عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962 الحلق25
نشر في الجمهورية يوم 25 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
ويقف أحمد الشامي لكي يعلن ولاية العهد في قصيدة رائعة يمدح بها الإمام ويعلن بها مواهب البدر، ثم يخاطبه بما يأمله منه الشعب، كانت قصيدة مجلجلة تطايرت أبياتها كألسنة اللهب في جميع أنحاء اليمن، وكان الأحرار لايزالون وراء قضبان السجون.
وبينهم عبدالسلام صبره، وعبدالله السلال، وحسين المروني، ومحمد عبدالله الفسيل، وأحمد المعلمي، ومحمد علي الأكوع، وحمود الجائفي، ومحمد أحمد المطاع، والباشا، وأبو طالب وآل الوزير، وكان أكثر أبياتها تأثيراً على الإمام هذين البيتين:
إذا لم تكن أنت «الخليفة» بعده
وفاءً وشكراً بل قضاء محتما
فلا نبضت للشعب روح ولا علت
له راية حتى يكب «جهنما»
وبرغم مافي هذين البيتين من مبالغة، تتناسب وموقف المديح الذي وقفه الشامي، خريج سجون الإمام لكن القصيدة حينها عبرت عن موقف حقيقي من الأحرار تجاه البدر بل إن الشامي نفسه ارتبط بالبدر بعد ذلك، حتى قيام ثورة 2691 واليوم يمكن القول إن الارتباط بالبدر لم ين موقفاً تكتيكياً على الأقل لدى بعض الأحرار، بل كان موقفاً ثابتاً وواعياً تجسد في سلوك بعضهم من الأحداث التي تلاحقت في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات عندما افترق الأحرار بين إصلاحي يدعو للحفاظ على الملكية وجمهوري يعمل من أجل إسقاط الملكية وإزالتها.
كان موضوع ولاية العهد قد تحرك، وبتكليف من البدر أعد القاضي الإرياني صيغة البيعة وهو الذي لم يمض على خروجه من سجن حجة سوى بضعة أيام ولعله قد أخرج من السجن خصيصاً لهذا الغرض وأعد القاضي الارياني صيغة البيعة، وعرضها على البدر فكلفه بأخذ البيعة من علماء زبيد وتعز وإب ووافق علماء زبيد على الصيغة ووقعوا عليها فيما تردد علماء تعز قليلاً، وعندما وقع الوشلي عليها، وكان نائب الإمام في تعز ورئيس الديوان، وقع البقية من بعده، لكن الإرياني لم يتمكن من السفر إلى إب إذ أبرق الحسن إلى الإمام شاكياً مذكراً إياه بأن الذين قتلوا الإمام يحيى قد أطلق سراحهم وقد أصبحوا سبباً للفرقة، وتمزيق الأسرة وإثارة الفتنة وطالب الإمام بإيقافهم عند حدهم وإعادة الإرياني والشامي إلى السجن فطلب الإمام من الإرياني وقف كل عمل في موضوع ولاية العهد، وطلب منه أيضاً أن يبلغ أحمد الشامي بذلك، وبهذا الأمر طويت صفحة ولاية العهد، ويعتقد الأحرار بأنها قد أتت ثمارها بأكثر مماكانوا يتصورون، توقفت المذابح، وأفرج عن المسجونين، وانشقت الأسرة المالكة على نفسها وأجبر الإمام أخاه الحسن على مغادرة البلاد بعد ذلك بوقت قصير.
والحقيقة فإن الدعوة إلى ولاية العهد، لم تخلف متاعب وانقسامات في إطار العائلة المالكة فحسب، ولكن شيئاً من التصدع قد أصاب جبهة الأحرار ذاتها، تلك الجبهة التي تكونت مع قيام الانقلاب الدستوري، وكان طرفاها الرئيسيان الأحرار والقوى التقليدية في المجتمع ممثلة في بعض الأسر المناوئة لآل حميد الدين.
ففي صفوف قوى الانقلاب الدستوري ثارت المناقشات بين الأسر الطامحة من الموجودين داخل السجون وعلى وجه التحديد أسرة آل الوزير، وأسرة أبناء عبدالقادر المنحدرين من سلالة الإمام شرف الدين، فقد رأى هؤلاء أن تفكير الأحرار بالدعوة لولاية عهد البدر، فيه إنكار صريح لأحقيتهم في قيادة الدولة من جديد، مع أنهم يرون في أنفسهم توفر الشروط اللازمة للإمامة، وإضافة إلى كل ذلك فقد سقط آباؤهم صرعى في المعركة التي تحالفوا فيها مع الأحرار ضد بيت حميد الدين، ومع أن هؤلاء كانوا متنافسين فيما بينهم، إلا أن موقف الأحرار من البدر دفع بهؤلاء ليتحولوا إلى خصوم للبدر وللأحرار معاً.
وقد عكس الخلاف نفسه على أداء الأمراء في الجهاز الحكومي، فهذا عبدالله يحاول إبعاد محمد عبدالله العمري من وزارة الخارجية، لأن الأخير كان كما زعم الأول يسعى للانفراد بالوزارة والتعامل المباشر مع الإمام، وهو الأمر الذي كان يستفز الأمير، وقد أدرك الأمير أن العمري ممن تعاطفوا مع الدعوة إلى ولاية العهد للأمير البدر، وحاول عبدالله إقصاء عبدالرحمن أبو طالب من منصبه كمفوض لليمن ليعيد إلى القاهرة علي المؤيد الوزير السابق لقربه منه، وقد صارح الإمام بما كان يريد، بل ولامه بسبب الاعتماد على أمثالهما «العمري وأبو طالب» وقدم استقالته من وزارة الخارجية، فرفضها الإمام أحمد.
وكان الإمام يدرك أن موقف عبدالله لايخرج عن إطار المشكلة الأساسية، ونعني بها ولاية العهد، وعندما شعر الإمام بإلحاح إخوته على التدخل لوقف التداعيات التي أحدثتها الدعوة، اعتكف في قصره لينأى بنفسه عن طرفي الخلاف، محاولاً الوقوف على مسافة من كل منهما، وقد طالت هذه الخلافات مكانة وكيله ومؤتمنه أيضاً التجاري والمالي على محمد الجبلي.
كما رفض سيف الإسلام الحسن، وكان حينها مازال رئيساً للوزراء التوجه إلى القاهرة لحضور مؤتمر رؤساء الوزارات العربية الذي كان مقرراً عقده في يناير 5591.
وكان السبب أن الحسن قد لاحظ أن غيابه يعطي البدر فرصة العمل مع أنصاره في صنعاء، فقرر أن لايغادرها والبدر فيها، وقد ألحت الجامعة العربية على حضور اليمن ورئيس وزرائها للاجتماع وحار الإمام بين ابنه وأخيه، ولكنه كما يبدو قد ألزم الحسن حضور هذه الاجتماعات ذلك أن الأحداث التي حدثت بعد ذلك «الانقلاب العسكري» قد أكدت وجود الحسن في القاهرة.
لكن الحسن وأنصاره لم يستسلموا فمع نهاية 5591وبداية العام التالي بدأوا في اتخاذ خطوات متقدمة بالدعوة له لولاية العهد بعد أخيه أحمد، وشهدت القفلة «قفلة عذر» وشهارة في جبال الأهنوم، حيث مراكز الزيدية التقليدية، وحيث يتواجد مؤيدوه بكثافة، وعادة هم من العناصر المحافظة من رجال الدين وبعض شيوخ القبائل علماً بأن القبائل في اليمن ليست على موقف واحد من قضية ولاية العهد، وموقف القبائل كان دائماً حاسماً فيما يتعلق بالأمور المصيرية فعلى أكتاف هذه القبائل عاشت الإمامة الزيدية أكثر من ألف عام وعلى أكتاف هذه القبائل جاء يحيى، ومن بعده أحمد للحكم وبدون دعم هذه القبائل فإن أياً من الطامحين إلى ولاية العهد لن يكتب له النجاح التام، كما أنه لايجوز الاعتقاد بأن هذه القبائل موحدة ومتماسكة، فهي تفتقر في الحقيقة إلى زعيم يوحد جهودها وهذا عادة لايحدث، لأن شيوخ القبائل كل يرى في نفسه الزعامة، والإشكالية الأكثر تعقيداً هي أن القبائل يمكن أن تغير موقفها في اللحظات الحاسمة، إذا وجدت أن ذلك يحقق لها مصلحة سياسية، أو مصالح مادية لذلك فهي لاتدين لأحد من سيوف الإسلام بالولاء المطلق، وهذه الحال «حال الخلاف والأزمات» تكون عادة مجالاً خصباً للمتاجرة بالمواقف السياسية، ومهما كان منطق الحسن، والبدر وعبدالله مقنعاً فالمهم هو أن تجد القبائل هذه المواقف توافق هوى لديها.
