حينما بدأ النظام بالتهاوي، كان على أيدي هذا الجيل الحر الغاضب وتحديداً حدث مع دوي أول صرخة في ساحات الحرية والتغيير، وتأسيس اول خيمة ثورية تتبنى سلوكاً ثورياً سلمياً. وهذا بالطبع مصطلح لم يشهده هذا البلد من قبل ليشعر اليمنيين ان من حقهم ان يغيروا ويعيشوا حياتهم بعيدا عن كل تلك المشاكل والقضايا؛ حيث جلبها لهم نظام مسطح متفرد وشعروا أنهم اقتربوا من تحقيق حلمهم، ولو لتوفير ابسط احتياجاتهم الأساسية وتغيير الشكل السائد في الحياة، ابتداءً من رأس الهرم السياسي في السلطة، وحتى آخر شخص فيها وهو ما يجري متابعته، وبأي طريقة تأتي بعيدا عن العنف والمصادمات. وعندما تم الاتفاق والتوقيع على المبادرة الناقصة أسميناها هكذا على ما اعتقد؛ لأنها لم تحتوِ على إجراءات محاكمة النظام وعناصره، ولم تتطرق لذلك إلا أنني غالبت دموعي مرات عدة، وأخبرت أكثر من صديق بأنها الفكاك من حالة تضيق وتشتد. وليس إعجابا بمحتواها، ولا تأييداً لهذا الطرف او ذاك، ولا حبا بهذا الحزب أو آخر، ولكن لأننا عشنا ليل المخاضات الطويلة كشباب مواطنين يمنيين أولاً, وثانياً كصحافيين مهنيين نبحث عن نقطة حرة ومساحة لرأي منصف، كانت مخاضات بطعم ومذاق أكثر مرارة، تمتد إلى عشرات السنين، تخلينا خلالها عن ابسط الأشياء المرغوبة او التي رسمناها صغارا او كباراً، وآلاف الآلاف من الأمنيات التي حلمنا في تحقيق ولو النزر اليسير منها وكلما توقعنا الحلول الممكنة، للخروج من مصنع الإحباط الكبير، اسمه (وطن)، لم تكن أكثر من مجرد تخيلات، أوهام، نصحو على اللاحلول التي أوشكت مرات ومرات أن توصلنا الى ضفاف الهلوسة، لنعود محملين بثقالات فارغة منهكة؛ تخلصنا إلى تبادل الأفكار، التي بدورها تلهمنا اليأس وهو نوع من العرض المنطقي المضاد والمتاح للخلاص والحرية و الأمل. ناجينا حلول السماء فشحت غيومها ورحلت، وتخيلنا مخارج من الأرض فآثرت بأقل من القليل من أنصاف الحلول، لننكفئ خلف كل حلم وخيال ب(الحمد لله على كل حال) وما نلبث ان نعاود في الوطن له ومن اجله. جربنا الوطن فكان الوطن هو الجحيم، في ظل العبث السائد وجربنا الغربة فكانت الغربة الجحيم, من قبل ومن بعد؛ صرخنا بحق الديمقراطية والحزبية كمخرج جديد ووافد، ناشدنا بالكتابة وبالكلمات فكان اللون الواحد يميز كل الصفحات، زوروا الحبر، واستنسخوا الصحيفة والحزب، وحتى نموذج الديمقراطية؛ فصلوه على مقاسهم النظامي الهمجي لا شيء في الأفق سوى اللون الزيتي والعسس يحاصرك، ويضربون سياجهم في تفاصيل كل حلم جميل كان او قبيحاً, قبل ان تستيقظ او تنوي ان تنام. وقبل عام من الآن استعنا بصمتنا فخدعنا، لم يقف في صفنا كما نشاء, صرخ في أعماقنا واستلذ النوم, كان صمتا أيضا جبانا بما يكفي، ليس له قراره الأخير، وحين جربنا ان نستعين بالإخوة والأصدقاء، لم يكونوا أكثر من إخوة يوسف، وأصبحنا مؤخراً فريسة ألف ذئب وذئب.وذلك مالم نتواطأ معه، او بسببه مع صمتنا وعجزنا النشط. كنا ضحايا لواقعنا بالغ التعقيد، او كما وجدنا عليه آباءنا راضخين، مضينا في طريقهم الحر داخل المنازل فقط. أجبرتنا كل الطرقات والمسارات وفي كل الاتجاهات على (سيرتهم الشعبية البسيطة التي نعتز بها)؛ نلبس ثيابنا الرثة، نتداوى بأعشاب الجدات وتجبير الكسور بمواساتهن وأساليبهن العتيقة، أكلنا القمح المستورد والمحلي من شدة الفاقة، وقرأنا في الصفوف الأولى عن التربية الوطنية التي لا تحوي قصة واحدة عن (رئيس يدعى إبراهيم الحمدي) كانت كتباً مستنسخة من مناهج لا تعنينا بهكذا واقع، وحينما نهرب من تلك المناهج، نصطدم في واجهة قناة تلفزيونية رسمية رئاسية عسكرية نظامية واحدة تؤدي الغرض عنوانها (اليمن) نتحلق متسمرين أمامها لترتسم صورة تلك الدولة المتخيلة في أذهاننا، ونكتفي في نهاية المطاف كرواد من صنف واحد مقهور.. مسحوق بمشاهدة فيلم أجنبيا نكون قد هربنا به من سحنة الزعيم التي تترصدنا في الشارع والمدرسة والبيت، لا لنستمتع بمشاهد الفيلم، وغالبا لا نعي ما يدور, بل لننزوي معه من نهاراتنا العصيبة، وعبر مشاهدة بلدان آخر وفضاءاتها المشرعة، لننام بعدها وعلى أجفاننا مئات الأسئلة الجارحة لكل نواميس الكون،لماذا الشقاء مقدر علينا نحن اليمنيين؟, نجرب ان نصغي إلى الراديو او كما يحلو لبعض المناطق اليمنية تسميته بالمذكر ولا ادري لماذا؟ ب (الرادي). نستمع الى إذاعات موجهة بالبرامج المتخلفة، مشوشة تكافح فينا موروث “ ليلين وماركس، وعبد الناصر وفتاح، وسوكارنو وغيرهم من مشرعي وأبطال الثورات” لا ندري غالباً لماذا تختفي هذه الأسماء بأوصاف وألقاب أصحابها، مع التكريس لمنجزات شخص واحد وزعيم واحد وبطل واحد وقائد واحد.؟ التي شبعناها بمجرد الحديث عنها. يظل يسبح الببغاوات بها من العدم، وتسري في تفاصيل ومفاصل حياتنا، كشخص متفرد بكل مقاليد الماضي، والحاضر، وحتى كان يكون هو المستقبل, وذلك ما لم يجعلنا نفكر ولو بنية التغيير، وبالمناسبة تكريس الصورة السلبية (عبر كل المطابخ الإعلامية السلطوية الرسمية) لم تكن تعنينا كشعب ولا وطن, كان مصدرها الوحيد مكشوفاً،غير ان خوفنا يحاصرنا حتى ابعد فكرة داخلنا؛ بأن نكون أحرارا, وذلك مصدر أكثر من خوف حقيقي. [email protected]