هل ستُصبح العملة الوطنية حطامًا؟ مخاوف من تخطي الدولار حاجز 5010 ريال يمني!    في ذكرى عيد الوحدة.. البرنامج السعودي لإعمال اليمن يضع حجر الأساس لمشروع مستشفى بمحافظة أبين    حدادا على شهيد الريح : 5 أيام في طهران و7 في صنعاء !!    مفاتيح الجنان: أسرار استجابة الدعاء من هدي النبي الكريم    الرئيس رشاد العليمي: الوحدة لدى المليشيات الحوثية مجرد شعار يخفي نزعة التسلط والتفرد بالسلطة والثروة    رئيس إصلاح المهرة: الوحدة منجز تاريخي ومؤتمر الحوار الوطني أنصف القضية الجنوبية    قيادي إصلاحي: الوحدة اليمنية نضال مشرق    الرئيس العليمي يبشر بحلول جذرية لمشكلة الكهرباء    الرئيس العليمي : قواتنا جاهزة لردع اي مغامرة عدائية حوثية    "العدالة تنتصر.. حضرموت تنفذ حكم القصاص في قاتل وتُرسل رسالة قوية للمجرمين"    "دمت تختنق" صرخة أهالي مدينة يهددها مكب النفايات بالموت البطيء!    بطل صغير في عدن: طفل يضرب درسًا في الأمانة ويُكرم من قِبل مدير الأمن!    خبير جودة يختفي بعد بلاغ فساد: الحوثيون يشنون حربًا على المبلغين؟    الونسو: اتالانتا يشكل تهديدا كبيرا    بن عديو: الوحدة تعرضت لسوء الإدارة ولا يعني ذلك القبول بالذهاب نحو المجهول    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    إيقاد الشعلة في تعز احتفالا بالعيد الوطني 22 مايو المجيد والألعاب النارية تزين سماء المدينة    محمد قحطان.. والانحياز لليمن الكبير    في ذكرى إعلان فك الارتباط.. الانتقالي يؤكد التزامه باستعادة دولة الجنوب (بيان)    أبين.. منتخب الشباب يتعادل مع نادي "الحضن" في معسكره الإعدادي بمدينة لودر    الوزير الزعوري يناقش مع وحدة الإستجابة برئاسة مجلس الوزراء الملف الإنساني    وزير الشؤون الاجتماعية يشيد بعلاقة الشراكة مع اليونيسف في برامج الحماية الإجتماعية    التعادل يسيطر على مباريات افتتاح بطولة أندية الدرجة الثالثة بمحافظة إب    القبض على متهم بابتزاز زوجته بصور وفيديوهات فاضحه في عدن    تراجع أسعار النفط وسط مخاوف من رفع الفائدة الامريكية على الطلب    الامين العام للجامعة العربية يُدين العدوان الإسرائيلي على جنين    لاعب ريال مدريد كروس يعلن الاعتزال بعد يورو 2024    المبعوث الامريكي يبدأ جولة خليجية لدفع مسار العملية السياسية في اليمن مميز    إحصائية حكومية: 12 حالة وفاة ونحو 1000 إصابة بالكوليرا في تعز خلال أشهر    الآنسي يعزي في وفاة الشيخ عبدالمحسن الغزي ويشيد بأدواره العلمية والدعوية والوطنية    الوزير البكري يلتقي رئيس أكاديمية عدن للغوص الحر "عمرو القاسمي"    تناقضات الإخواني "عبدالله النفيسي" تثير سخرية المغردين في الكويت    الحوثي للاخوان: "اي حرب ضدهم هي حرب ضد ابناء غزة"!!!!    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن حملة علاجية مجانية لمرضى القلب بمأرب    "وثيقة".. كيف برر مجلس النواب تجميد مناقشة تقرير اللجنة الخاصة بالمبيدات..؟    تقرير برلماني يكشف عن المخاطر المحتمل وقوعها بسبب تخزين المبيدات وتقييم مختبري الاثر المتبقي وجودة المبيدات    الحوثيون يعبثون بقصر غمدان التاريخي وسط تحذيريات من استهداف الآثار اليمنية القديمة    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    قاتلكم الله 7 ترليون في الكهرباء فقط يا "مفترين"    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962 الحلق15