6 الانقلاب العسكري 5591
أ الدواعي والأسباب:
لاتشكل الانقلابات العسكرية ظاهرة منفصلة عن مجمل المتغيرات التي يشهدها المجتمع، ولا هي تتم بمعزل عن مجموع الظروف المادية التي تحيط بالمؤسسات العسكرية في البلدان النامية. ولكي نفهم الظاهرة لابد من وضعها في سياقها الطبيعي،باعتبارها شكلاً من أشكال التعبير السياسي العنيف، المرتبط عضوياً بالتغيير الاجتماعي، وعادة فإن الأسباب العامة لأي انقلاب إنما تكمن أساساً في أولاً: أن النخب الحاكمة قد فشلت في تلبية الاحتياجات الاجتماعية المادية منها والمعنوية لمجتمعاتها، ومواجهتها بحلول مناسبة، وثانياً: بسبب أن هذه النخب الحاكمة قد فقدت لأسباب ذاتية وموضوعية ولاء قطاع واسع من المؤسسة العسكرية، فتتحرك هذه المؤسسة لتعديل الوضع، تدفعها إلى ذلك مصالحها التي لم يعد بإمكان النخبة الحاكمة القدرة على تلبيتها.
والانقلاب العسكري ضد الإمام أحمد في 5591م،لايذهب بعيداً في أسبابه وأهداف منفذيه عن هذا التفسير النظري للظاهرة فقد جاء الانقلاب، لأن الإمام أحمد قد أغلق على نفسه الأبواب، وسار في طريق والده وسياسته التي اتسمت بالعزلة الشديدة، وإن كان الإمام قد أدخل بعض الإصلاحات الطفيفة جداً قبل الانقلاب إلا أنه عجز عن تلبية الاحتياجات الاجتماعية التي بدأت في التنامي مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، بتأثير عوامل مختلفة وأضحت سياساته عاملاً رئيسياً في إنتاج التوتر الشعبي، والتذمر المؤسسي وعلى نحو خاص المؤسسة العسكرية.
ومع ذلك يمكننا أن نتوقع وجود مؤثرات خارجية إيجابية أو سلبية، إلا أنه يمكن الجزم بالقول إن العوامل الموضوعية والذاتية الكامنة في أساس المجتمع اليمني،هي التي حركت الانقلاب، وهي التي صنعته، كما حركت قبل ذلك وصنعت الانقلاب الدستوري في عام 8491م.
وفي الحقيقة فإن عوامل التغيير قد برزت بصورة أكبر في منتصف العقد الخامس، وإن لم تكن قد نضجت بما فيه الكفاية، فالإمام منذ تربعه على العرش عجز عن تحقيق ما كان قد وعد به من الإصلاح، وكان الإمام مريضاً، ومرضه استدعى التفكير في غيره،كما أن مرضه عطل أمور الدولة بالإضافة إلى إهماله الجيش. وكان هذا الإهمال متعمداً ومقصوداً ثم إن الإمام قد بات وإخوته في حالة من الشك والظنون المتبادلة ذهبت بهم إلى التفكير في التخلص من بعضهم البعض وهي حالة حينما تحدث يكون المجتمع كله معرضاً لخطر حقيقي.
كان عبدالله قد قرر العودة إلى الداخل، بعد سنوات طويلة قضاها متجولاً من عاصمة إلى أخرى، ممثلاً لبلاده في المحافل العربية والدولية، مبدياً اهتماماً بأعماله التجارية، ومتنقلاً بين صنعاء وتعز، فقد كان أغنى إخوته وأكثرهم سعة في الحال، لقد تكون لديه الإحساس أن موت أخيه يحيى لم يكن طبيعياً، ربما ظن أنه مات في مجازفة عائلية، أقدم عليها الإمام أحمد لحماية عرشه، كان يحيى طموحاً ومحبوباً وشريكاً في نصر 8491م،وأكثر من ذلك فإن موت يحيى قد ترك الساحة للحسن ليقوم بدور رئيسي في إدارة شئون البلاد، لم يكن الإمام أحمد غافلاً عن طموحات شقيقه الحسن في الإمامة فاستحدث له مهمات في الخارج، فأتاح ذلك فرصة لعبدالله لكي يبرز في الداخل ويكون من حوله الأصدقاء والأنصار ،خصوصاً وأنه قد تميز عن أحمد وإخوته بسعة الاطلاع على الشئون الدولية، والانفتاح والعصرنة، مع إحساس داخلي بأن الأقدار قد تهيئ له القيام بدور المنقذ، وقد أكثر من تلميحاته وانتقاداته لما هو عليه الحال من سوء، كان صاحب مبادرات اقتصادية لكن الإمام كان يرفضها.
هذا هو القطب الأول في انقلاب 5591، أما القطب الثاني ومحركه الأساسي فقد كان المقدم أحمد الثلايا كان واحداً ممن بُعثوا للعراق سنة 6391 للتدريب في المدرسة الحربية في بغداد، تعرض للسجن بعد انقلاب 8491م ، ثم أطلق سراحه، وعينه الإمام معلماً «مدرباً» للجيش في تعز ، ومنذ 8491م وحتى 5591كان الثلايا من الأحرار الذين تمتعوا بإمكانية الحركة ، وهو ما دفعه للاشتراك مع عبدالملك الطيب، والقاضي يحيى السياغي، في محاولة لاغتيال الإمام أحمد، لكن المحاولة فشلت، ونجا مدبروها بأعجوبة. وعندما التقى القائد العسكري «الثلايا» بالأمير السياسي «عبدالله» كانت حالة الإمام الصحية قد بلغت درجة من السوء ،أفقدته القدرة على العمل، حيث لازم قصره تاركاً أمور الدولة دون رعاية، فكان ذلك مدعاة للتبرم والنقد، وهو ما رأى فيه الأمير وكذلك القائد فرصة للتفكير في تغيير يطيح بالإمام، دون المساس بحياته، خصوصاً وأن تجربة 8491م مازالت ماثلة للأنظار وقريبة العهد في الأذهان.
وتتجدداللقاءات بين عبدالله والثلايا، وينضم إليهما عدد آخر من الأمراء، وضباط الجيش، ويقدم الثلايا خطة للقيام بالانقلاب، ويوافق عبدالله عليها، ويبدو أن أحرار الداخل قد وافقوا عليها «النعمان والإرياني» إذ من المتوقع أنهم قد أجروا مفاضلة بين مزايا البدر والسيف عبدالله من الناحية الإدارية، وكان البحث قائماً عمن يدعم العرش وليس عمن يهدم العرض ذلك أن فكرة الجمهورية لم تظهر إلا مع نهاية الخمسينيات وكانت نتيجة المفاضلة عند هؤلاء لصالح عبدالله، ضد البدر، لا سيما وقد أبدى استعداداً للخلاص من الإمام أحمد، وذلك لم يكن مطلوباً من البدر،لأنه أعجز نفسياً عن أن يقوم بدور كهذا، وسار الاثنان في التخطيط وأثناء التخطيط للانقلاب ،فاجأتهم الأحداث بما لم يكن متوقعاً.
