طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    4 إنذارات حمراء في السعودية بسبب الطقس وإعلان للأرصاد والدفاع المدني    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    الرقابة الحزبية العليا تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    الاحتلال يواصل توغله برفح وجباليا والمقاومة تكبده خسائر فادحة    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    صعقة كهربائية تنهي حياة عامل وسط اليمن.. ووساطات تفضي للتنازل عن قضيته    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    انهيار جنوني للريال اليمني وارتفاع خيالي لأسعار الدولار والريال السعودي وعمولة الحوالات من عدن إلى صنعاء    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962 الحلق24
نشر في الجمهورية يوم 24 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
إلا أنه شاعر، وشعره مما يروى لدى خاصته، ولأن الشعر دائماً تعبير عن قضية أو موقف، فإن أشعاره لم تحظ بالانتشار، كأشعار معاصريه الارياني، والموشكي، والحضراني، وجرادة، والبيحاني، دع عنك شاعري اليمن الكبيرين الزبيري والبردوني والقصيدة الوحيدة التي عرفها محبوه، وخصومه، وأعداؤه وأصدقاؤه، وطارت شهرتها عبر الآفاق العربية هي قصيدته في نقد الإجراءات الاشتراكية في مصر، وكانت سبباً في فصم عرى الاتحاد العربي سنة 0691م والتي مطلعها..
نصيحة تهدى إلى كل العرب
ذوي البطولات العظام والحسب
وهو من الزعماء الذين ولعوا بالخطابة، أجادوا فيها في ظروفهم،بصرف النظر عن مضامينها، ففي إحدى خطبه حول الراية قال:« لي الشرف بالوقوف تحت هذه الراية العظيمة يقصد علم الدولة مستظلاً بظلالها، قابضاً بعمودها، فهي راية التوحيد، راية النبوة، راية الخلافة، التي يجب الوقوف تحتها، وهي إمارة وجود الدولة وعلامة حياتها، وشعار قوتها، ورمز شرفها، وليست الراية هي هذه الرقعة التي تلعب بها الرياح، وتتزين بها الدور في المواسم والأفراح، بل هي الصحيفة التي خُطّ عليها شرف الأمة، وسطرت مفاخرها تاريخها، إن هذه الراية هي المفزع في السلم والحرب، والمثابة في الأمن والردع.....» وكان يرتجل خطبه، ويزينها بأبيات الشعر وآيات من الذكر الحكيم وأحاديث الرسول الكريم وبعض كلماته أصبحت مما يقال في مناسبات كثيرة، وخصوصاً في مواطن الرجولة، كقوله في خطبته عندما اضطربت الأحوال في بلاده،وكان بايطاليا، فعاد مسرعاً وأخمد الاضطرابات وقال كلمته المشهورة :« هذا السيف وهذا الفرس ومن كذب جرب».
والهالة التي طوقت شخصيته تعود إلى قوته، وجبروته، فهو جبار كما وصفه أحد المستشرقين، ومقاتل شرس، ينشر الرعب حيثما حل، ويرتبط وصوله إلى منطقة ما بالذعر العام، وهو يفرض شخصيته على مرؤوسيه، حتى درجة الخنوع التام والطاعة، وحتى والده الإمام يحيى بما له من شخصيه مهابة، كان يتحدث مع أحمد متخيراً ألفاظه، ويخاطبه بلهجة بعيدة عن الترفع.
وطباعه أشد ميولاً إلى القتالية، ويعتقد البعض أن السبب الأول: يعود إلى أنه وصل إلى الحكم على حد السيف، عام 8491م، والثاني: أنه كان يريد أن يستوفي شروط الإمامة، بأساطير بطولية، فهو لم يخض أي قتال من وراء الصفوف، كقادة الجيوش، إنما كانت القيادة عند تقدم الصفوف في المعركة، كتقليد يمني امتد إلى حروب الثورة، طبق هذا عملياً في معركة صعدة التي قادها ضد قبائل حاشدية متمردة، ومعركة حاشد ذاتها، والزرانيق،حتى أصبحت أساطير بطولته حديث النصير والعدو، وتوّج هذا بخروجه في مارس 5591م متحدياً جيشاً كاملاً حتى أسقط الانقلاب، بأسرع مما أسقط الانقلاب الدستوري قبله في مارس 8491م.
إن الأحداث المصيرية، تعني موانع وأحداثاً كبيرة وهائلة، لهذا فإن تجاوزها وتخطيها يضفي على من يقودها سلطة معنوية كبيرة، كما أن الاعتياد على قيادة معينة يتم في إطارها التغلب على أزمات كبيرة أو تجاوزها، ينمي الاعتقاد بفرادتها وتفوقها، وبأن القائد يعتمد على صفات وإمكانات غير عادية، تضفي عليه شرعية خاصة، وتؤدي بالتالي إلى شعور بالتبجيل والرهبة،والولاء الكبير، وهذا ماحدث مع الإمام أحمد.
وظاهرة تأليه الأفراد وتقديسهم ومايحدثونه من رهبة في نفوس البسطاء ظاهرة إنسانية، إنها لاتخص بلداً بعينه، أو بيئة بذاتها، كما أنها لاتعني البلدان الفقيرة حيث يعشعش الجهل والفقر والمرض، وحيث تتراجع قيم العقل أكثر لصالح قيم النقل، وتسود الخرافات، بل إن هذه الظاهرة تشمل الشعوب المتمدنة، فبعض هذه الشعوب اعتقدت بأن لملوكها قوى سحرية تشفي من بعض الأمراض، ومنها شعوب بريطانيا وفرنسا قديماً التي رأت في ملوكها سحراً يبرئ باللمس مرض الجلد، ولايزال الشعب الياباني حتى وقت قريب وما أدراك ما اليابان اليوم مازال يضفي على ملوكه هالة سحرية من الألوهية، ويخلع ملايين الألمان على قائدهم أكاليل التقديس وكذلك الحال في التبيت حالياً، وتتعدد هذه المظاهر المتعلقة بتقديس الحاكم وتتفاوت درجات التأثر بها عند الشعوب ولكنها واحدة في دلالاتها،على مافي نفوس الناس من طاعة وخضوع للقوى التي تحكمهم.