نشر في الجمهورية يوم 15 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
وأكثر عادات وتقاليد المجتمع اليمني سوءاً هي عادة الثأر القبلي، وعادة تعاطى شجرة «القات»،وعادة الثأر في اليمن هي نتاج الواقع القبلي، وقد عرفنا أن هناك المئات من القبائل اليمنية عاشت فترات طويلة، إما متحاربة، أو متحالفة، وكان لهذه الحروب والتحالفات أسبابها الاقتصادية إلى جانب أسباب أخرى، فليس من طبيعة البشر الرغبة في القتل والاقتتال، إنما تدفعهم إلى ذلك ضغوط الحياة، والحفاظ على قدر أكبر من الموارد الاقتصادية تحت السيطرة القبلية، والأرض والمياه والمراعى أكثر هذه الموارد أهمية، وفي غياب الدولة والقانون العام، فإن بعض الحروب والنزاعات تطول، وتلقي بآثارها على حياة الناس والمجتمع، وتظهر نتائجها في علاقات الناس في الريف بوضوح أكبر،ولكن المدينة لاتسلم من هذا التأثير، وعادة وحتى لو زالت الآثار الاقتصادية، وتم التغلب على الأسباب المباشرة فإن هذا الصراع يتحول إلى ثارات وثارات مضادة تكمن فترة،ثم تظهر من جديد لنفس الأسباب أو لأسباب أخرى.
لقد ترك الأئمة القبائل تتناحر بينها،وسواء كانت أسباب هذه الخلافات اقتصادية، أو اجتماعية،فإن الأئمة رأوا افي استمرار هذه الخلافات فائدة لنظام الحكم، من حيث كونها تؤدي إلى انشغال القبائل بمشكلاتها الخاصة، وهم لايتدخلون في هذه الخلافات إلا إذا تجاوزت حدودها، وتحولت إلى مصدر لإقلاق أمن النظام، وهددت مصالح الطبقة الحاكمة.
لقد نكبت اليمن بعادة «مضغ القات » والقات شجرة،أوراقها خضراء طازجة لها خاصية شبيهة بخاصية بعض المخدرات المحرمة دولياً، ويقبل اليمنيون على مضغها،وتظل في أفواههم ساعات طويلة،يشعرون خلالها بالسعادة،وينتابهم الإحساس بشيء من الاستخفاف النفسي والنشوة، وقد يصبح متعاطيه ثرثاراً مرحاً،يميل إلى الكلام والهذر،وبالرغم من أنه لايضاهي في أذاه الأفيون، والحشيش، إلا أن المرء يصبح مدمناً له، فتنقص شهيته، وتتبلد حواسه، ويؤدي إدمانه إلى سوء الهضم، بحيث تبدو على المدمن علامات نقص التغذية، وكانت هذه العلامات قوية بين الجنود والفقراء قليلي الدخل،وأفقر فقراء اليمن يحرمون أنفسهم من الغذاء لشراء هذا المخدر الذي يدخل عليهم السرور بعضاً من الوقت.
وتمتد آثار القات إلى الحياة الاقتصادية والاجتماعية،فاليمنيون يقضون نصف نهارهم في مجالس القات، فيعملون لهذا السبب بنصف طاقتهم الإنتاجية،وأغلبيتهم تعاني من الإرهاق في الصباح، وقد يكون القات من أسباب التخلف في العمل، كما تمتد آثاره إلى الأسرة،ومعظم الأسر التي يعتمد ذووها على مرتباتهم وأجورهم المحدودة تعاني من الجوع،وقد تتفكك بعض هذه الأسر بسبب إدمان الأب وأحياناً الأم القات، كما ثبت أن القات من الأسباب الرئيسية لحوادث السرقة والقتل.