يقول الإرياني: “اتصل بي الثلايا مبدياً التبرم والاستياء العام الذي يسود الجيش من جراء تردي الأوضاع، وعدم قيام الإمام بتنفيذ وعودها لمتكررة بالإصلاح، مصرحاً بأن الصبر قد نفد، وأن السكوت غير جائز، وطرح علي فكرة الاستعانة بعبدالله، ولم أبد ارتياحاً لمقترح الثلايا الذي أكد لي بأنه لا يمكن الإقناع أو الاقتناع بالسيف عبدالله كإمام جديد، وإنما المراد العمل المرحلي بالاستعانة به للخلاص من الإمام أحمد، فقلت له إن عبدالله لا يقل مكراً واستبداداً عن أخيه، إضافة إلى ما له من ارتباطات خارجية.
وأن نواياه ليست إلا أحد إفرازات ولاية العهد، وليست وليدة غيرة حقيقية وإخلاص للوطن”.
ومن الرغم من ذلك فقد أبدى الإرياني تعاوناً مع الثلايا، والأمير عبدالله، وكذلك فعل صديقه زعيم الأحرار أحمد النعمان.ومن المؤكد أن انضمام النعمان و الإرياني إلى الخطة قد أثار ارتياح قادة الانقلاب، وإن كانوا لم يتأكدوا من موقف النعمان،الذي أصبح بيدي حذراً شديداً من كل إجراء مناهض للإمام.مالم يكن على ثقة تامة بنجاحه،وجاءت أحداث «الحوبان» قبل أن تنضج الظروف للقيام بالانقلاب، ولكن الأحداث وضعت الجميع أمام الأمر الواقع، فكيف حدث ماحدث؟ وإلام انتهت الأمور؟
في الواقع هناك روايات عديدة لهذه الأحداث، وهذه الروايات جميعها تجمع على أن بداية الأحداث كان خارجاً عن إرادة المخططين،ففي 92مارس 5591خرج بعض الجنود قيل ثلاثة وقيل ثمانية والأقرب أنهم ثلاثة من معسكرهم «عرضي تعز» إلى ناحية الحوبان على مسيرة ثلاثة إلى خمسة أميال من تعز، للاحتطاب والصيد، واستولوا على كمية من الحطب من أحد الفلاحين، فاستعان الفلاح عليهم بأهالي قريته، فجرت بين الجنود والأهالي معركة انتهت بقتل جنديين وجرح آخر، فعاد الجندي الجريح مستصرخاً رفاقه في ثكنات الجيش بالمدينة، الذين أخذتهم العزة والألم،وقرروا الانتقام من الفلاحين، فنهبوا قرى الحوبان، وقتلوا من اعترض طريقهم، واحرقوا المزارع، ثم عادوا إلى ثكناتهم بتعز بعد مغرب شمس الأربعاء الموافق 03مارس 5591.
ولم يكد الجيش يستقر في ثكناته حتى عادت إلى أفراده المخاوف من الإمام ، ومن عقابه، ففكر أكثريتهم بمغادرة الثكنات والفرار، في الوقت الذي اتصل الإمام بالجيش البراني «القبلي» وبمشايخ “صبر”، وطلب منهم سحق الجيش النظامي، وكان هذا الجيش هو المعول عليه للقيام بالانقلاب في تعز، وكان ضباطه المهمون مهيئين لذلك،ومنهم مرشد السريحي، والدفعي ، والمعصار، والجناتي، وباكر، والسمة وآخرون، فإذا تفرق هذا الجيش أو قام أحمد بضربه، فإن ذلك يعني تجميد الانقلاب وربما كشفه، فلم يعد هناك بد من التعجيل بالانقلاب، وراح الثلايا، والحاج مرشد، يحرضون ويدفعون الجنود للقيام بالانقلاب مثيرين حماسهم ضد الإمام،بحجة أن مرضه المستمر وإدمانه على المورفين، أعجزه عن ضبط الأمور، ولابد من وضع حد للفوضى التي تخدش كرامة الجيش، إلى جانب إهماله للجيش وعدم تدريبه تدريباً حديثاً، يرفع من مستواه، واستطاع بذلك أن يضمن ولاءهم وولاء المدفعية التابعة للحامية، وأعد الترتيبات السريعة واللازمة للحركة، ثم اتصل بالأمير عبدالله، وطلب منه التأهب للأمر.
وفي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي 13مارس 5591م، أطلق الجنود من ثكناتهم رصاص بنادقهم على قصر الإمام الذي يقيم فيه، والمجاور للثكنات، واستمر إطلاق النار لمدة ساعة، ثم أحاطوا بالقصر، واحتلوا مداخله، واعتقلوا حراسه، وبعد أن توقف إطلاق النار استدعى المقدم الثلايا إلى العرضي جميع ذوي الرأي، والشخصيات في أعضاء الحكومة الأحمدية، وكان ممن دعي، أحمد محمد النعمان،وعبدالرحمن الإرياني، وأمير البيضاء محمد بن عبدالله الشامي، ومحمد الذاري ، وحمود الوشلي،وزيد عقبات ، وعبدالله الشماحي، ويحيى السياغي، وأحمد زبارة ، ويحيى الكبسي، ويحيى محمد باشا المتوكل، وأمير جيشي تعز محمد الحوثي،ومحمد بن علي المجاهد، وعبدالله عبدالإله الأغبري، وأحمد بن محمد المهدي، وقاسم بن ابراهيم، ومحمد بن حسين عبدالقادر، ومحمد بن قاسم بن الهادي ، ومجموعة كبيرة من الشخصيات.
ب الإمام عبدالله بن يحيى
لقد استدعى الأمير عبدالله، للاجتماع بقادة الجيش ورجالات تعز من أهل الحل والعقد، وقد شرح الثلايا للحاضرين، أن بوصول الجيش إليه يطلبون منه قيادتهم في حركة ترغم الإمام أحمد على التنازل لأخيه عبدالله لأنه «الإمام» قد عجز عن القيام بأمانة المسئولية التي في عنقه، وطالبهم خلع الإمام ومبايعة أخيه عبدالله، فرفض بعض الحاضرين بحجة أن في عنقه بيعة للإمام أحمد إلى أن تنازل باختياره، وبعد نقاش رؤى تشكيل وفد من المجتمعين ،محمد الرازي، ومحمد الحمدي واللواء محمد الحوثي، وأحمد زبارة، والأمير الحسن بن علي، وطلب الوفد من الإمام التنازل لأخيه عن الإمامة لإخماد الفتنة، وحقن الدماء فأخذ الإمام ورقة وكتب عليها”حيث طلب الجيش بتعز بتأثير العوامل الأجنبية ، والأصابع الاستعمارية ،أن يتنازل للأخ سيف الإسلام عبدالله عن الأعمال، فقد تنازلنا له عنها، وشرطنا عليه العمل بشريعة الله ،والعرض علينا فيما دق وجل” ولما سمع من كان موجوداً لفظ التنازل، أطلقوا النار ابتهاجاً، وتلا ذلك أن مد” السيف عبدالله يده للبيعة فبايعه الحاضرون.
وحسب بعض المصادر الأخرى، أن الثلايا كان يرغب في أن تدير شئون الدولة حكومة مؤقتة من الشعب، تعمل بقيادة السيد محمد بن يحيى الذاري من الهيئة الشرعية بتعز لأن الشعب مازال يعتقد أنه يجب أن يُحكم بسيد من الأشراف ، ويوضع لها دستور تقره هيئة تأسيسية تمثل الشعب اليمني وطوائفه، وعندئذ يبت في أمر الإمامة، ويختار لها من توافق عليه الأمة، لكن أنصار عبدالله تدخلوا، مستغلين انشغال الثلايا بالأحداث، ومنهم السيد محمد الحوثي، والعقيد أحمد الآنسي،والقاضي محمد الشامي، لتوجيه رأي المجتمعين لاختيار سيف الإسلام عبدالله إماماً لليمن، وفعلاً عندما عقد الاجتماع بصفة رسمية كانت الأغلبية في صف سيف الإسلام عبدالله.
والحقيقة فإن الكثير من المعلومات قد قيلت عن أحداث الانقلاب، وقد يصدق بعضها إلا أن أكثر الروايات قرباً من الحقيقة هي التي رواها المشاركون، وفي مواقع مهمة من هذه الأحداث،وهؤلاء جميعاً لم يشيروا إلى ماذهبت إليه هذه المصادر، بل جميعاً أكدوا أن البيعة لعبدالله كانت محسومة مسبقاً كما روى الارياني، والشماحي، وشرف الدين، وكان الجنود يطلبون منذ الوهلة الأولى تنازل الإمام لأخيه عبدالله عن الإمامة، ثم كرروا طلبهم مرات.