وكانت الأساطير من حول الإمام أحمد تنمو تدريجياً مع ازدياد مكانته السياسية، ومكانته كحاكم، وكرأس للدولة أو ممثلاً قوياً لها، وبعد كل انتصار، كانت هذه الأساطير مما يتدواله الناس في جلساتهم ومقايلهم فهو بقدرة قادر يستطيع مواجهة العفاريت في مخادعها، والتغلب عليها، كما فعل في موقفه مع ضريح الولي «ابن علوان» وازدادت هذه الأساطير حوله مع انتصاره في سنة 8491م، فقد تناول الناس أقاويل حول موكبه الذي دخل به إلى تعز، مجللاً بأكاليل النصر، فقالوا إنه كان ضمن موكب مقدمه أسراب من طيور لم تعهدها المدينة من قبل، اختفت بمجرد وصوله إلى المدينة.
كما نسبوا له صفات ليست فيه، كان هناك الكثير ممن اعتقدوا وعلى الأخص رجال القبائل، وبسطاء المدن أن الإمام مشمول بحماية الجن، وإنه إذا أقدم مجرم أو خائن للوطن والدين على رمي جلالته بالرصاص فإن ذلك الرصاص يحيد عن جسم الإمام، ويصطدم بأقرب جدار، ثم يعود ويصيب قلب الرامي ويقتله، ولكن هذا الرصاص اخترق جسمه في الحديدة، كما لم يرتد على مطلقيه،وكان الإمام يمنح طالبيه «حرزاً» يدعى حرز «الإحاطة» وهو ينفع كما هو مكتوب عليه أو فيه من أمور كثيرة، في زواج البنت البائر، ويجلب المحبة والقبول، ويسهل الارتزاق، «العمل» والبيع والشراء، وهو نافع كدواء للسع العقرب والثعبان وأنواع الهوام كافة، وفيه أيضاً العهود السليمانية السبعة، التي يقال إنها تحمي صاحبها، فلا يغلبه غالب، ولايدركه طالب، وهو نفسه كان يضع على رقبته بعض حروز عليها أرقام لامعنى لها، والاعتقاد السائد عند بعض الناس أن الإمام حاضر معهم أينما حلوا، فهو يراقبهم، ويعلم خباياهم، ولذلك نجدهم في مراسلاتهم الخاصة يبدؤون بالدعاء لجلالته أو ينتهون إليه، اعتقاداً أنه يمنحهم البركة حاضراً أو غائباً.
وأمثال أحمد يعيشون في بيوتهم حياة مختلفة عما يراه ويعتقده الناس، ففي الخفاء كانوا حريصين على الاستفادة من منجزات العلم، وحريصين على صحتهم، وكان الإمام يبعث بصورة دورية طائرة خاصة إلى «إريتريا» لتجلب له أخصائيين يقومون بفحصه وأسرته، وقد كانت صحته جيدة في بداية الخمسينات، ومع ذلك فهو يقوم بتوزيع التعاويذ والحروز تضليلاً لعقول هؤلاء.
وفي السنوات الأخيرة من عمره وعندما بدأت الأمراض تنخر جسمه القوي، كان بعض الإيطاليين يحقنونه بالمورفين، وشيئاً فشيئاً أصبح مدمناً لهذه السموم، ثم أصبح مستورداً لها وكان إذا تأخر عليه المورفين يقوم بأعمال شاذة وطائشة، حتى أنه في عام 6591م قتل إحدى جواريه، وهي تقدم له طعام العشاء، فحاول الأطباء منعه من المورفين، ثم حاولوا تقليل الحقن التي يتعاطاها، ولما فشلوا حاولوا خلط الحقن بسوائل أخرى مفيدة كالفيتامينات، وبسبب حالته هذه استطاعت بنت أخته وتدعى بلقيس، واسمها في الدواوين الحكومية «سيدي عبدالمحسن» أن تستورد المورفين الأصلي للإمام.
وكانت تقوم على حقنه، وتعود عليها الإمام فهي دائماً إلى جواره، تكتب الأوامر الملكية وكانت هذه الأوامر واجبة التنفيذ بأمر الإمام، وتحولت «سيدي عبدالمحسن» إلى شخصية مهمة في الدولة، وانتشر صيتها بين المسئولين، وأصبحوا يخافونها، فيتقربون إليها بالهدايا والهبات للحصول على مايطلبون من أوامر، كما كان الإمام مريضاً بالروماتيزم وقرحة الاثني عشر.
وكانت اللجنة التي قامت بجرد الممتلكات المصادرة بعد قيام الثورة، قد لاحظت وجود كميات كبيرة من المورفين في كل القصور الملكية، وقدرت قيمة المخدر الموجود في قصر تعز بنصف مليون جنيه استرليني، والواقع أن الإمام أحمد لم يكن يستعمل هذا المخدر فحسب، وإنما كان يجتهد في حمل ندمائه وأعضاء عائلته على استعماله، وقد وجدت صناديق كثيرة في أجنحة عديدة في قصره بتعز، وقد اندهش أعضاء اللجنة أمام الغرفة التي كان يستعمل فيها الإمام هذا المخدر، فهي مضاءة بالنيون الأخضر، وفيها كميات من أدوات اللعب، فهذا الرجل الذي عرف بالذكاء والدهاء كان يعود إلى الطفولة، ويغرق أحياناً فيها حتى الجنون، وهو في نفس الوقت الذي حرص كما كان يعتقد هو على المحافظة على الاستقلال الاقتصادي والسياسي لبلاده وهو القائل: إذا كان لابد من الاختيار بين الحرية في الفقر، والتبعية في الرفاهية، فأنا أختار الاستقلال.
