انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر. كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة. ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية. وقويت شوكة الإمام أحمد بعد الانتصار الذي حققه أنصاره، وازداد عدد الرافضين لحكومة الوزير فيما كان موقف الوزير يزداد ضيقاً وحرجاً، وتحولت ضواحي صنعاء«الصافية» و«قبة جباري» و«ظهر الحمار» و«جبل نقم» إلى ساحة معارك، فلجأ ابن الوزير إلى جامعة الدول العربية ولكن الإمام أحمد رد هذه المرة برفض أي تدخل خارجي.. فقد تغيرت موازين القوى بين بداية الأزمة، وقرب نهايتها وتبدلت المواقع وكسب أحمد موقف شخصيات لها وزن وثقل قبلي كبير، كالشيخ حسين بن ناصر الأحمر. لقد أسندت مهمة الدفاع عن العاصمة إلى مجموعات عسكرية تولى قيادتها محيي الدين العنسي، وقاتلت هذه ببسالة، واستمرت المواجهات حول العاصمة نحو عشرة أيام، ومع مرور كل يوم جديد كان الحال يزداد سوءاً وانتهت المعركة بالخيانة التي قامت بها قوات المدفعية الموجودة حينذاك في قصر السلاح، حيث راحت تقصف الدار التي كان يسكنها الإمام عبدالله الوزير، وكان ذلك ليلة السبت 11مارس 8491م وعلى اثر ذلك استسلم عبدالله الوزير، وأشعلت النيران في قصر السلاح كما أشعلت في سطوح منازل صنعاء أعقب هذا اشاعة بأن سيف الاسلام أحمد قد احتل قصر السلاح، وألقى القبض على الإمام الوزير وانتهى الأمر بدخول القبائل صنعاء في نفس اليوم، وأخذت تنهب المنازل،والمتاجر، وتقتل كل من يحاول الدفاع عن ممتلكاته، ولم تفرق بين الشيخ والشاب، والمرأة والرجل. أما القبائل التي وصلت متأخرة ولم تجد ماتنهبه فقد قامت بمهاجمة القبائل التي بحوزتها كمية كبيرة من المنهوبات فضاعف ذلك من سفك الدماء وازهاق الأرواح وقد قدرت حجم المنهوبات في صنعاء فيما بعد بنحو 002مليون ريال يمني«04مليون جنيه استرليني» وهو مبلغ ضخم بالقياس إلى اقتصاد اليمن، وامكانيات المواطنين في ذلك التاريخ. «ج» مأساة الأحرار: لقد أعقب سقوط العاصمة، وعلى مدى ثلاثة أيام اعتقال مايقرب من ألف شخص من علماء ورجال دين وأدباء ومثقفين وضباط ومشايخ وطلاب من المدرسة العلمية وآخرين من الكلية الحربية«المدرسة الحربية» والمتطوعين القادمين من عدن لنصرة الانقلاب فبالاضافة إلى عبدالله الوزير، اعتقل معظم قادة المعارضة. وامتدت الاعتقالات لتشمل معظم المدن اليمنية وبعد ذلك جرت بأمر من الإمام أحمد سلسلة من الاعدامات على فترات زمنية مختلفة، طالت رؤوس كل من عبدالله الوزير إمام الدستوريين، وعلي عبدالله الوزير رئيس وزراء حكومة الانقلاب، والأمير ابراهيم بن يحيى الذي قيل إنه مات مسموماً، وحسين الكبسي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، وجمال جميل العراقي، وآخرين. وكان الإمام أحمد، كلما أعدم طائفة، أخرج الأخرى إلى ساحات الاعدام فضرب رؤوسها، رغبة في مزيد من الانتقام، وكان ذلك يثير لدى الناس شعوراً متزايداً بالظلم، ورفضاً خافتاً حتى أُعدم الشاب عبدالله بن محمد الوزير، فتعاطفت معه الجماهير، لأن إعدامه لم يكن مبرراً، وجريرته الوحيدة كما يبدو أنه حمل رسائل عبدالله الوزير إلى بعض الزعامات، التي نفذت مهاماً انقلابية ضد الإمام يحيى، فكان