لقد نجح الانقلاب دون إراقة دماء، وفكر الثلايا والإمام عبدالله في أمر البدر، وباقتراح من النعمان رؤي إرسال وفد إليه لإقناعه بالانضمام إلى الانقلاب، وتكون الوفد من أحمد محمد نعمان، والقاضي عبدالله عبدالإله الأغبري، والقاضي محمد الزهيري، والسيد أحمد المهدي، كما أرسل الحسين بن علي إلى صنعاء، ليشرح الموقف لعمه سيف الإسلام العباس، والمسئولين والأعيان، وحررت رسائل إلى نواب الإمام في الأولوية، والأقضية، والنواحي تحثهم على الانضمام إلى العهد الجديد، وتطلب منهم حفظ الأمن، وأخذ البيعة لعبدالله.
وأرسل عبدالله برقيات إلى الملوك والرؤساء العرب، يبلغهم تنازل الإمام أحمد عن الإمامة وتوليته خلفاً له، كما جاء في نص برقيته إلى الملك سعود، «في الأيام الأخيرة زاد مرض جلالة الملك أحمد حفظه الله،واستمر اعتذار جلالته عن الأعمال،الأمر الذي أدى إلى الاستياء العام، وقامت حركة الجيش تطالب بقيامنا بالأمر، وخشية الوقوع في الفتنة التي لاتجهلون عواقبها، تقدم العلماء أهل الحل والعقد، بالرجاء إلى جلالته بالتنازل عن العرش، وكان منه النزول عن رغبته، وتكليفنا بالقيام بذلك، ولم نجد بداً من قبول ذلك، ورغبة في حقن الدماء وتسكين «الدهماء» وصون البلاد من تدخل الأجنبي، وجلالته لم يرغب التنازل إلا وهو في المحل الذي يحفظه في التقدير والإجلال، وستصل إلى جلالتكم بعد هذا هيئة علمية لشرح الموقف لجلالتكم شرحاً كافياً، ونحن كما تحبون في الاعتماد على الصداقة والحرص على حسن الجوار، والتعاون على مايرضي الله سبحانه، ونرجو من الله التوفيق والاعانة ونستمد دعاء جلالتكم بذلك.
في هذه الأثناء كان وفد النعمان إلى البدر قد وصل إلى الحديدة، واستقبله أحمد الشامي مندوباً عن البدر، وعلى الفور همس النعمان في أذن الشامي «الإمام مغلوب على أمره انتبهوا» وبعد ذلك التقى البدر بالوفد وعرف من الوفد ماجرى في تعز وبعد مداولة قصيرة مع الشامي ومن كان حاضراً،قرر البدر الذهاب إلى «حجة» الحصن الحصين للزيدية، وترك خلفه «حمود الجائفي» لإدارة الحديدة وخوله إعلان الأحكام العرفية، وكلف يحيى عبدالقادر بأمور اللواء، واتجه على الفور مع النعمان والشامي ونائب لواء الحديدة محمد أحمد باشا وآخرين إلى حجة، تماماً كما فعل والده عام 8491م، فحجة بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي الحصين فهي معقل أنصار الإمامة الزيدية وأتباعها.
ومنذ لحظة وصوله راح يبعث إلى مشايخ اليمن يبلغهم بالانقلاب، وطلب منهم المساعدة على تحرير والده من الأسر، كما أرسل النعمان والشامي إلى الرياض، لاطلاع الملك سعود بما حصل، ووجه نفس الوقت خطاباً إلى الرئيس جمال عبدالناصر لنفس الغرض، ويذكره بما قاله أنور السادات منذ أسابيع عن نشاط الأمير عبدالله، وإن ما حدث إنما هو فاتحة المؤامرة، وكذلك إلى عبدالخالق حسونة أمين عام جامعة الدول العربية، يطلب منه إدانة الانقلاب والتدخل لحفظ حياة الإمام.
وفي ذلك اليوم الجمعة المواقف 13 مارس 5591م، أطلق البدر بعض سجناء الأحرار منهم السلال، والعمري، والفسيل،والأكوع،وذهب إلى الصلاة وقد بدأت القبائل تفد إليه من كل حدب وصوب، وبعد خطبة الجمعة وقف النعمان خطيباً وهو خطيب اليمن المفوه فألقى كلمة رائعة صور فيها الحادث وأعطاه صفات «الإثم» و«الخيانة» و«النكث»،وما أن ذكر الإمام أحمد حتى هطلت دموعه غزيرة، وصوته أجش كأنه يبكي، وقد عقب الفسيل أحد سجناء الأحرار على هذا الموقف، فقال:حاولت أن أدقق في ملامح النعمان، لأرى كيف يتقن التمثيل ولكنني تأكدت أنه لايمثل، بل إنه كان مندمجاً بعواطفه في هذا الموقف، ثم تذكرت أشياء كثيرة منها أن الإمام الجديد عبدالله كان يلح على الإمامة بقتل النعمان، والشامي بعد ثورة 8491م وغادر وفد النعمان إلى الرياض، وهناك أُستقبل الوفد من الملك سعود، وسمع الملك من الوفد تفاصيل ماحدث.
في تعز أدرك الذين تسلموا تنازل الإمام أحمد أن التنازل لم يشمل الإمامة وإنما نص على التنازل عن الأعمال فعادوا وطلبوا من الإمام التنازل عن الإمامة، وهدد الجيش بتدمير قصر الإمام بمن فيه إذا لم يستجب الإمام وتحت التهديد والضغط كتب الإمام مايلي:
«لقد كان ماكان في علم الله، والآن وقد وفق الله الجميع إلى مافيه الخير والصلاح، فإنا حملنا الأخ سيف الإسلام عبدالله الأمانة، وكان منا التنازل، على أن يقوم بالأمر، ويجربها على شريعة الله سبحانه وتعالى،ولم يبق مايوجب الأخذ والرد، وقد كان هذا بحضور جماعة من العلماء، فليعد كل أحد إلى محله، للقيام بأعمال الناس، وعليكم جميعاً اعتماد أوامره، ومن خالف هذا فعليه حجة الله والله الموفق، والسلام عليكم، وقد كان منا التحرير إلى الملحقات لوقف كل أحد في محله وعودة من خرج إلى بيته» وبالرغم من هذا التنازل الجديد، إلا أن ليس فيه تنازلاً صريحاً عن الإمامة، حيث تعمد الإمام الغموض فقد قبل الجيش وامتنع بهذه الوثيقة،وذهبوا يرتبون أمور البلاد، دون أن يعيروا الإمام أحمد الاهتمام الذي كان يستحقه لخطورته.
«ج» الموقف العربي من الانقلاب:-
وفي اليوم التالي تلقى الإمام الجديد برقية من البدر،تندد بما أقدم عليه من إساءة إلى الإمام أحمد، وحذره ووعده بسوء العاقبة،فبدا عليه الانزعاج، بينما تلقى الثلايا البرقية بعدم اكتراث.
وزاد من اضطراب الإمام عبدالله أنه تلقى رداً من الملك سعود على برقيته التي أعلمه فيها بتوليه العرش،وماكان في رد الملك سعود ما لايبعث على الارتياح عند الإمام عبدالله، فقد نظر الملك إلى الأمر برمته باعتباره انقلاباً على سلطة الإمام أحمد، وحذر عبدالله من مغبة ما قد يحدث في اليمن؛لأن ذلك حسب برقيه الملك لايخدم سوى أعداء الإسلام والمسلمين، وتوقع الملك أن تضطرب الأحوال في اليمن،لأن القبائل بدأت في التجمع تحت راية البدر في حجة، مشيراً إلى مايربطه بالإمام أحمد ملك اليمن من مواثيق وعهود، وأنه لن يتخلى عن عهوده لجلالته، فليس ذلك من المروءة والوفاء.