وبسبب مرضه تعطلت أمور الدولة، وشئون الحكم، فسافر الإمام إلى روما للعلاج مصطحباً معه حريمه، لكنه سرعان ماعاد ليواجه أزمة جديدة تهدد حكمه، لكنه نجا منها، كما نجا من محاولة اغتياله في 1691م، بحركة لايقوم بها إلا رجل في صلابته، فبرغم إصابته بطلقات نارية اخترقت جسمه فقد تظاهر بالسقوط على الأرض ميتاً، فركله «اللقية» برجله ليتأكد من موته، ثم أطلق عليه رصاصة أخرى، لكن الإمام استطاع أن يتمالك نفسه، وأن يمثل الموت كما لو كان حقيقة، لكن الرصاصات التي اخترقته كانت قد كشفت كثيراً من أكاذبيه، فبدا للناس كإنسان عادي، وبدأت اضاليلة تتكشف للذين خدعهم طويلاً.
ودون أن يكون ذلك مناقضاً لأوصاف الإمام السابقة، فقد كان له محبوه، ومريدوه، فمساعدوه يكنون له الاعجاب الخالص، ولاشك أنه ينفذ إلى أعماق هؤلاء الذين يحيطون به، فلا تشير المصادر إلى حالة خيانة واحدة قد جرت من داخل قصره بالرغم من أنه تعرض لنحو 71 عملية اغتيال تقريباً، وهو رقم قياسي وربما نادر الحدوث، وكثيراً ما نجا من الموت بسبب إخلاص مساعديه، وحراسه والساهرين على أمنه وسلامته.
وإذا أردنا أن نختم هذه المحاولة عن الكشف عن شخصية الإمام أحمد فإننا لانجد غير كلمات «الشماحي» التي أعطى الإمام أحمد مايستحق فيها من ثناء، دون إسفاف في المدح فهو يقول:« والإمام أحمد من أولئك القادة القلائل الذي تلتقي في مقوماتهم وحولهم المتناقضات،فملامحه تكاد تتحدث عن ذلك اللقاء وعن شخصيته القوية، وما يمتاز به من أريحية، وشجاعة،وسرعة حركة، وفتك، وأثرة في السلطة والحكم، وذكاء يلمح الفرص فلا يدعها ينبت رشها حتى يخطفها بمغامرة القائد العسكري الواثق بقدرته على اقتناص العظائم،« وجاءت الأحداث وصقلت مواهب الخير والشر فيها.. فما تغلب على خطر شديد إلا فاجأه حادث أخطر، قل من يصمد لمواجهة أعاصيره، فضلاً عن مصارعة تلك الأعاصير، ثم التغلب عليها، وإحناء أعناقها لمشيئته».
3 ملامح سياسة الإمام أحمد :
بعد سقوط صنعاء في يد القبائل اليمنية، انتقل الإمام أحمد من مدينة «حجة» إلى مدينة «القاعدة» بين إب وتعز، وهو لم يدخل العاصمة كما ذكر بعض المؤرخين، لقد انتظرت صنعاء حتى عام 4591م ليدخلها الإمام أحمد، وهو يستقبل الملك سعود بن عبدالعزيز.
وفي القاعدة استقبل وفود المهنئين، والمبايعين، وجماعات قادة الحركة وأنصارها الذين قبضوا عليهم في المنطقة، وأرسلهم إلى معتقلات «حجة وتعز»،ثم عاد إلى تعز واتخذها مقراً لإقامته طيلة عهد حكمه، أعلنها العاصمة الثانية لليمن، ونقل إليها رجال السلك الدبلوماسي أو بعضهم، وقام بإصدار مرسوم يقضي بتعديل اسم المملكة اليمنية إلى «المملكة المتوكلية اليمنية» تخليداً لذكرى والده المتوكل على الله الإمام يحيى.
كان لديه أسباب لنقل العاصمة إلى تعز، ففي صنعاء قتل والده الإمام، وأيد علماؤها الإمام الجديد «ابن الوزير»، وبايعوه وهو نفسه حرض القبائل على نهبها واستباحتها، وهؤلاء تمادوا في النهب والسلب والقتل، ولم يقم بمنعهم،فتحول الفرح بالنصر لدى أغلبيتهم إلى حزن مرير، لكن من المؤكد أن هذه ليست أسباب وحيدة فتعز ثغر من ثغور اليمن الهامة، وعاصمة الجنوب الشافعي، وأقرب المدن اليمنية إلى المدينة، وهي قريبة إلى عدن، والمحميات، والصراع بين الإمام وبريطانيا حول المحميات، هو جوهر سياسته الخارجية، ووجوده هناك كان في تقدير متأكد على هذا المضمون والجوهر، ولربما رأى أن وجوده في تعز كمن يقوم بمسئولية الحارس الكبير على البلاد، ولكنه مع ذلك لاينسى أن يقول لزائريه دائماً: لكي تعرفوا اليمن عليكم بزيارة صنعاء.
ولربما شكل وجوده في تعز ضرراً بالعاصمة التقليدية لليمن، فقد حرمها من التمتع بمزايا عاصمة البلاد، وألحق بها خسائر تجارية، فكان ذلك واحداً من عوامل عدم تقبل الناس لسياسته وخاصة في صنعاء، التي كانت ترى أنها أحق بعناية الإمام قبل جميع المدن اليمنية الأخرى.
واتبع سياسة قاسية تجاه معارضيه، بعد أن تغلب عليهم، أودع معظمهم السجون الرهيبة في حجة،لقد اعدم منهم ثلاثة وثلاثين من زعماء الحركة، وكان فيهم أخوه إبراهيم، ومن لم يعدم كان ينتظر الشهادة، حتى ملأ قلوبهم رعباً، لقد خيل إليه أن الإمعان في القتل، والسجن كفيل بدرء الفتنة بعيداً عن العرش، ولم يكن يدرك أن تلك فقط الوسيلة الأسوأ والأبعد عن السلامة، كان الأحرار الأمل في العبور إلى العصر الحديث، لكن الأقدار عصفت بطموحاتهم عند أسوار صنعاء.