ذلك بداية تحول في وعي الجماهير وإدراك مبكر لطبيعة الإمام أحمد الدموية ونظام حكمه القادم. وتأخرت الحكومة العراقية لتدخل من أجل إنقاذ القائد العسكري للانقلاب جمال جميل، ومن المؤكد أن الإمام ما كان ليهتم بشفاعة الملك فاروق بحق العراقي، بعد أن استجارت به أمه، كان جميل العمود الفقري للانقلاب، وكان أحمد ممن لا يعرفون التسامح مع الخصوم. واستضافت سجون صنعاء وحجة الرهيبة زعماء المعارضة، كان من بينهم النعمان، والإرياني، والشامي، وصبرة، والأكوع، والسلال، والفسيل، والعمري، والشماحي، وغيرهم.. وخيم الوجوم على كل مدينة وقرية، وانتشر الرعب، ودخل كل بيت، وبدأت اليمن مرحلة جديدة أكثر سوءاً، وأكثر دموية. «د» موقف جامعة الدول العربية من الصراع في اليمن: في الحقيقة فإن جامعة الدول العربية لم تهتم بما يجرى في اليمن قبل الانقلاب الدستوري في 71فبراير 8491م لقد اعتبرت هذه مسألة داخلية، ولم تعط نداءات إبراهيم ابن الإمام يحيى إلى الجامعة للتدخل اهتماماً يذكر. وعندما حدث الانقلاب كان مجلس الجامعة العربية في دور انعقاده العادي بالقاهرة «الدورة الثانية العادية فبراير 8491م» أعربت الدول الأعضاء في المجلس عن قلقها إزاء تدهور الموقف العام في اليمن، ولكنها عجزت عن تحديد أي من الجانبين المتقاتلين يمكن الاعتراف به كحكومة شرعية في البلاد، فأوفدت إلى اليمن وفداً فنياً للاطلاع على مايجرى هناك، ووصل الوفد إلى صنعاء بعد مضي خمسة أيام على قيام الانقلاب وترأس الوفد عبدالمنعم مصطفى مدير إدارة المعاهدات الدولية بوزارة الخارجية المصرية، وعضوية الدكتور حسن إسماعيل المستشار التجاري بالجامعة، ومحمد مصطفى ياسين وكيل الإدارة العربية، وجاء الوفد على طائرة مصرية يقودها الطيار عبداللطيف البغدادي، الذي أصبح فيما بعد عضواً بارزاً في قيادة مجلس الثورة المصري، والتقى الوفد بكبار الشخصيات اليمنية وأثناء اللقاء قام البغدادي وطاقم الطائرة بناء على توجيه من قيادته ورغبة ملحة من حكومة الانقلاب بالتحليق فوق مناطق النزاع، ووزع منشوراً يشرح فيه أهداف الانقلاب ويندد بولي العهد، فأحرج ذلك موقف رئيس الوفد، فقرر العودة إلى القاهرة كون الوفد أصبح طرفاً في النزاع. ومع ذلك فقد اتخذ مجلس الجامعة قراراً قضى بدعوة مجلس الجامعة إلى دورة انعقاد استثنائي في مدينة جدة، أقرب مكان لمسرح الأحداث، وإنشاء لجنة تحقيق تتولى متابعة الأحداث. وتوجه أمين عام الجامعة العربية مع ممثلي الدول العربية الأعضاء إلى الرياض، لعل في هذا الجهد حقناً للدماء، وكان المقرر أن يلتقي بالملك عبدالعزيز، لكن هذا اللقاء قد تأجل فاضطر الوفد للانتظار، وفي الواقع فإن موقف الملك عبدالعزيز كان حاسماً من الانقلاب الدستوري، إذ بالرغم من تحفظه على الإمام أحمد إلا أنه رأى في مقتل الإمام والملك يحيى عملاً شائناً، فقرر تقديم الدعم المادي والمعنوي لأحمد، ومن ضمن ذلك الدعم، عدم السماح للجامعة العربية بالاعتراف بالنظام الجديد، وعنف وفد الإمام عبدالله الذي ترأسه الزبيري، وكان في عضويته الفضيل الورتلاني، وعبدالله بن علي الوزير على مقتل الإمام يحيى، وأبلغهم أنه يأبى التدخل، ويلتزم الحياد، ويترك للجامعة العربية معالجة الموقف بما