عندما يرحل كاتبك المفضل, تكتشف أن الحب من طرف واحد مُر, ويترك فراغاً فادحاً.. وعندما يودعنا كاتب بحجم “جلال عامر”, تكون الفداحة أعظم؛ لأن الذي فارق حياتك كاتب لم يربطك به حب من طرف واحد, بل من مختلف الأطراف والاتجاهات. . جلال, كان يحب قراءة أكثر مما يحبوه، كان يجهد قلبه يومياً, وهو يداوي جروح مصر, حتى سقط مغشياً عليه, ب «جلطة», عندما كان يشارك في مظاهرات منددة بالمجلس العسكري. لا يعرف كثير من اليمنيين من هو “جلال عامر”, وسيقولون: لماذا أبكي كاتباً مصرياً, وهناك كثير من المبكيات في بلادي, هي الأولى بالالتفات لها. جلال عامر, ليس مجرد كاتب ساخر, أو صحافي مصري, والخسارة التي تركها رحيله لا تتعلق بالصحافة المصرية والعربية فحسب, بل بالنضال العربي من أجل الحرية, ودحر الاستبداد. في الجيش, كان بطلاً , ثورة 23 يوليو تشهد له بذلك, وفي الصحافة, كاتباً ساخراً وذكياً, حوّل المآسي والمحن إلى نكت يتداولها الناس بهواتفهم, وفي النضال, يتقدم صفوف المتظاهرين, رغم أن سنه تجاوز الستين. ولأنه جلال عامر, كان موقع صحيفة “المصري اليوم” وجهتي الأولى عند فتح جهاز الكمبيوتر, قبل بريدي الإلكتروني, في غالب الأيام، عندما تقرأ عموده اليومي “تخاريف”, تدرك ماذا يعني أن يكون الكاتب, خريج الكلية الحربية، لا يكتب بقلم, بل يطلق صواريخ مميتة.. في الشهر الماضي, زرت مصر, وكنت حريصاً على شراء النسخة الورقية من “المصري اليوم”, لأعرف أي المنصات يتربع هذا الكاتب القناص, فوجدته في صفحة رأي, منتصف العدد، واكتشفت أن الكاتب بمقدوره أن يتربع على قلوب الناس, حتى وإن كان ينشر في صفحات القراء, وليس الصفحة الأخيرة, الأهم أن يكون صادقاً, ونقياً, وصاحب قلب شفاف مثل جلال عامر. عندما كنت أقرأ لجلال, لم أشعر أبداً أنني أمام كاتب مصري, يتألم لهموم 80 مليون مصري, ولكنه يصرخ لوجع الوطن العربي ككل، مثلما كانت مصر حاضرة في قلبه, كانت اليمن تحضر أكثر مما تحضر في كتابات اليمني بلال فضل.. تقاسم السلطة, والرئيس التوافقي, وسرقة الثورة, التهام العسكر لثورة الشباب, التي كانت تتعب قلب جلال عامر في مصر, كانت هي نفس المواجع في اليمن.. عندما كتب جلال عامر “الرئيس التوافقي نعمة على الأحزاب نقمة على الشعب.. وإذا كان البرلمان قد أتى بإرادة الناس، فلماذا تريدون أن يأتي الرئيس بدعاء الوالدين”؟! كنت أقول: هذا يمني, هذا يكتب عنا, أكثر مما يكتبه اليمنيون. كان جلال عامر حكيماً أكثر منا, وهو يعرف المرشح التوافقى, بأنه رئيس محتمل يبحث عن «وظيفة» وليس عن «دور»، لذلك من الأفضل له أن يتقاضى «عرقه» وينصرف من المزاد.. والذين يتهموننا بأننا نمارس الوصاية على الشعب بالكلام يمارسون هم الوصاية عليه بالأفعال، ويختارون «الرئيس» للشعب بنفس طريقة اختيار الأهل «العريس» للبنت القاصر. لم يمت جلال عامر, وهو ينظّر للثورة من فنادق, بل شهق شهقته الأخيرة وهو يصرخ “المصريين بيضربوا بعض” عندما كان في مظاهرة, شهدت عراكاً بين “مع وضد” المجلس العسكري. وقبل يومين من رحيله, كان جلال يخرج لنا بعقد اجتماعي جديد, يسخر من المسخرة التوافقية التي يتم التدبير لها في مصر, وتم تدبيرها لليمن, يقول فيه: «نريد رئيساً لا يرفعون عنه الستار كأنه تمثال فرعوني أو يقصون أمامه الشريط كأنه محل تجارى، بل حاكم يحكم ويتحكم ويحاكم من أخطأ ويُحاكم إذا أخطأ».. رحم الله جلال عامر, القلب الكبير, الذي توقف وهو يتحمّل أوجاعنا, والقلم الصادق, الذي مسْرَحَ الأوجاع, ومسْخَرَ المهازل الديمقراطية الجديدة، يرحل الكبار في هذا العصر, ويتركوننا دُمى يعبث فيها الصغار. الصحافيون ليسوا ملائكة في حواره مع “الجمهورية”, قال محافظ تعز: إن الصحافيين ليسوا ملائكة, ومن الواجب نقدهم، فعلاً الصحافيون ليسوا ملائكة يا سيادة المحافظ, لكنهم “مغفّلون”, خاصة عندما يقدّمون حواراً لك بأنك “الرجل الذي التزم الحياد, مثل حكم دولي للقاء ديربي, وعُرفت بانحيازك لأبناء محافظتك”. أنت بالذات يا سيادة المحافظ, كنت محايداً أكثر من الحياد نفسه، حطمت الرقم القياسي في رصيد الحياديين والشرفاء, والفئة الصامتة, وجعلت من سبقك إلى الحياد, يقول: ليتني انحزت إلى طرف ما. أعرف أنك كنت تقرأ مقدمة الحوار وتضحك عالياً, وهذا دليل على أن الصحافيين ليسوا ملائكة, بل أشرار. إذا كان محافظ تعز «محايداً», فهذا يعني أن عبدالله قيران سيحصد الميدالية الفضية في الحياد, ومراد العوبلي سيفوز بجائزة المحايد المثالي. يبدو أننا سنسمع كثيراً في الأيام المقبلة عبارة حياد, وسنكتشف المزيد من الحياديين, وربما تفتتح الجامعات أقساماً جديدة للحياد, يُدرّس فيها أبرز الحياديين اليمنيين خلال العام 2011. هذا زمن الحياديين فعلاً. من جد وجد, ومن حايد حصد. [email protected]