وبعد ذلك أخذ في تنظيم الجهاز الحكومي هذا إذا افترضنا أن ماقام به يرقى إلى مستوى التنظيم ومثلما عاقب خصومه بقسوة شديدة، كافأ مؤيديه بسخاء، فقد أصدر عدداً من المراسيم والبلاغات الملكية، ابتداء من أبريل «9491م»،قضى الأول منها بتشكيل حكومة جديدة،جعل أخاه سيف الإسلام الحسن رئيساً لها، ووزيراً للداخلية، وسيف الإسلام عبدالله وزيراً للخارجية، وهما أكثر إخوانه طموحاً وأكثرهما خبرة وثقافة، كما عين سيف الإسلام القاسم وزيراً للمواصلات، وسيف الإسلام إسماعيل وزيراً للمعارف،وسيف الإسلام يحيى للصحة، وعين ابنه محمد «البدر» أميراً للجيشين النظامي والدفاعي، وحسن علي إبراهيم وزيراً للدولة، كما شمل البلاغ تعيين محمد حسين الوادعي وكيلاً لوزارة العدل، ومحمد عبدالله العمري وكيلاً لوزارة الخارجية، وهذا الأخير هو الابن الأكبر لرئيس الوزراء الأسبق المرحوم عبدالله بن حسين العمري، الذي قتل مع الإمام يحيى في 71 فبراير 8491م،كما تضمنت المراسيم تكوين مجلس استشاري تكون مهمته تقديم النصح والارشاد للإمام، إذا طلب هذا النصح والإرشاد، ومعظم أعضاء المجلس كانوا من قضاء الزيدية والشافعية على السواء ويدخل في عضويته أعضاء مجلس الوزراء، ويرأس الإمام الحكومة والمجلس معاً.
وأعلن عن الهيئة الملكية الجديدة،في محاولة منه قطع الطريق أمام المعارضة، وهذه الهيئة كلفت بمهام ترتيب الجوانب الإدارية، لكي يضفي على حكومته طابع التنظيم الذي افتقدته في عهده كما في عهد والده، لكن هذه الإجراءات بالرغم مما قد تبدو عليه في الظاهر من رغبة في إصلاح الأمور، إلا أنها أكدت من جديد مسألتين غاية من الأهمية، الأولى: أن فكرة احتكار السلطة من قبل الإمام واخوته سيوف الإسلام، قد تم تأكيدها من جديد،والحكومة نموذج صارخ لهذا الاحتكار، أما المسألة الثانيةگ:فهي استبعاد الشوافع من المراكز ذات الأهمية، وربما كان ذلك بدافع أن الإمام كان قد لمس بنفسه مدى قرب هؤلاء من خصومه الأحرار، ولايمكن اعتبار وجود بعضهم في المجلس الاستشاري دليلاً على هذه المشاركة، لأن المجلس كان في واقعه شكلياً، ولم يجتمع أبداً فترة تكوينه.
كما أن هذه التغييرات في الواقع كانت محدودة وشكلية، فمجلس الوزراء ظل دون صلاحية، وظل كل وزير مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالإمام،لايقدم ولايؤخر إلا بإرادته،وقيل من باب التندر، أن وزارة الزراعة تسافر بكاملها على حمار مع وزيرها، كما تدخل في كل صغيرة وكبيرة، وتصدر شخصياً لتحمل المسئوليات من كل الأعمال فالموظفون المحتشدون بجانبه كانوا أقرب إلى صفة الخدم منهم إلى موظفي دولة، فهو الذي يأمر بتحريك سيارة بصحبة فلان إلى الحي الفلاني، وهو الذي يأمر بأن تصرف «بغلة» بسائسها لفلان ليتمكن بها من الوصول اليومي إلى مقر عمله، وإذا لم يشر الإمام إلى صرف كمية من البنزين أو العلف بحسب نوع الوسيلة، يعاود صاحب الشأن الاتصال به مرة أخرى بالأمر لما يلزم.
ومع ذلك فإنه قد أبدى مرونة واضحة مع الشوافع، فقد حرص على استقطابهم بصور شتى دون أن يمنحهم سلطات، وقد قيل إنه كان يؤدي صلاته معهم وفقاً لسنتهم الشافعية، تقرباً إليهم، ولمعرفته بمدى تأثير الدين على البسطاء من الناس،وكيف يمكن استخدامه لأغراض السياسة والحكم وهو مايفعله معظم حكام العرب، وإن مارسوا في حياتهم السياسية مالا صلة له بالشريعة الإسلامية.
وحاول تنفيذ عدد من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية،ويعتبر استخراج الملح من مناجمه في «الصليف» واحداً من مشروعاته في المرحلة التي سبقت انقلاب 5591م وربما هو المشروع الوحيد، الذي تم تمويله من قبل الرأس المال الوطني والحكومي، المتمثل في شخص الإمام، لكنه في نفس الوقت ضاعف من ممتلكاته الشخصية بالاستيلاء على أملاك آل الوزير، والأسر الغنية الأخرى التي وقفت إلى جانب الانقلاب ضد والده.
واهتم بالاحتفال بيوم النصر على الدستوريين، وعظم الاحتفال بهذا اليوم ليدخل الرهبة بصورة دورية على قلوب أعدائه، وفي مثل هذه المناسبة يتوافد الناس من القرى المحيطة رجالاً ونساء على تعز، وتعزف الموسيقى النحاسية قطعاً متنوعة من مارشات، وتجرى سباقات فروسية، وقبل ذلك تبدأ التنصيرات بإحراق الرماد المخلوط بالكيروسين فوق أسطح المنازل، فتتكون لوحة مسائية رائعة، يخلق الإعداد لها داخل البيوت بهجة عند الصغار والبكار، كما تنتشر أقواس النصر مضاءة بالكهرباء، وقد تسمع زغردة النساء، ويقوم الجنود في ثكناتهم بأداء رقصات البرع على قرص الطبول، ثم تنتهي الاحتفالات بمهرجان كبير تلقى فيه الأشعار وخطب المديح، كما هي عادة العرب.