يتفق ومصلحة العرب. وعلى أرض الواقع كانت القبائل تتقدم نحو العاصمة صنعاء، وأظهرت دفاعات الأحرار فشلاً ذريعاً في التصدي للزحف القادم على المدينة، وتساقطت مواقع الدفاع موقعاً موقعاً، ودخلت قوات الإمام أحمد المدينة في 11مارس 8491م فلم يعد أمام الجامعة العربية غير الاعتراف بالإمام أحمد ملكاً لليمن. «ه» الموقف البريطاني من الانقلاب الدستوري: حرص البريطانيون على أن يحتفظوا بمسافة بينهم وبين مايجرى في صنعاء من تطورات، وإن كانوا قد سمحوا للمعارضة بالتحرك من عدن إلى تعز براً، ومن عدن إلى صنعاء جواً، ومن المرجح أنهم كانوا يأملون في الإحاطة بنظام الإمام يحيى الذي رفض الاعتراف بحقهم في الوجود في عدن والمحميات، وربما اعتقدوا أن أية حكومة جديدة لابد أن تأخذ موقفاً أقل تشدداً من موقف الإمام السابق، خاصة وأن الأحرار الذين استضافتهم عدن، ومنحتهم الأمان قد أصبحوا على رأس النظام الجديد. وقد أشارت بعض المراجع إلى أن حاكم عدن البريطاني أبرق للإمام عبدالله الوزير مهنئاً جلالته بالمبايعة، وطلب السماح له بالتعبير نيابة عن حكومته بإرسال سفينة حربية إلى الحديدة لتؤدي التحية، على أن لا تبقى في الميناء إلا نصف ساعة، وبعد موافقة جلالته على هذا، وصلت بارجة إلى ميناء الحديدة، فتبادلت التحية مع حامية المدينة، وكانت الحكومة قد أصدرت أوامرها إلى حاكم الحديدة بالترحيب بقائد البارجة، وبعد أداء المراسيم التقليدية عادت البارجة إلى عدن. لقد كان من الطبيعي أن تظهر بعض الشكوك حول صحة هذا الخبر من عدمه، ذلك أن المدينة «الحديدة» وواليها حسين الحلالي ممن وقفوا إلى جانب الإمام أحمد، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يرفض والى الحديدة طلب الإمام عبدالله زيارة البارجة لأن تلك الزيارة مما لا يتناسب وموقف الوالي، أو على الأقل أن يتجاهله، أما أن تتم الموافقة على زيارة البارجة، ويتم تبادل التحايا مع حامية المدينة فذلك أمر يصعب تقبله. «و» : أسباب فشل الانقلاب: 1 كان من بين الأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها المعارضة نشر الميثاق الوطني خطأً، وكذلك قائمة الحكومة من قبل الأحرار في عدن، عقب الإشاعة الكاذبة بأن يحيى قد مات، فتنبه ولي العهد إلى خطورة ما يجرى التحضير له، فأخذ ما يكفي من احتياطات، وفي نفس الوقت فإن انكشاف مخطط الانقلاب دفع الأحرار إلى الاستعجال، فاتخذوا قرارات غير صائبة، وتصرفوا بارتباك واضح. 2 كان مقتل الإمام يحيى «قميص معاوية» استخدمه ولي العهد لاستثارة العطف على الإمام، وتحريض القبائل للأخذ بثأره، خصوصاً وأن أعداءه قتلوا أحد أحفاد الإمام البالغ من العمر سبع سنوات، وكذلك قتلوا الأميرين الحسين والمحسن. 3 وكان هناك استياءً عربياً من عملية القتل ذاتها، فقد أبدى الملك عبدالله انزعاجه من عملية الاغتيال، وكذلك الملك فاروق، ولم يستسغ الملك عبدالعزيز أن يصرع جاره بالرغم من صداقته للإمام الجديد عبدالله الوزير، وكان الأحرار قد استعانوا بجمال جميل الذي بعث برسائل إلى جميل المدفعي، يطلب منه ضمان موقف حكومة «صالح جبر» إلى جانب حكومة الانقلاب، لكن حكومة الأخير سقطت قبل شهرين من الانقلاب ولم تخفف جهود الاخوان المسلمين الذين كانوا يعرفون تفاصيل مايجرى في اليمن، من موقف الحكومات العربية، بالرغم من أنهم وعدوا بتأييد الأحرار ومساندتهم. 