وعاد للتذكير بما حدث في التاريخ القديم والحديث في اليمن،في إشارة إلى ماحدث للانقلابيين في عام 8491م وختم برقيته باقتراح القيام بالوساطة لحل الأزمة،ولم شمل العائلة المالكة في اليمن،وقد فهم الإمام عبدالله من صيغة البرقية تهديداً مبطناً، وأدرك أن أمام الاعتراف بملكه الجديد صعوبات جمة.
وفي الواقع فإن قيادة المملكة العربية السعودية لم تكن على وفاق تام مع الإمام أحمد، وقد حاولوا تشجيعه على القيام بخطوات من شأنها امتصاص حالة الامتعاض والرفض بين صفوف الجيش والشعب اليمني،لكن الإمام أحمد لم يكن ممن يقبلون مثل هذه النصائح،ثم إن فكرة الانقلاب لم تكن في الواقع مقبولة لدى الملك سعود، إذ أن تشجيع مثل هذه الأعمال ربما أدى ويؤدي إلى عواقب وخيمة لا في اليمن فحسب، وإنما في مناطق مختلفة من الوطن العربي، ولن تكون الجزيرة العربية في منأى عن ذلك، وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن المملكة لم تكن على معرفة ودراية بحقيقة الدوافع السياسية المستقبلية لقائد الانقلاب أحمد الثلايا، ومن المرجح أنهم قد ظنوا بوجود علاقة مابين قادة الانقلاب وجهات خارجية.
في الأيام الأولى للانقلاب كانت السلطة والولاء في اليمن قد توزع بين الإمام الجديد عبدالله بن يحيى ومعه قادة الانقلاب،وبين البدر ولي العهد، فتعز وصنعاء تخضعان لقادة الانقلاب، فقد أعلن العباس تأييده لأخيه عبدالله، وكان نائب الإمام هناك، ونجح الحسن بن علي الذي بعثه الإمام عبدالله إلى هناك في إقناع من كانوا مترددين في تأييد الانقلاب، وعاد إلى تعز ومعه عمه القاسم، الذي يبدو أنه هو الآخر قد أبدى تقبلاً لما حدث في تعز، فقرر الإمام الجديد إرساله إلى مصر والسعودية لشرح الموقف؛ وكسب التأييد.
في المقابل كانت الحديدة وحجة ومناطق الشمال بيد البدر، الذي أخذ يثير القبائل ضد الانقلابيين، وكانت الأحداث في اليمن تستقطب اهتمام القيادة المصرية،وعبدالناصر على وجه الخصوص،إذ يبدو أنه الوحيد من قادة الثورة الذي كان على علم بوجود اتصالات بين القاهرة، وأحمد الثلايا قائد الانقلاب سابقة على الأحداث الأخيرة في اليمن، كان «فتحي الديب» قد زار اليمن عام 4591م وفي تعز التقى بأحمد الثلايا، بعد أن استشار في ذلك محمد محمود الزبيري، وحمل منه رسالة إلى الثلايا جعلت أول لقاء بينه وبين الثلايا مفتوحاً دون حذر، وفي اللقاء أخبر الثلايا أن تنسيقاً يجرى بين الأحرار وضباط الجيش والأمير عبدالله، وأن عبدالله يتحمس لإحداث تغيير في وضع اليمن، ووفق رواية الديب فإن الثلايا قد أبلغه بخطة الانقلاب،حيث يعتزمون حصار قصر الإمام وابنه البدر ولي عهده،وإلقاء القبض على المسئولين أعوان الإمام، والقضاء على المقاومة وبعد ذلك التخلص من عبدالله بعد الاستعانة به في إنجاح الانقلاب، وكان مطلوباً من القيادة المصرية الاعتراف الفوري بالوضع الجديد،ودعم الانقلاب وقال الديب: إن عبدالناصر قد اطلع على الخطة أو أُبلغ بمضمونها، ولكن الانقلاب حدث بصورة مفاجئة لم تكن متوقعة،فتوخى عبدالناصر الحذر.
حينها كان الأمير فيصل في القاهرة، حيث بحث مع الرئيس عبدالناصر الموقف في اليمن، واتفقا على أن ينتظرا حتى ينجلى الأمر، ويبدو أن ثقة عبدالناصر بنجاح الانقلاب وتغيير الوضع في اليمن كانت ضعيفة، وكان تقديره مبنياً على معلومات سابقة عن اليمن وحديثه عن الانقلاب ذاته، بعد أن تسربت الأنباء بأن قادة الانقلاب يواجهون رفض الأمير البدر، وبعض أفراد الأسرة المالكة، والتقى الرئيس مجدداً بالأمير فيصل،واتفقا على أن ترسل مصر وفداً إلى الرياض للتشاور حول مايتطلبه الوضع في اليمن، وشكل الوفد برئاسة البكباشي حسين الشافعي، وعضويه فتحي الديب،وفي الرياض التقى الوفد بالملك سعود وفي اليوم التالي وصل وفد الأمير البدر برئاسة النعمان،وبعد يومين سقط الانقلاب واستعاد الإمام عرشه،فكيف حصل ذلك؟
بعد التنازل ركن زعماء الانقلاب وأطمأنوا ولم يعيروا أحمد الاهتمام اللازم، إلا أن المقدم الثلايا والملازم السريحي قد اكتشفا مؤخراً تحركات الإمام الخفية،فقررا القضاء عليه،قبل أن يقضي عليهم،ولكن الإمام الجديد عبدالله كان فيه بقية من أخوة فحال دون ذلك، وقيل الثلايا وعبدالله حالا معاً دون ذلك.
وأخذ الزبيري وأحرار الخارج موقفاً معادياً للانقلاب،وراح الأول من «صوت العرب» يشن هجوماً قوياً على الانقلاب وعلى أمير الانقلاب عبدالله، متهما إياه بالعمالة، كان الزبيري في البداية قد نصح قادة الانقلاب العسكري بسرعة التخلص من الإمام أحمد،وحمل رأيهم هذا إلى قادة الانقلاب على عجل محسن العيني،ويحيى جغمان،وكان طريقهم إلى تعز يقتضي مرورهم بعدن،لكنهم لم يصلوا عدن حتى كان الإمام أحمد قد قضى على الانقلاب وكانت الجماهير في عدن تهتف بحياة الإمام، وحياة البدر، ليس حباً في الإمام، ولكن حباً في البدر القريب في آرائه من عبدالناصر وأحرار اليمن مما أدى إلى تعاطف كثيرين معه.
ويبدو أن فترة الحيرة والتردد قد تبددت في القاهرة سريعاً، وأيقنت القيادة المصرية، بعد يومين أن وصول عبدالله إلى سدة الحكم في اليمن سيعزز من مواقع القوى الاستعمارية في منطقة البحر الأحمر،وقد يعجل بالوجود الأمريكي هناك، واليمن موقع استراتيجي هام له دائماً في الحسابات القومية، معادلة خاصة، هذا الأمر نلحظه مع صلاح الدين الأيوبي، كذلك محمد علي، وكان عبدالناصر مدركاً أهمية اليمن بالنسبة للنهج القومي العربي والصراع مع أعداء الأمة، وربما عرف عبدالناصر بتجربة العسكري المجرّب وبما لديه من معلومات أن الانقلاب سوف يسقط لا محالة، حيث تقف السعودية ضده، ويقاومة البدر حليف القاهرة، وصديق عبدالناصر، بينما القبائل تتجمع لضربه، فقرر الاحتفاظ بصداقة البدر والإمام، وعدم الانجرار وراء موقف يعكر صفو العلاقة بين القاهرة والرياض، في ظل أجواء عربية ودولية غاية في التعقيد، خاصة وقد توحدت المواقف السعودية المصرية إزاء قضايا عربية وعالمية، مناهضة لسياسة الأحلاف، فقد دعا الملك سعود إلى الوقوف في وجه الأحلاف باعتبارها خطراً على مستقبل الدول العربية، وأعلن أن الجامعة العربية هي الأمل المشترك والسبيل الوحيد إلى الوحدة العربية الكبرى، رافضاً الدعوة للدخول في حلف بغداد.