والجديد في هذه الاحتفالات أن الإمام سمح بمشاهدة مباراة لكرة القدم، أما الأهم فإنه للمرة الأولى في 7591م أقيم عرض سينمائي بعد الاحتفالات، وكان ذلك حدثاً نوعياً.
كما رفع مرتبات الجيش بنسبة 05%، ولكن تلك الزيادة كانت أقل بكثير من الزيادة التي منحها عبدالله الوزير لضباط وجنود المؤسسة العسكرية عندما أصبح إماماً.
وهو لم يسامحهم على هذه المبالغ التي تقاضوها من خزينة الدولة، بل أخذ يقتطعها منهم شهرياً فيما عرف «بالبدل الدستوري» وكلف ابنه بزيارة الأولوية ليقدمه للناس، والمسئولين، ويهيئه للخلافة، كما يمنحه فرصة للاحتكاك واكتساب الخبرة.
وأكد من جديدموقفه المعادي للإصلاح، وجدد تمسكه بسياسة «الأبواب المغلقة» أمام كل ما هو أجنبي وجديد، ففي عام 3591م منع إدخال الراديو، وحرم الاستماع إليه في الأماكن العامة، وصادر بعض الأجهزة، وشدد الرقابة على استيرادها، ومع ذلك فإن تحريم الاستماع إلى الراديو لم يمنع من انتشاره، فالقاعدة تقول إن كل محروم مرغوب، وبقيت هذه السياسة قائمة، لكنه كان يسمح لبعض موظفيه وبترخيص مباشر منه باستيراد مثل هذه الأجهزة، وعلينا أن نتذكر أن تحريم الاستماع إلى الراديو قد ترافق مع قيام ثورة 2591 في مصر، وهي الثورة التي استقطبت اهتمام العرب أينما كانوا، وهي ثورة أطاحت بنظام ملكي.
لقد ارتاب الإمام أحمد كأبيه في التأثيرات الأجنبية، وفي الدوافع الذاتية للأجانب بما في ذلك العرب وخاصة هؤلاء الذين يحاولون الوصول إلى اليمن، إما بدافع التجارة أو بدافع المعرفة والاطلاع على ما يجري في هذا البلد المنعزل عن العالم، لذلك ظلت تحركات هؤلاء الأجانب مرصودة وروقبوا عن كثب.
وفيما بعد وجد نفسه في حاجة إلى الاستعانة بمزيد من الخبرات الفنية، كالأطباء والمهندسين، ذلك أن والده لم يسمح إلا بالعدد القليل من الكفاءات الفنية للمجيء والعيش في اليمن، وقد أراد أن يظهر بمظهر جديد، فكثر عدد الفنيين في اليمن، وازداد استخدام السيارات، وظهرت بعض الشركات في مجالات مختلفة، كما ازداد عدد الأجانب، وسمح لبعض الدول بإقامة- قنصليات فحسب- في اليمن، كان بعضها في العاصمة والأخرى في تعز، وظهرت في عهده المكتبات، وتعددت المدارس، وتوظفت أعداد جديدة من الشباب في المجال الحكومي، بل وارتفعت المرتبات وبهذا تخفف أثر القمع، وهذا يسمح بالقول بأن عهده أقل جموداً من عهد والده، ولكن المجتمع لم يكن لينتظر مفاجأة سياسية، كان الشعب على أية حال غير محب، ولا ميال للإمام أحمد.
في ديسمبر 3591م كان المشهد السياسي في البلاد يشير إلى بروز كتل بدأت ملامحها تتحدد بوضوح، وهذه الكتل بدأت تصطرع مع بعضها البعض للحصول على أكبر قدر من السلطة والامتيازات وكل كتلة تحاول التقرب إلى الإمام لكسب وده، ما عدا كتلة الأحرار التي لديها موقفها من النظام ككل.
هناك الحسن بن يحيى رئيس الوزراء ووزير الداخلية، والحسن يحظى بتأييد رجال الدين الزيديين الأكثر محافظة في المجتمع، وبعض رجال الأعمال، وبعض قادة المناطق، وبعض المشايخ، وتعود هذه المكانة التي يتمتع بها إلى أنه كان يتحكم في مقاليد السلطة في العاصمة صنعاء، والإمام يحترمه ويأخذ برأيه، وهو محافظ ولا يميل إلى أي تغيير في الوضع الحالي، ومع ذلك فهو يتمتع بسمعة طيبة خلافاً لبعض أمراء الأسرة الذين انغمسوا في الملاهي والملذات وهناك السيف عبدالله وهو يحظى بدعم أخيه العباس، الذي ينوب عن رئيس الوزراء في صنعاء، وهناك السيف إسماعيل هذا حاول كسب شيوخ القبائل إلى جانبه، بالمصاهرة، وبإظهار العطف وبإنجاز أعمالهم، ويبدو أن القاضي العمري كان من أنصار هذا الاتجاه، لكن علاقته ساءت في الشهور الأخيرة بالأمير عبدالله، الذي يصرح الإنجليز دائماً بأنه الرجل الأصلح للحكم في اليمن، وله مؤيدوه، السياغي أمير لواء صعده، ورئيس محكمة الاستئناف «يحيى محمد العباس»، وعلي عقبات مدير الشعبة العسكرية في الجيش وآخرون، وقد غدا فيما بعد صديقاً حميماً لقائد الجيش أحمد يحيى الثلايا لكن شخصية عبدالله غير محببة للناس، فهو حقود ومتردد.
