عانى الزميل حمدي البكاري عديد مشقات غاية في الخطورة أثناء تغطيته الإخبارية لقناة الجزيرة كمراسل لها من مدينة تعز .. عاش وسط المعمعة سنة كاملة دون تخطيط أو علم مسبق أنه سيكون كذلك بحيث وجد نفسه في مرمى الأحزان تماماً كشاهد على أهوال رهيبة طالت الثوار هناك .. إلا انه في نفس الوقت ظل يلبي حسه الثوري العميق بالعيش وسط ذلك الزخم الثوري العارم الذي لايتكرر بسهولة كما لايمكنه أبدا أن يكون في اي مدينة يمنية اخرى غير تعز .. ولقد نجى صاحبنا اكثر من مرة من محاولات عفاريت علي عبد الله صالح لاغتياله, مستمراً في المرابطة داخل المدينة متنكراً أحياناً ومتشرداً احياناً اخرى ليفاجئ الجميع بقدرته المدهشة في تحقيق منجز مهني مشرف رغم كل المصاعب .. ظل حمدي محمياً فقط من قبل محبيه من الثوار والاصدقاء الذين شكلوا حول أيامه هناك سياجاً كبيراً من الشهامة والنبل ورفاقية النضال وهموم التعب المشترك، فيما العفاريت ظلت تترصده أولاً بأول وغايتها وأد صوته أو تصفية حسابهم بأي شكل من الاشكال المتاحة مع صحفي متميز ومبدئي لا يتزور على الإطلاق خصوصا في ظل التنكيل الكبير الذي تعرضت له الجزيرة بداية الثورة والتحريض الذي لم يهدأ ضد طاقمها .. إلا أنه حمدي البكاري الذي استمر ينجو وينجو بشكل مثير لفرحنا دائماً .. على أننا كنا نتابع أخباره بقلق بالغ وهو يكشف للعالم كل الحقائق الجمالية والقيمية لمدينة حالمة وغريبة كتعز ازدحم فيها القتلة وقطاع الأحلام على نحو أخرق وأحقد وأبشع ولا إنساني أبدا. *** لحمدي الذي يتورط أكثر في حبنا؛ مجمل امتناننا العميق والاستثنائي وقد غادر مدينته بابتسامة لا تنكسر بسهولة كما بذهن متجدد تكدس بالأحداث والتفاصيل والمواقف الفارقة سيظل يحملها معه طيلة حياته بالتأكيد .. وتالياً ماكتبه سريعاً لتعز على صفحته بالفيس بوك قبل ساعات قليلة من الآن بينما كان في طريقه لصنعاء بعد أن لاحت له إمكانية القليل من الأمان مكللاً بالمعنويات الثابتة طبعاً وبمشاعر تجربة منهمرة لاتموت خاض خلال ايامها الطوال اختباراً رهيباً في مهنيته وصبره وطاقته وعنفوانه وإنسانيته عموماً حتى انه انتصر بجدارة على كل الخسائر والفقدانات النفسية والمعنوية على الاقل في ظل الدمار اليومي والقتل اليومي والمجازفات الحلمية اليومية ومع ذلك فقد طالته تهم التخوين من قبل عديد مزايدين اشباه ثوار للأسف. *** “أغادرك وأنا مستريح البال على الاقل .. اتركك بعد مايزيد عن عام لم اختلس منه الا القليل للعيش خارجك اياما.. جئتك في مهمة لا تزيد عن تغطية احداث جمعة.. جمعتين .. لكنها كانت سنة بطولها وعرضها وتفاصيلك فيها .. اليوم يا تعز أغادرك مثقل القدمين متشبث بالبقاء لكنها الظروف التي تنتج غيرها للعودة إليك.. ولكنها قبلها أود ان أُقَبّل رأس كل ثائر في تعز .. الى كل الناس فيك التحية والعرفان.. الى من فتحوا لي ديارهم لأعيش فيها سرا بعيدا عن الملاحقات .. الى الاسر الشجاعة التي كانت تعرف خطر ذلك وراحت تؤمن لي البقاء حياً .. الى الشبان الشجعان من جلال سيف وعبدالقوي هايل ووالده وذاكر المحيا ونبيل غازي وعبدالرحيم السامعي ومعن القرشي وأيمن ياسين وماجد ومحمد وتوفيق وطه وطاهر .. الى رفاق رحلات الهرب من المدينة صوب الرمادة والجراحي والخوخة والمخا .. الى كل الاسماء التي وضعتني في عيونها عندما كانت عيون صالح محمرّة .. الى سائقي الدراجات النارية الذين كانوا ينقلونني من مكان لآخر .. الى كل الجنود المجهولين ابو أركان وابو بكر ورمزي ونائف وعبدالكريم والنمس الالكتروني الفتي احمد الذي لم يكمل الثانوية بعد لكنه يستطيع البث المباشر لفعالية على الهواء .. وبسام ممن ضخوا الصور, ضحوا بأرواحهم من اجل بث الفعاليات والصور عبر النت ...اليكم كلكم في تعز من ذكرت ومن لم اذكر, اشكركم لأنكم جعلتموني اعيش اهم فترة في حياتي المهنية القصيرة .. اليوم استطيع القول ايضا إن عام الثورة في تعز كان استثنائيا بامتياز.. لنقرأ جميعا الفاتحة على شهداء الثورة فهم تاج رؤسنا.. وحتماً لنا عودة حيث تعز فيها ولدنا وعشنا ومنها ابتسمنا للعالم وابتسم لنا .. وغنينا معًا نشيد الوطن .. الوطن كله الذي لانطلب منه غير الاعتذار عن تقصيرنا تجاهه”.