وقد تأكد ارتباط عبدالله بالبريطانيين وأعذر الزبيري ورفاقه في موقفهم من الانقلاب، وتفهم أحرار الداخل موقف القيادة المصرية الذي يعولون عليه كثيراً عند القيام بأي خطوة عامة في المستقبل، قد تحدث تغييراً جذرياً في اليمن، وقد صدقت توقعاتهم، وكانت الصحف المصرية قد ركزت على ارتباط عبدالله بالبريطانيين وأن هذا الانقلاب كان رداً على موقف الإمام المتصلب تجاه قضية الجنوب، وهو موقف معاد للمصالح البريطانية.
وكان الناس قد بدأوا يقرأون ماكتبه الإمام حول التنازل، واطلعوا على الرسالة التي وجهها لابنه، وأدرك أنصاره أن الإمام بصحة جيدة، وأنه لم يتنازل عن الإمامة.
وهو الأمر الذي دفع هؤلاء إلى التحرك ضد الثلايا والإمام عبدالله، واتجه بعضهم إلى قيادة العرضي، ودخل بعضهم إلى قيادة الجيش، واشتبكوا مع حرس الثلايا، حيث أرادوا قتله، فُقتل الشيخ يحيى الغماري أبرز هؤلاء المتظاهرين، وأحد أقربائه، بعد أن قتل ورفاقه جنديين من الحرس الخاص للثلايا، كما جُرح أحد ضباط الانقلاب الأساسيين ويدعى محسن الصعر.
وهذا الحادث كاد يفجر الموقف بين الجيش النظامي «الذي قاد الانقلاب» والجيش البراني «القبلي» الذي كان يقوده حينها حميد بن حسين الأحمر- أحد أبرز قادة انتفاضة حاشد في 9591م، والذي قتله الإمام أحمد مع والده بعد ذلك- وكان حميد قريباً من البدر، ولم يشترك في انقلاب 5591م، بل ربما اشترك فيما بعد في قمعه.
هذه المرة نلحظ بداية تغير مهم في موقف القبائل من النظام الإمامي، صحيح أن الجيش القبلي ساعد على إسقاط الانقلاب، وصحيح أن بعض الشيوخ وقفوا بقوة مع الإمام كموقف الشيخ يحيى المحجاني، وبعضهم كان ممتعضاً من تصرفات قادة الانقلاب كالشيخ حميد الأحمر، لكن هذا لا يمنع من القول إن القبائل كانت أقل حماسة في الدفاع عن الإمام، بل إن بعضها كان أقرب إلى الانقلاب ورجال الانقلاب، هذا ما يذكره سنان أبو لحوم أحد شيوخ «بكيل» حيث قال: لقد تجمعنا وقررنا التوجه إلى تعز، وما كدنا نصل القاعدة إلا وقد انتصر الإمام على الثورة «الانقلاب»، وكنا في القاعدة أنا والشيخ أمين القادري وآخرين، وهنا وقع الحرج، فإن رجعنا فقد كشفنا أنفسنا، وإن واصلنا السير إلى تعز فربما يقول قائل كذا وكذا ولكننا قررنا الوصول إلى تعز، ودخلناها في يوم الأربعاء، وكان ذلك هو اليوم الثاني لسقوط الانقلاب.
ولم يكن الشيخ سنان حالة فردية مع صاحبه، كان هناك أعداد من شيوخ بكيل قد قرروا دعم وإسناد الانقلاب، ومرة أخرى نترك سنان يواصل حديثه، «واتفقنا بالصدفة بالإخوان مشايخ خولان، منهم النقيب علي بن علي الرويشان، والنقيب محمد أحمد القيري، والنقيب عبدالوالي القيري، والنقيب ناجي بن علي الغادر، والشيخ أحمد بن علي الزائدي، والشيخ علي محمد حنش، والنقيب صالح الهيال، والنقيب عبدالوهاب دويد وآخرين، وهم متوجهون إلى تعز، وموقفهم كموقفهم من القاعدة، وكانوا قد تجمعوا في «معبر» على أساس نصرة الانقلاب، وهذه الأسماء جميعها تحتل مكانة خاصة في النظام القلبي، خصوصاً وإذا عرفنا أن بكيل هي ثاني إحدى أكبر قبيلتين في اليمن، وأكثر من ذلك فإن شيوخاً آخرين، لا يقلون أهمية عن هؤلاء شاركوا بفعالية كبيرة في صنع الانقلاب، ووقفوا معه حتى حصد سيف الإمام الظالم أحمد رقابهم، وهم الشيخ علي حسن المطري، وعبدالرحمن الغولي.
ألا يدل ذلك على تغير حقيقي في موقف القبائل الزيدية تجاه الإمامة، والأئمة؟
بلى، وهذا التغير سوف ينمو ويكبر، وتتراكم أحداثه محدثة شرخاً عميقاً بين الزيدية كمذهب، والزيدية كنظام سياسي، فيفقد الأئمة أكثر الفئات الاجتماعية انتماء للمشروع الإمامي في الحكم خلال أكثر من ألف عام، ويصبح زوال الإمامة حتمية تاريخية وضرورة اجتماعية، ولن يكون هذا عند حدوثه تغيراً عادياً، ولن تبقى آثاره في حدود اليمن، بل سيتجاوز ما هو محلي إلى ما هو عربي، كما قد يتجاوز حدود المكان إلى حدود الفكر والثقافة، إذ كثيراً ما استغل الدين، والانتساب إلى الرسول «صلى الله عليه وسلم» لجني المكاسب وتحقيق المصالح وتسويغ الأيدلوجيات، وكان اليمن مثالاً لهذا التسويغ، وهذا الاستخدام الأيدولوجي للدين.
«د» فشل الانقلاب ونتائجه :
لقد اطمأن قادة الانقلاب إلى أنهم قد تخطوا صعوبات كبيرة أمامهم، حيث تنازل الإمام عن الملك والأمانة، وبويع عبدالله إماماً جديداً، وتلقب بالمتوكل، ويبدو أن همهم قد انحصر في مواجهة البدر الضعيف في نظرهم، وفي الحصول على اعتراف عربي ودولي بحكومتهم.
في هذا الوقت كان الإمام أحمد يتصل بأنصاره وحرسه الخاص، ويدخلهم إليه من مداخل خلفية لقصره، ويدخل معهم قدراً كافياً من العتاد والمؤن، ويوزع عليهم النقود والذهب، وخصوصاً قيادات الجيش، وعلى نحو خاص فى «قاهرة تعز»، حيث المدفعية، ومعظم من كان في القلاع العسكرية بجبل صبر، وصالة، والجحملية، وتعز، لقد حاك خيوط مؤامرته في سرية وسرعة خارقتين، أعانه عليها مهارته الحربية، وقدرته على المناورة والمواربة، إلى جانب سذاجة رجال الانقلاب، وطيبة الثلايا، وحنان الإمام عبدالله على أخيه أحمد والخوف عليه من القتل، كان أحمد من أولئك القلة الذين لا يدعون الفرصة تمر من بين أيديهم، ولم يكن رعديداً، ولا متمرداً عندما يطلبه النجاح أن يغامر ليموت أو ينجح.
وعندما أدرك أن عناصر المؤامرة قد اكتملت أو كادت، وأن الظروف قد تهيأت، ظهر فجأة على حراسته عصر الثلاثاء «اليوم الخامس للانقلاب»، الموافق الثالث من أبريل ممتشقاً سلاحه، وصاح في حرسه مهدداً، وأمرهم بإلقاء السلاح، ثم بعد ذلك أمرهم بحجز السيارات التي تمر من أمام القصر إلى حي الجحملية، وفيها نقل النساء والأطفال إلى قصره في «صالة» فلم يجرؤ منهم أحد على مخالفته، ونفذوا أوامره كما أراد، ثم بدأ بضرب الثكنات من قصره المسيطر عليها بعد أن أشعل النار في سطحه، ومن شرفاته، وبعد أن قطع الماء والنور على ثكنات الجيش، فالكل من حوله قد أصبح طوع أمره، ومعظمهم، ممن عينهم قادة الانقلاب لحراسته.