بالإضافة إلى أجنحة الحكم، هناك الأحرار، الذين يعتقد أنهم يفكرون في انقلاب جديد، يطيح بالأمام أحمد، ومن بين هؤلاء عبدالله الحكيمي، وعبدالوهاب النعمان في عدن، وفي الداخل هناك شيوخ يمثلون اتجاه الأحرار أو يؤيدونهم، منهم الشيخ حسين بن ناصر الأحمر، وعبدالله الصوفي شيخ من مشايخ بكليل، والشيخ عبدالله علي مناع من مشايخ «سحارة» في لواء صعده، والمعروف بعلاقاته المتميزة بالملك عبدالعزيز آل سعود، والشيخ عبدالوالي الذهب، والشيخ المجحافي المكلف باستلام رهائن اليمن الأسفل في قاهرة تعز، بالإضافة إلى آخرين، أبرزهم محمد أحمد نعمان قائد جيش «المخا» في أثناء الحرب السعودية اليمنية، والذي رفض نزول الإيطاليين إلى البر، وهو قد وضع تحت المراقبة في صنعاء وهؤلاء الأحرار كرروا مطالبهم: دستور وحكومة شرعية، وتغيير في هيكلية النظام، وإبعاد أبناء الإمام عن أي سلطة.
وحسب هذا المصدر فإن الأحرار قد اتفقوا مع الثلايا علىالتخلص من الإمام،وأنهم فشوا وكاد أمرهم يفتضح، وأن الثلايا نفسه قد قام بتجربة أخرى للتخلص من الإمام ولم ينجح، كما لم يكشف، والحالة في صنعاء والمدن تشير إلى تحرك خفي للأحرار، وهو الأمر الذي اضطر السلطة إلى القيام بحملة اعتقالات، طالت بعض الموظفين وضباط وأصحاب مهن حرة.
4 الاتحاد اليمني:
لقد مضى بعض الوقت قبل أن تتمكن المعارضة من استيعاب ما حدث في عام 8491م، لقد فقدت المعارضة قيادات بارزة ومجربة، إما إعداماً أو سجناً أو تشريداً، لكن القضاء علىالحركة لم يكن ممكناً، مهما بلغت قسوة النظام، لأن للمعارضة أسباباً جوهرية تمثلت في أوضاع فاسدة، وطالما بقيت هذه الأسباب قائمة، فإن وجود المعارضة كان حتمياً.
وتدريجياً أخذت أصوات المعارضة تعود من جديد، وكان أكثرها قوة صوت الشيخ عبدالله علي الحكيمي، وهو شخصية إسلامية صوفية، صاحب جريدة «السلام»، ومؤسس الجمعية الإسلامية العلوية «ورئيس المركز الإسلامي الأعلى لمسلمي «كارديف» بالمملكة المتحدة، حيث يوجد أكثر تجمع للمهاجرين اليمنيين هناك، زار عدداً من البلدان لشرح القضية اليمنية بعد النكبة التي أصابت الجماعات المعارضة لآل حميد الدين، لكنه لوحق في بريطانيا فعاد إلى عدن- وكان من مواليدها- ليجد نفسه في السجن، وعندما أُطلق سراحه دعته المعارضة ليتزعم الاتحاد اليمني في 2591م فانتخب رئيساً له بالإجماع، ونجح الحكيمي في لم صفوف الأحرار، وتوحيد جهودهم نحو تحقيق المهمات الوطنية والتحررية.
كان قومي التوجه، ووطني المشاعر، وإسلامي الانتماء، كما تشير إلى ذلك مذكراته، وفي إحدى رسائله إلى زعماء الثورة المصرية في2591م، كشف الحكيمي عن الأوضاع المأساوية للشعب اليمني، ودافع بقوة عن الأحرار القابعين خلف القضبان، وحث قادة الثورة المصرية على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في اليمن، وتحرير أبنائه مما هم فيه من بؤس وتخلف، وكان أمله كبيراً في أن مصر «زعيمة الأمة العربية» ستتدخل لدى الإمام لما فيه الخير والسعادة لشعب اليمن، مهيباً بالصحافة والمنظمات الأهلية المصرية، والعربية، والإسلامية بالعمل على إطلاق السجناء، ورفع المظالم، وتحرير التجارة، والتحري فيما هو عليه الوضع في اليمن.
وكان الحكيمي على اتصال بقيادة المعارضة في السجون، وكذلك كان زميله عبدالله عبدالوهاب نعمان، صاحب جريدة «الفضول» التي تصدر بعدن، وهو الآخر كان صوتاً عالياً ضد ظلم الإمامة، وظف قلمه وصحيفته من أجل قضية الأحرار، ويبدو أن طموحات الحكيمي وصاحبه كانت كبيرة، وربما فكروا في القيام ببعض العمليات العسكرية ضد النظام، أو على الأقل أرادوا توجيه ضربات مؤلمة له هنا وهناك، تضعف من شوكته، وتكسر عنفوانه بعد نصره الكبير في 8491م، فقد تحدثت الأنباء عن أسلحة تم الكشف عنها قبل وصولها إلى الأحرار وكان مصدرها الحكيمي في عدن.
وتختلف المصادر فيما يتعلق بدور الحيكمي وعلاقته بالاتحاد اليمني، فبينما يؤكد محمد علي الأسودي، وبعض صحف عدن، أن الحكيكي كان أول رئيس منتخب للاتحاد اليمني، فإن الموسوعة اليمنية، التي شارك في إعدادها عدد غير قليل من المهتمين بشئون التاريخ اليمني، لا تعير اهتماماً كبيراً في هذه المسألة، لكنها تعترف له بمطالبه في لم صفوف اليمنيين في الداخل والخارج بعد الانقلاب الدستوري، كما تنوه بأفكاره الإصلاحية الوطنية الداعية إلى الحرية والوحدة والأخذ بأسباب التطور.
والحقيقة فإن إبراز دور شخص ما وتضخيمه أو التقليل من هذا الدور أو حتى نكرانه، إنما تعود في الحقيقة إلى قناعات الأفراد السياسية، وانتماءاتهم الجهوية، والذي عمل بعضهم على تدوين وقائع أحداث تلك المرحلة، وأياً تكن رؤية هذه المصادر لدور الحكيمي، فمن المؤكد أن الإمام أحمد كانت تقلقه تحركات الحكيمي- وكذلك كانت السلطات البريطانية التي اعتقلته أكثر من مرة- فأمر بهدم دوره في «الأحكوم»، وكذلك دور أنصاره من الأحرار عقاباً وردعاً لهم على أعمالهم وأنشطتهم المضادة للحكم، وكان يمكن أن يتطور نشاط الحكيمي وصحبه، وربما تعزز هذا النشاط بقوة لاحقاً إلا أن القدر تدخل ليموت الحكيمي فجأة في 4 أغسطس 4591م.