4 لقد كانت عملية اغتيال الإمام يحيى سبباً من أسباب فشل الانقلاب الدستوري، فأهل صنعاء لم يتقبلوا عملية الاغتيال، وعندما ظهرت لهم حقيقة ما جرى أبدوا حزناً ظاهراً على الإمام القتيل، وتعاطفاً مع أبنائه الذين قتلوا معه أو الذين ظلوا على قيد الحياة بين جدران السجون، ثم إن الإمام أحمد بخبرته ومعرفته بطبيعة القبائل الزيدية التي مازالت حتى ذلك الحين تكن المزيد في التقدير لمنصب الإمام عرف كيف يثير حماسها، ويحرضها على الانتقام لأبيه وأخوته، فانضم على التو بعضها إلى صفه، وانفض بعضها الآخر عن ابن الوزير والحكومة الدستورية الجديدة، ومن بينها قبائل كانت تقيم بالقرب من صنعاء، وهو الأمر الذي سهل لاحقاً مهاجمتها واقتحامها بالطريقة والسرعة التي حدثت بها، لقد لعب التخلف دوره في حماية الإمامة المتوكلية من السقوط، وخسرت المعارضة أولى معاركها مع السلطة وكانت خسارتها كما سنرى كبيرة وفادحة بالقياس على ماحدث بعد ذلك لقادة الانقلاب ورموز المعارضة من الأحرار. 5 وكان من أسباب الفشل التناقضات التي كان يحفل بها هذا اللقاء بين الأحرار، وهم الطليعة من الشباب المستنير، وبين الأسر الطامعة التي كانت متناحرة فيما بينها أساساً، كما أن الأحرار أنفسهم لم يكونوا على درجة من القوة الذاتية التي تمكنهم من تسيير الأمور، وتوجيه الأحداث كما كانوا يريدونها، وكان الأحرار مرتبكين، ومبهورين من تقبل هذه الأسر التعامل معهم، مما لا يتيح لهم سبيل التمعن في دلالات هذا اللقاء الخطير، والاحتياط له، فأسلموا أنفسهم وتسابق معظمهم بلا بصيرة، ولا روية إلى صنعاء، قانعاً من العملية كلها بالخلاص من أسرة آل حميدالدين. تصرف الإمام عبدالله في الأيام الأولى بسذاجة فقد تردد لعشرة أيام حتى تقرر لجنة إمكانية استخدام أموال الدولة لتثبيت العهد الجديد، في الوقت الذي تصرف أحمد بشجاعة القائد وخبرة السياسي، فأنفق المال على القبائل، وكسب ودها، وأغراها بنهب صنعاء، وربما كان تصرفه هذا لا أخلاقياً حقاً، لكن التصرف لم ينجح إلا لأن الطرف الآخر كان مثالياً. 2 شخصية الإمام أحمد: ولد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين في الرابع من يونيو 5981م، بقرية «الرأس» جبل «الأهنوم» التابع للواء حجة، وعاش طفولته في كنف جده الإمام المنصور بالله محمد بن يحيى المتوفى سنة 4091م، وقد لاحظ جده عليه ملامح الفروسية وشمائل البطولة، فتنبأ له بتفوق عظيم، وبزوغ رائع. أخذ العلم من أكابر علماء اليمن إلى جانب جده ووالده، كان منهج الدراسة في ذلك يعتمد أساساً على مواد دينية ولغوية، فكان الطالب يدرس شيئاً من علوم القرآن، والحديث، والفقه، والأصول، والنحو، والمعاني، والبيان، ولا توجد إشارة على أنه درس أياً من العلوم الحديثة حتى أن حظه من المعارف التاريخية كان قليلاً. كان ابن بيئته، والإنسان لابد أن يحمل معه شيئاً قل أو كثر من آثار هذه البيئة وإن تغيرت، إلا أن آثارها في المراحل الأولى من العمر تبقى عالقة مؤثرة في شخصيته، سواء شعر بذلك ووعى، أو لم يشعر ولم يع، وكانت بيئته التي نشأ فيها بيئة مضطربة، كان