ومما ساعده على نجاح مهمته مدفعية «قاهرة تعز» التي كان قد استمالها، واستمر بإطلاق النار على الثكنات حتى اليوم الثاني، تخللته هدنة قصيرة أثناء الليل، كان قد تم الاتفاق عليها بين الإمامين تلفونياً، بهدف وضع صبغة تسليم مشرف لقادة الحركة، لكن ممثل الإمام عبدالله السيد محمد بن يحيى الذاري لم يذهب إلى الإمام أحمد، فاستأنف هذا القصف يوم الأربعاء الرابع من أبريل حتى أسكت مقاومة الجيش، والمدفعية الموالية له، فاستسلم الإمام عبدالله، وخرج الإمام في اليوم الثاني راكباً فرسه، متقلداً سيفه، متبختراً في ميدان عرضي تعز.
كان هذا النصر سهلاً، وسريعاً ومفاجأة، وبعيداً عن أي توقعات مهما شطح بها الخيال، أما الثلايا ورفاقه ضباط الجيش فقد قاموا حتى أيقنوا من الهزيمة، فقد تخلى عنهم الجنود ما عدا القليل منهم، حينها، قرر الثلايا الهرب، وهرب معه الضباط محمد الأكوع، والملازم محمد قائد سيف، الذي تلقى علومه في الكلية الحربية المصرية، والضابط مرشد السريحي، وفيما تمكن السريحي ومحمد قائد سيف من الفرار، وقع الثلايا وآخرون في قبضة بعض القبائل الموالية للإمام، فقاموا بتوصيلهم مخفورين إلى تعز، واستقبلهم الإمام كهدية نادرة وثمينة،كيف لا وهو قائد الانقلاب، ثم أمر به إلى ميدان الإعدام، وجرى بينه «الثلايا» والإمام حوار تختلف فيه المصادر، إذ يرويه الشامي على نحو ما. ونقلته الأهرام بصورة مختلفة، لكن الأقرب إلى الواقع ما قاله الإرياني ،لأن الإرياني كان واقفاً مكبلاً ينتظر لحظة إعدامه مع الثلايا، حيث قال:” وصلنا إلى الميدان وقد تأكدنا أن الإعدام سيكون من نصيبنا، وقد أوقفونا في الميدان صفاً، وأشعرونا أن دورنا في الإعدام يأتي بعد الثلايا، وكان الإمام أحمد يتجول بين صفوف الجنود، ويعلن عن عفوه عنهم، لأنه غرر بهم..ويسرد نعمه على الثلايا من بناء البيت،إلى اعطاء الرتبة، إلى توفير المرتب، وأخيراً قال: فهل ترون أنه يستحق الإعدام؟فارتفعت الأصوات، تقول نعم . وأعدم الثلايا، وخلافاً لكل المصادر اليمنية وغير اليمنية، فإن بعض اليمنيين في جلساتهم «القاتية» يضيفون إلى هذا الحوار الدامي بين الإمام، وضحيته الكثير مما لايذكره المؤرخون ،إما لأنه لم يحدث فعلاً بين المتحاورين ، أو لأن بعضه مما لايكتب.
وأُعدم إلى جانب الثلايا الشيخ على الغولي، والشيخ علي المطري، والشيخ محسن الصعر، والأمير محمد بن حسين بن عبدالقادر، وهذا قال كلمة مأثورة عند إعدامه” اللهم إن أحمد قد أسرف في قتل الأبرار، فلا تسلط سيفه على أحد بعدنا” وليت رب العباد قد قبل دعوة ابن عبدالقادر، لأن سيف أحمد قد تخضب بالدماء الزكية مرة أخرى، كما أعدم القضاة يحيى السياغي، وحمود السياغي، مع العلم أن الأخير كان في “إب” ولم يشترك في شيء مما حدث،قولاً أو فعلاً،وأهدم الضباط أحمد الجدري، وأحمد الدفعي، وأحمد معصار، وعبدالرحمن باكر، وحسين الجناتي ، وعلي السمة.
وأرسل السيف عبدالله ابن الإمام يحيى من معتقله في وزارة الخارجية مع أخيه سيف الإسلام العباس إلى حجة. وقبل أن يرسلهما الإمام إلى هناك، مر الإمام على عبدالله في معتقله شامتاً فيه، هازئاً به، وقال له “ انظر ياكبش جهران كيف يفعل الرجال” فرد عليه عبدالله:خدعتنا وخدعت نفسك. وفي حجة أعدم الأميرين، ويبدو أن هناك من طلب الرحمة لعبدالله وأخيه من أخيهما أحمد فرفض، بينما كان عبدالله قد رفض من قبل قتل أحمد، والفارق في السلوك له علاقة بالفارق بين شخصية كل من الاثنين، فأحمد منذ نشأته كان دموياً، وعبدالله منذ نشأته كان سياسياً، وقرر الإمام مصادرة أملاك عبدالله،ولم يكن لعبدالله أبناء. وقد قدرت هذه الممتلكات بنحو تسعة ملايين جنيه استرليني كما أشرنا. وقيل الكثير عن أساليب وطرق عبدالله في جمعها، كالعمولات من صفقات الأسلحة التي كانت اليمن تقوم بشرائها، والاستيلاء على أموال صندوق خيري، والمتاجرة بالقمح والحبوب، تصديراً واستيراداً ، والحصول على عمولات من الشركات النفطية التي كان يفاوضها باسم اليمن، والتجارة في كل شيء، وأخيراً تأليف الشركات الوهمية.
واعتقل العديد ممن اشتركوا في الانقلاب، الأمير حسن بن علي والذي كان دوره في الانقلاب كبيراً ، ويحيى بن الحسين، وكانت التهم الموجهة إلى الجميع سواء الذين أعدموا أو الذين بقوا على قيد الحياة: أولاً: القيام بتدبير سري القصد منه إحداث فتنة في اليمن لقلب نظام الحكم، وخلع الإمام الشرعي بقوة السلاح ، ثانياً: تنظيم اجتماعات سرية في مدينتي “ صنعاء وتعز “ لبعض عناصر الجيش والتأثير عليهم للاشتراك في القيام بانقلاب يشيع الفوضى في البلاد. وثالثاً: اتهموا بقتل ابن شقيقة الإمام، وحارسه الخاص وأربعة من أتباعه، والتهمة الأخيرة: لاتبدو صحيحة، فليس هناك في المصادر الأخرى ما يشير إليها، وكان الانقلاب سلمياً، ولم تبدأ عمليات القتل إلا بعد أن أضرم أحمد النار في المدينة وهاجم الانقلابيين.
وفي خطوة جريئة، أعفى الإمام أحمد عن الجنود الذين اشتركوا في الانقلاب، وكان عددهم بين 005006جندي، لم يعتقل أحداً منهم، ولم يحاكم أحداً منهم، بل اكتفى بمعاقبة قادتهم السياسيين والعسكريين، واتخذ القرار بالعفو في اليوم الذي أخذ فيه قرار إعدام الثلايا، أي اليوم الثاني لنجاح محاولته استرداد عرشه، وهي خطوة لا يقدم عليها إلا من كانت ثقته بنفسه كبيرة، وكان أحمد من هذا النوع من الرجال الواثق من نفسه حتى درجة الغرور كما أعفى الإمام عن أخرين أبرزهم عبدالرحمن الإرياني،الذي كان قبل الانقلاب عنصراً هاماً في حركة الأحرار ، وبقي بعدها، والذي أعيد إلى ساعة الإعدام كما رأينا، وعين بعد ذلك عضواً بالهيئة الشرعية بتعز، وأعفى الإمام عن الشماحي وآخرين، وكافأ في المقابل الذين وقفوا إلى جانبه، ابنه وولي عهده، وأحمد الشامي. وغيرهم.
وبدأ الإمام يستقبل بسرور ظاهر مهنئيه، الأمراء والشيوخ وعلماء الدين ورجال الدولة، وكان بعض الشيوخ كما رأينا قد جاءوا لنصرة الانقلاب ، فلم يدركوا تعز حتى سقط الانقلاب، فكان عليهم أن يسارعوا إلى تهنئة الإمام قبل انكشاف أمرهم.