ومنذ تأسيس الاتحاد اليمني في عام 2591م وحتى 2691م، تعاقب على قيادته كل من عبدالقادر علوان، وأحمد عبدالرقيب حسان، ومحمد علي الأسودي، لكن تأثير القيادات التاريخية لحركة الأحرار علىالاتحاد والعمل الوطني المعارض، ظل قائماً وقوياً.
ففي 3591م سمحت حكومة ثورة يوليو للزبيري، بالانتقال من منفاه في باكستان إلى مصر، وقد أحسنت القاهرة صنعاً، إذ أتاحت له قيادة فرع الاتحاد في القاهرة، وأعادت الصلة والارتباط بين قيادات الحركة وأعضائها، كما منحته فرصة الحديث إلى الشعب اليمني عبر «صوت العرب» باعتبار ذلك واجباً قومياً ضمن رؤيتها لمتسقبل الأمة العربية.
وقد قام الزبيري بدور نشط، وتحولت القاهرة إلى ساحة للنضال من أجل اليمن المنتظر.
لقد مثل وجود الزبيري في القاهرة نقطة تحول هامة في مسار حركة المعارضة، مكن الاتحاد من قيادة معارضة قوية ضد النظام الإمامي، ولقيت افكاره رواجاً كبيراً بين الشباب، والغالبية العظمى من المهاجرين، وأعلن عن صياغة جديدة لأهداف المعارضة عرفت بمطالب الشعب، كما أعاد إصدار صحيفة «صوت اليمن» لكن صدورها لم يدم طويلاً.
لكن الخلاف ما لبث أن دب بين أعضاء الاتحاد في عدن، وبين فرعيه في عدن والقاهرة خاصة بعد أن لحق النعمان بزميله الزبيري في القاهرة، وظهرت على صفحات فتاة الجزيرة، خلافات الأعضاء بين مهاجم للنعمان، ومؤيد لقيادة الاتحاد في عدن.
وكان سبب الخلاف أموال الاتحاد، إذ حاول كل طرف أن يكون له منها النصيب الأوفر. فتراجع دوره السياسي شيئاً ما، وإن ظل قائماً حتى قيام الثورة في 2691م.
كما نشب الخلاف بين قيادة الاتحاد وحزب رابطة أبناء الجنوب، والمعروف أن المنظمات اليمنية السياسية والاجتماعية قد تأسست على أساس شطري فالاتحاد اليمني والذي اعتبر امتداداً للجمعية اليمنية الكبرى، لم يكن يضم في صفوفه أعضاء من الجنوب، وكذلك كانت رابطة أبناء الجنوب، كانت النزعات المحلية حينها قوية، وجوهر الخلاف بين الرابطة والاتحاد، أن الرابطة كانت ترفض فكرة الوحدة اليمنية، طالما بقي النظام الإمامي قائماً، وهي أقرب إلى الدعوة إلى قيام دولة- مستقلة في الجنوب، وهو ما تحقق فيما بعد على يد الجبهة القومية- مع إيمانها بالوحدة وقناعتها التي أعلنتها أكثر من مرة بالوحدة العربية، بل ودعت إلى الانظمام إلى الجمهورية العربية المتحدة، فيما اعتبر الاتحاد اليمني ذلك الموقف هروباً من الدعوة إلى وحدة تجمع شطري اليمن أولاً.
واتهم الرابطة بالانفصالية وجرت مساجلات كانت شاهدة على مرحلة من مراحل تبلور الوعي لقضية الوحدة اليمنية، وانتقالها من مرحلة إلى أخرى أبعد عمقاً وأكثر وضوحاً.
إلى جانب نشاطه السياسي اهتم الاتحاد اليمني بالنشاط التنويري، والتعليمي، وبعث إلى مصر وبعض الدول العربية أعداداً أخرى غير قليلة من الطلبة، كما عنى بتنظيم الهيئات السياسية في عدن، مع اشتداد الحركة المعادية للسيطرة الاستعمارية.
وقد تبدى هذا الدور في التوقيع على البيانات السياسية، واتخاذ مواقف من الانتخابات البلدية، وانتخابات المجلس التشريعي، كما قام بتمويل وطبع النشرات الساسية المناهضة للإمام، وتقديم الإعانات المالية لتنشيط المعارضة والدفاع عن ضحايا النضال المعادي للإمامة.
5 ولاية العهد:
كانت القاعدة المتبعة عند الزيدية حتى عهد الإمام يحيى «والد الإمام أحمد»، أن يجتمع أهل الحل والعقد عند وفاة الإمام، وعادة يُقصد بأهل الحل والعقد: علماء الدين، ورؤساء القبائل، وشيوخها، وكبار رجال الدولة، فيختارون سواه، لكن الإمام يحيى أبطل هذه القاعدة بعد أن صارت اليمن دولة ذات سيادة وأصبح بالإمكان استخذام إمكانات الدولة وتأثيرها لتغيير هذه القاعدة، لهذا سعى الإمام يحيى، فأخذ البيعة لابنه الأكبر «أحمد» وإن كان هذا لم يمتلك كامل شروط الإمامة المنصوص عليها في المذهب الزيدي، وتم إعلان المبايعة لأحمد في 7391م.
وعندما أصبح أحمد إماماً وملكاً، سار على نهج والده، ولكن بحذر شديد، وبتردد أحياناً ففي قرارة نفسه كان يريد الإمامة في ابنه، لكنه كان يخشى أن يحدث ذلك تصدعاً في العائلة المالكة، فيغضب بذلك أخوته الذين ساعدوه على الوصول إلى الإمامة.