جده الإمام محمد بن يحيى حميدالدين، قد استدعي للخلافة بعد موت الإمام الهادي شرف الدين، ولم يكن الأمر ميسوراً، كان هناك منافسون أقوياء على الإمامة، لكن وقوف علماء لهم ثقل ديني ومكانة اجتماعية، وشيوخ تمتعوا بنفوذ قبلي، وكذلك ابنه الإمام يحيى، جعلت الإمامة فيه دون غيره، وقد كان أجداده القواسم حكاماً في اليمن، بل هم أكثر حكام اليمن شهرة، وفي عهدهم امتد نفوذ الدولة الزيدية حتى حضرموت، وقد حمل جده الإمامة، ونهض بأعبائها، وعندما توفي جده في 4091م، صار والده إماماً في ظروف مشابهة عرف من خلالها معاني النصر والهزيمة. في هذه البيئة نشأ الإمام أحمد، وهي بيئة زاخرة بالعلم، فجده كان عالماً، وكذلك والده وهذه البيئة ذاتها هي التي ربت فيه روح الجهاد، إذ لم يكد والده يحيى يتربع على عرش «الخلافة» حتى اشتعلت في اليمن حرباً لا هوادة فيها ضد الأتراك، وشارك فيها الغالبية العظمى من أبناء اليمن المناطق المرتفعة على وجه خاص فقد توافدت عليه القبائل من كل حدب وصوب لمبايعته على الإمامة والجهاد ضد الأتراك، فقابل الأتراك هذه القوى الثائرة، المطالبة بحقوقها، بقوة الحديد والنار، فهدمت مدن وقرى، وأزهقت أرواح، واشتدت المحنة، وعظم البلاء على المجاهدين وفي هذه الفترة كان الأمير أحمد الإمام فيما بعد في كف نوائب الدهر، تتكون مع تكوينه حياة جيل جديد، وكان هو يمثل جانباً منها. وفي عائلته حاصل على صفاته الأولى، والتي صقلتها الأيام فيما بعد، وتقليدياً فإن العائلة، تقوم بمهام التنشئة الأولى، لكن ذلك لا يحصل بعيداً عن تأثير المدرسة والمجتمع ديناً وثقافة فعادةَ هذه المؤسسات الاجتماعية تكمل بعضها البعض، ومن هنا ينشأ الأفراد يحملون قيم المجتمع ذاته، أخلاقه، ومبادئه، واهتماماته، ويتأثرون بهذه القيم بحسب مواقعهم الاجتماعية الطبقية، وقد تركت عائلة أحمد، الجد الإمام، الأب الإمام، والمكانة الاجتماعية المرموقة، أثرها عليه.. بالإضافة إلى كونه الابن الأكبر في عدد غير قليل من الأبناء «خمسة عشر ولداً غير البنات» وكان محل اهتمام والده، لكنه لم يكن المحبب والقريب إلى قلبه، فتلك مكانة كان يحوزها أخوه الأصغر منه «محمد». في هذه الأجواء تلقى تنشئته السياسية الأولى، وقد عرفت دائماً في علم الاجتماع بأنها عملية فرعية من عمليات التنشئة الاجتماعية، وهي تتصل بكل ما يتعلق بنقل القيم والأفكار والمعتقدات والمعلومات والاتجاهات السياسية، وقد تكون هذه العملية مقصودة تهدف إلى تمكين الفرد أو الأفراد من تملك المعلومات والقيم السياسية وقد تكون عامة بحيث تستغرق كل صور التعلم السياسي الرسمية وغير الرسمية، المقصودة وغير المقصودة في أية مرحلة من مراحل دورة الحياة.. وإذا كانت التنشئة الاجتماعية تهدف إلى خلق الإنسان الاجتماعي، فإن التنشئة السياسية تهدف إلى خلق الإنسان السياسي، الذي يعرف حقوقه وواجباته ويشارك مشاركة فعالة في الحياة الاجتماعية والسياسية لمجتمعه المحلي ومجتمعه الأكبر. وليس هناك ما يشير إلى أن رأس الهرم الزيدي، المتمثل في أئمته، وطبقته المثقفة كان يهتم بالتنشئة السياسية الهادفة إلى تكوين ملاكات يمكنها تبوؤ مناصب سياسية في دولة الأئمة، أو أن لهذه التنشئة مدارس خاصة، يتلقن فيها أبناء