وفي 7أبريل 5591م، حطت في مطار الحديدة طائرتان، إحداهما تقل الوفد المصري برئاسة حسين الشافعي، وفي الأخرى الوفد السعودي برئاسة الأمير فهد بن عبدالعزيز وضمن أعضائه الأمير محمد ابن الملك سعود. كان الهدف من هذا الحضور المصري السعودي السريع إلى اليمن، هو تهنئة الإمام والبدر بالنصر، حيث استقبلهم الإمام بمحرزة جديدة لدفعة أخرى من قادة الانقلاب، فأولم لهم ،واستضافهم على طريقته وطريقة الجبابرة من أمثاله، وعن مقابلة الإمام قال الشافعي:” وصلنا تعز فاستقبلنا الإمام في الغرفة التي أمطرت بالرصاص، ولقد كان منظرها مرعباً، وقد تم الاتفاق خلال المقابلة على أشياء كثيرة تتصل بالأمور التي تؤثر على الاستقرار، وأهمها ولاية العهد..وقد أعلنت بالفعل”. وبعد ذلك طلب الإمام من ابنه البدر أن ينتقل من حجة إلى الحديدة ليستقبل البعثة.
وفشل الانقلاب العسكري كما فشل قبل ذلك الانقلاب الدستوري، وهناك أسباب مباشرة وغير مباشرة لهذا الفشل. ومن الأسباب المباشرة، أولاً : قادة الانقلاب وقد دُفعوا دفعاً للانقلاب لم يأخذوا القدر الكافي من الاحتياطات لضمان النجاح الأكيد للانقلاب، فموقف الجيش القبلي لم يكن حاسماً إلى جانبهم، وكان قادتهم بين مؤيد ومعارض، وعندما لاح لهم قدرة الإمام على الوقوف مرة أخرى ، بدلوا مواقفهم.
وكانت مواقع الجيش القبلي أفضل تحصيناً، وخاصة مدفعية القاهرة، ثانياً:ترك الإمام داخل قصره طليقاً، ودون مراقبة إلا من حراسة ضعيفة، أفرادها ممن مازالوا يعتقدون بقدرات الإمام الخاصة، ولذلك وعندما ظهر عليهم الإمام ارتعدت فرائصهم وسلموا أسلحتهم ثم تحولوا إلى جانبه، وثالثاً: انهيار معنوية الجنود المتمردة بعد أن اتضح لهم انكشاف مواقعهم العسكرية للمدفعية التي انحازت إلى جانب الإمام، وفرارهم من مواقعهم. وأخيراً سرعة مبادرة الإمام بضرب الحركة في مهدها، وقدرته على المناورة وشراء الذمم، واستغلال ما بقي له من هيبة، وأثر تأثيراً معنوياً في أوساط الجيش والشعب، وعلى نحو خاص رجال الجيش البراني «القبلي».
أمام الأسباب غير المباشرة فإن أهمها أن الانقلابيين لم يقيموا وزناً كبيراً للشعب الذي سعوا من أجل تحريره من عبودية النظام الإمامي، فلا يظهر في وثائقهم ما يشير إلى أنهم قد اتصلوا أو تواصوا مع الجماهير بطريقة أو بأخرى، تمهد لحركتهم القادمة، إلا مع نفر قليل من قادة المعارضة، وبعض شيوخ القبائل، ولم يبلغ هذا التنسيق مداه إذا ما استثنينا تلك الاتصالات التي جرت مع الإرياني وفي حدود ضيقة مع النعمان، هذا أولاً ، أما ثانياً: فإن معظم قادة الجيش وإن كانوا قد تعاطفوا مع الانقلاب إلا أن مستوى التنسيق معهم كان في حده الأدنى، وأخيراً: فإن عنصر المفاجأة قد أخذ قادة الانقلاب على حين غرة، ووضع القادة أمام الأمر الواقع، قبل أن يستكملوا بناء عناصر خطتهم، ويحكموا خيوطها، فأتوا بأفعال ارتجالية قاصرة عن الهدف، أو بعيدة عنه.
ويبدو أن أسوأ الاختيارات التي كانت متاحة أمام قادة الانقلاب هي اختيار الأمير عبدالله كحليف مؤقت، فعصرية عبدالله واستنارته كانت تتداخل مع ولاءاته وميوله الرجعية، وعلاقاته المشبوهة مع البريطانيين والأمريكيين، وهو الأمر الذي زرع كثيراً من الشكوك بين قادة الانقلاب وأحرار الخارج، وكانت هذه الميول ذاتها تكفي لجعل القاهرة تقف حائرة مترددة ثم رافضة الانقلاب ومحرضة على فشله، وكان تفكير الثلايا قاصراً في الموازنة بين اختيار الأمير عبدالله إماماً وهو على ماهو عليه وبين كسب تأييد الأحرار، والقاهرة وأياً تكن النتائج، فقد كانت هناك نيات مبيتة، فالثلايا كان ينوي التخلص من عبدالله، وعبدالله كان ينوي الغدر بالثلايا وقادة الانقلاب، وكان هذا الأمر وحده يكفي لجعل هذا التحالف العسكري النخبوي ضعيفاً وهشاً قابلاً للانكسار والهزيمة، وهو ماحدث فعلاً، فعندما ابتدأت المعركة ولاحت بوادر النصر الأولى برزت على السطح الحسابات الخاصة، وانكشفت لأطراف التحالف النيات.
وبفشل الانقلاب خسرت المعارضة واحدة من معاركها الوطنية مع النظام الإمامي، وكانت كلفتها عالية، وكان على الحركة أن تعيد بناء نفسها من جديد، إلا أن خسارة المعركة هذه لم تكن تعني خسارة الحرب ضد الإمام والإمامة، ومن أجل التقدم والحرية فهذه معركة طويلة، وفي المقابل كسب النظام هذه المعركة، ومدت هذه المعركة من عمره سنوات أخرى، لكنه لم يكسب الحرب بصورة نهائية مع القوى الوطنية، ولهذا لم تكن الخسارة للمعركة نهائية ولا النصر كان أبدياً.
وكانت هناك بعض النتائج أبرزها أن الإمام أعلن رسمياً عن تعيين ابنه محمد البدر ولياً للعهد، وكان ذلك ممايخالف طريقة اختيار الإمام في المذهب الزيدي، لكن الإمام وجد الفرصة سانحة، وقد ضعف الخصوم والمناوئون، وتراجعت مكانة الحسن الذي لم يبادر برفض الانقلاب، ولاندد بالقائمين عليه، وعوضاً عن ذلك عرض وساطته لحل الخلاف وتهدئة الأحوال، فحفظها له الإمام أحمد ولم يسمح له كما رأينا بالعودة إلى اليمن ولكي يشغله كلفه بمهام خارجية، فتعمقت خلافات الأخ بأخيه، لكن الخلاف الأكثر عمقاً حدث بسبب عمليات التصفية التي طالت رأسي أميرين، وإرسال أمراء آخرين إلى السجون، وكذلك بعض من زعماء الأسر ذات المكانة في النظام الزيدي فازداد النظام ضعفاً وتفككاً.
وعموماً فإن الانقلاب العسكري قد مثل نقطة فاصلة في سياسة الإمام أحمد فختم مرحلة اتسمت بالانغلاق الشديد، والعزلة شبه التامة، وافتتح مرحلة جديدة حملت معها بعض التغيير في السياسات الداخلية وكذلك في السياسات الخارجية للإمام، وفي هذه المرحلة سمح الإمام لابنه البدر أن يقود عملية انفتاح محدود على الدول العربية وفي الأساس مصر والسعودية كما سمح له بالانفتاح على العالمين الشرقي والغربي معاً، رفعت من مستوى التعامل السياسي والتعامل الاقتصادي وحصل اليمن على مساعدات مختلفة واتخذ الإمام قراراً حذراً بإعادة تأهيل الجيش تدريباً وتسليحاً إلا أنه لايجوز المبالغة في تقدير مدى هذا الانفتاح والتغيير، لأن عناصر العزلة في نفسية الإمام كانت أقوى وأشد أثراً من عناصر الانفتاح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.