرة أخرى ما ذهبت إليه من أجله, فقد سألت ذات مرة أحد الكبار هكذا افترضت أن يكون: لماذا ينسى عبدالغني مطهر هكذا؟ قال: لأنو سرق ذهب بيت الإمام, قلت: لن أشطح يا ...... فقط أعرف أن من يصرف ما في بيته لا يأخذ ما لدى الجيران, فبقيت الغصة في نفسي وذهبت إليه في المنزل, قلت يا عم محمد للتاريخ لقد سألت فلاناً عن عبدالغني فقال إنه سرق ذهب بيت الإمام, انتفض: من؟ قلت: لا ضرورة لذكر الاسم, قال قول (للضفعة ابن الضفعة) وليكن من يكون وللتاريخ يا ابني أقول إنه إذا كان هناك من سرق ذهب بيت الإمام فهو أنا, لقد كنت رئيس لجنة جرد القصور أما عبدالغني فقد قدم للوطن كل ما عنده ومات فقيراً, أحسست بنهر من الماء الزلال يتدفق على رأسي وجسدي ارتياحاً وإكباراً لهذا الرجل ولما قلت اكتب يا عم محمد هذا وغيره في كتاب, قال بطريقته: قد ما رضيت تنشر مقال عادك عتنشر كتب, سألت نفسي : كيف يظل هذا الرجل في هذا الزمن وحيداً يحمل راية الوفاء وشجاعة القول والقدرة على إنصاف الآخرين وهي مهمة عظيمة لو تعلمون لا يقدر عليها سوى الكبار, كنت كلما حنبت في سؤال ذهبت, حدثني كثيراً كثيراً عن أشياء كثيرة, وعن الشيخ أمين عبدالواسع نعمان كنت لا تستطيع إيقاف تدفقه حين يتحدث عنه, أما عن الأغابرة والأعروق فيا ويلك لو تفاتحه في الحديث عنهم فمن عند الشيخ عبد الرحمن قاسم إلى عبد القادر الأغبري إلى عبدالله عبدالإله إلى حميد علي في الاحكوم , وأسماء كثيرة ترد في حديثه, أشعر بغصة وأي غصة أن الأجيال الشابة لن تعرفهم لأنهم ذهبوا مع الأكوع ولن يحدثنا أحد بعده عنهم. من هنا لا أدري أي أذن أو أذان سيصلها صوتي المتواضع, لكنني سأستأذنكم لاصرخ من هنا ولو أن صوتي سيذهب في البرية: كيف يظل أمثال الأكوع في ذاكرة الناس؟, فقد أنسونا للتو كل عظيم, من يتتبع آثار هؤلاء ويقدمهم وتاريخ هذه البلاد إلى الأجيال؟ كثيرون ذهبوا وآخرون يلحقون ونحن نلاحق لقمة العيش التي شغلنا بها إلى درجة نسيان كل شيء!!, ماذا نقول لأبنائنا؟ كيف نستعيد أنفسنا؟ كيف نرى منتدى باسم محمد علي الأكوع وآخر باسم القاضي اسماعيل وآخر باسم الأكوع الكبير؟ من يحقق لنا هذه الأمنية؟ من يعيد لنا الأمل في أن غدنا سيكون أفضل من حاضرنا, رحم الله العم محمد. [email protected]