هذه الفئة العليا المميزة في المجتمع الزيدي علوماً ومعارف وقيماً خاصة، لكن البيئة ذاتها تعتبر حقلاً خصباً واسعاً من المعارف والممارسات السياسية، تساعد على التعلم، واكتساب الخبرة، واختبار القدرات، فالإمام منصب ديني وسياسي له شروطه في الزيدية، تنفرد ببعضها دون سائر المذاهب، فلا يصبح الإمام إماماً إلا إذا استوفى هذه الشروط، وقد حدث أن أحمد اقترب من هذه الشروط مع وجود الأفضل. وعندما تجاوز الإمام أحمد الثانية والعشرين من عمره كان والده قد أصبح إماماً وملكاً متوجاً في عاصمة اليمن السياسية، ومركزه الحضاري وهذه الفترة في عمر الفرد الإنسان تغرس فيها الكثير من القيم، وتتخلق فيها الكثير من أوجه السلوك، لقد أصبح الأمير الصغير «أحمد» في ظروف ذلك الوقت «نشأة الدولة وحروب التوحيد والصراع الإمامي البريطاني على الجنوب» واحداً من القادة العسكريين البارزين، الذين عوّل عليهم الإمام لقمع القبائل المتمردة، وإخضاع المناطق الثائرة في وجه الإمام الجديد، فاصطدم منذ مقتبل عمره بمواقف القسوة والعنف، فأخذ من هذه المواقف ما شكل شخصيته المتوترة، والمتحفزة الحذرة، والطامحة فكان ميالاً للعنف، الذي اختبره في مطلع حياته قاسياً على خصومه، متعجرفاً، ومستبداً، ورأى في هذا العنف وسيلة ناجحة لتحقيق الأهداف، فتطبع بهذا السلوك، كما أن هذا السلوك قد أصبح جزءاً من شخصيته. يقول مجالسوه إن مفتاح شخصيتة فروسيته، وقد رأيناه فارساً في مواقع القتال، شجاعاً، ومقداماً، ومغامراً، وذا إرادة قوية، لا يأبه لصغار الأمور طالما كان يرى الهدف أمامه واضحاً، لكن صفات الفروسية عديدة، فالفارس المغوار نبيل بالدرجة الأولى، لايحتقر ضعيفاً، ولم يكن أحمد كذلك على الأقل في سنوات عمره الأخيرة. وقد رأينا كيف عامل أخاه عبدالله بعد انقلاب 5591م ومعارضيه الآخرين، لقد تعمد تحقيرهم وإذلالهم، والفارس النبيل لايستهين بكريم أو يتغاضى عن منكوب ولم يكن أحمد ممن يولون اهتماماً بمثل هذه القيم والشمائل، كان حقوداً، وماكراً، وعنيداً لا يتورع عن قتل خصومه، طالما شعر بأن بقاءهم على قيد الحياة يمثل شيئاً من الخطر على إمامته، وملكه، فنراه يمعن في القتل بعد 8491م ويتلذذ بدماء أعدائه، ويتكرر هذا النمط من السلوك في حياته في عام 5591م بعد انقلاب الثلايا، رغم أن الانقلاب حافظ على حياته، ولم يقتله كما فعل غيره بوالده. وكان شاعراً، وعالماً، وخطيباً و« مسعر حرب» «محرض» وقائداً عسكرياً قريباً وبعيداً، فإذا اقترب اختلط بالجماهير، وتعرف على مشاكلها، وأدار أمورها، وصال وجال، وأقام مع خاصته أندية الفرح والأدب، وإن ابتعد احتجب وعلى نفسه انطوى .. ومثل هذه الشخصية تلتقي عندها المتناقضات، وينبت في ظلها الشوك والورد، فأنك لاتكاد ترى أحمد عباس، وكامل، ومحمود، وعلي العذرى وأضرابهم وهم من يصفهم بالشوك إلا وأنت ترى الارياني وأحمد الشامي، وأمين أبو راس، وحسين الويسي، وقبلهم كان الزبيري، والنعمان،والموشكي،وغيرهم، حوله وفي مقايله، وبالقرب من ديوانه، لكن علمه لايرقى إلى ذرى والده، ذلك الفقيه المجتهد،والعالم الذي اعترف بعلمه اليمنيون وغير اليمنيين ممن عرفوه، أو خاطبوه، أو تبادلوا معه وجهات النظر على صفحات المجلات والدوريات.