كان يلحظ طموح أخيه الحسن، وكذلك عبدالله، ولكنه كان يستشعر خطر أخيه يحيى، أكثر منهم، لأن الأخير يعتبر نفسه شريكاً أساسياً في النصر، بعد أن نجح في إقناع المدفعيين في «قصر غمدان» أثناء حصار صنعاء، على إطلاق قذائف مدافعهم في اتجاه سكن عبدالله الوزير، فأسقط الانقلاب من داخله، وحتى قبل أن تتمكن القبائل المحتشدة حول صنعاء من دخولها فأعطاه هذا النجاح حق التطلع إلى الإمامة، والتوق إلى الحكم، بالإضافة إلى أنه كان يحظى باحترام سكان صنعاء، فهو الوحيد الذي حمى بعض البيوت من النهب، ورفض أن يكون كأخوته الذين اندفعوا للانتقام من العاصمة.
لكن موته المفاجئ في 1591 وضع حداً لهذا الطموح، وقد قيل إنه مات مسموماً ولم يكن لأحد مصلحة في موته، على هذا النحو غير الإمام أحمد.
كما ألقى بأخيه إسماعيل بالسجن بحجة تعاطي الخمور، وكان حينها يشغل منصب وزير المعارف، وقد أشيع أن إسماعيل قاد محاولة انقلابية لم تكتمل فصولها ضد أخيه الإمام أحمد، فاتهمه الإمام بالتآمر، ونحن نتذكر أن إسماعيل كان ممن تعاطفوا مع الأحرار وحاول الفرار إلى عدن، لينضم إلى شقيقه إبراهيم، لكن أمره قد كشف وقبض عليه.
وكان بعض من خاصة المخلصين وفي مقدمتهم نائب حجة السيد عبدالملك بن عبدالكريم ورئيس الاستئناف يحيى محمد عباس، قد قدروا أن إخلاصهم للإمام لن يكون كاملاً إلا إذا اتصل بإخلاصهم لخلفه، ومن هنا أشاروا على الإمام لإعلان ولاية العهد للبدر.
ودون أن يثير اخوته اتخذ الإمام خطوة مباشرة نحو تقديم ابنه لولاية العهد، وذلك بتعيينه عام 2591 أميراً للواء الحديدة، وفي الحديدة أخذت فكرة ولاية العهد تنمو وتزدهر كفكرة خصوصاً وأن الأمير البدر استطاع كسب ود الأحرار، وكان والده يدعمه، ويزيح من أمامه الصعوبات ليبدو للناس كقائد محتمل، وتدريجياً بدأ الإحساس لدى اخوة الإمام بنية الإمام في تعيين ابنه ولياً للعهد، وبدأ صراع خفي يحتدم بين الأمير البدر من ناحية وبين الإخوة سيوف الإسلام من ناحية أخرى وكان هؤلاء مكروهين بسبب سلوكياتهم اليومية وظلمهم.
وفي سجون الإمام الرهيبة كان قادة الأحرار يفكرون في وسيلة لفتح الحديث مع الإمام وفجأة جاء الحديث من الإمام نفسه، إذ أبرق إلى الأستاذ النعمان في السجن، يسأله عن مذكراته عن الحوادث أثناء الانقلاب عام 8491 وطلب أن يبعث بها، ليضيفها إلى مالديه من بيانات، ولم تكن البرقية قاسية ولا جافة، ولم تأت على صيغة الأمر، بل كانت طلباً لطيفاً هادئاً، وبدأ الأخذ والرد بين الإمام والنعمان، وتطور الحديث إلى موضوع مابعد المذكرات وهو العفو العام، وولاية العهد لابنه البدر.
وقد وعد النعمان والأحرار على مايبدو بمساندته إن هو قرر «الإمام» بتتويج ابنه ولياً للعهد.
كان اختيار البدر لولاية العهد، موضوعاً يحقق للأحرار أهدافاً كثيرة منها أولاً: الظهور بمظهر الحرص على استقرار الأمر في الأسرة نفسها، وأن تكون في أقرب الناس إليه وليس هناك من هو أقرب إليه من ابنه، ومنها ثانياً: استبعاد الأمراء اخوة الإمام ذوي العلاقات السيئة مع الأحرار ومنها ثالثاً: وهو عامل خارجي له أثره على المفاضلة بين البدر وأعمامه المتطلعين إلى الإمامة أو الذين يسعون للترشح، وذلك هو موقف كل واحد من هؤلاء من مصر بعد ثورة 32 يوليو 2591 ولقد كان رأي الأمراء الأعمام في الثورة سيئاً إلى أبعد الحدود، مبنياً على الخوف الشديد، وكانوا دائماً يرددون في مجالسهم ومن يتصل بهم كل مايمكن أن يسيء إلى سمعة مصر، وينفر الناس منها، بينما كان البدر على العكس منهم، فكان هذا عاملاً من عوامل توثيق صلته بالأحرار، وتفضيلهم له على من سواه وقد أثبتت الأيام للأحرار فيما بعد أن توجهات الناس ومشاعرهم يمكن أن تتغير بتغير الظروف والأحوال وفوق ذلك فإن الأحرار قد نظروا إلى ولاية العهد باعتبارها صفقة تطلع الأحرار أن يحصدوا ثمنها وخصوصاً وأن معظمهم كانوا في السجن.
وبدأ الأحرار يخرجون من إطار الهمس بقضية ولاية العهد إلى العلن، ويطلق الإمام بعض أعداء الأمس من السجون، الشامي، الإرياني، النعمان، الشماحي، ويحتدم الخلاف بين البدر وأعمامه، وبين الإمام واخوته حول القضية وتصبح ولاية العهد حديث الناس في كل مكان بين مؤيد لها أو معارض ويعلن الحسن بوضوح موقفاً معارضاً وراح كل فريق يدعو إلى نظرته بهدف كسب أنصار القضية، فبينما استعان البدر بالأحرار، راح الحسن وعبدالله كل على طريقته يدني الأنصار من حوله، وكان الحسن أكثر قدرة على كسب المحافظين من رجال الدين، وشيوخ القبائل بينما عبدالله كان يحاول كسب أنصار من المثقفين وضباط الجيش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.