ولايعرف تاريخ محدد لظهور القات في اليمن،ويعتقد بعض المؤرخين أن اليمنيين عرفوا القات أول ماعرفوه في القرن الخامس عشر الميلادي وقيل إنه انتقل إلى اليمن من «الحبشة» ويقال إن مكتشف القات راعي غنم رأى شاة له تمضغ هذه الشجرة،وقد بدا عليها شيء من النشاط، فحذا حذوها، ومن يومئذ أخذت هذه الشجرة في الانتشار، واولع بها اليمنيون ولعاً كبيراً، وبلغ الحال بأحد المولعين أنه قال:
يالائمي من تعاطي القات كمداً
لن نترك القات أحياء وأمواتاً
ويختلف العلماء في موضوع تحريم القات،ولكنهم جميعاً يتفقون ويوافقهم المولعون به على أنها شجرة ضارة مادياً وجسمانياً،وعلى العموم فإن شجرة القات من أخطر أدواء المجتمع اليمني،وأن مئات الملايين تذهب هدراً دون أية فوائد اقتصادية أو اجتماعية، خاصة وأنه في العقود الأخيرة قد شملت هذه العادة النساء إلى جانب الرجال، إلا أن نسبة المولعات بهذه الشجرة أقل، وقد اتضح أن إضرارها على المرأة أكثر من إضرارها على الرجل.
وكانت العادات والتقاليد الاجتماعية ساحة أخرى من ساحات الصراع الثقافي والفكري بين المحافظين،والمجددين المصلحين في المجتمع، ولذلك واجهت قضية الإصلاح بيئة ثقافية غاية في التخلف، وكانت العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية،جزءاً مكوناً أساسياً فيها وساحة من ساحات الصراع بين القديم والجديد،وكانت فكرة الإصلاح والتغيير تصطدهم بهذا الموروث الكبير الذي ألف إليه الناس وعايشوه فترة طويلة
من الزمن وكان تغيير العادات والتقاليد الاجتماعية أكثر صعوبة من حمل السلاح في وجه النظام الإمامي.
لقد استخدمت القوى المحافظة في المجتمع، وكذلك الطبقة الحاكمة العادات في مواجهة المطالبين بالإصلاح والتغيير بأشكال عديدة، مرة باسم الدين وأخرى باسم الوطن، وثالثة باسم خليفة الله على الأرض إمام المؤمنين، وفي المواجهة اعتبرت القوى المحافظة أن كل جديد إنما يمثل خروجاً على المألوف والمعتاد في الحياة، وكانوا دائماً يرددون من على المنابر أن ماتطالب به المعارضة هي بدع تبناها ناقصو الإيمان بالله العظيم، أدخلها الزنادقة الملحدون من بيئات علمانية، لا علاقة لها بتراث وتقاليد اليمن، ولا صلة لها بأصول الدين، وشريعة محمد بن عبدالله، واعتبروا أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وقد كانوا كما هي العادة في كل الصراعات بين القديم والجديد، يضربون على وتر الإيمان، والعقيدة والوحدانية بالله.
لكن التجديد كان يفرض نفسه يوماً بعد آخر، وسنة تلو الأخرى، وقد ساعد على ذلك أن العزلة التي فرضها الأئمة على اليمن قد كُسرت بعض حلقاتها وانفرط عقدها تدريجياً ودخل النور وتسربت أشعته إلى مجالات عديدة من حياة اليمنيين، فصبغت حياتهم الثقافية بألوان التغيير والتجديد كان من بينها عادات وتقاليد بالية، عاش المجتمع يمارسها طويلاً، ويتوارثها جيلاً بعد جيل، وكان لهذا التغيير أسبابه الموضوعية والذاتية أولاً: في التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في بنية المجتمع، على ندرتها.
وثانياً: في ظهور حركة التنوير والإصلاح، والتي حمل لواءها رجال دين مستنيرون، وأدباء، وشعراء، ومثقفون على اختلاف مشاربهم، تجاوزوا بها حدود الرفض والنقد لما هو قائم ولما هو ثابت على مدى طويل، فقدموا البديل الجديد، الذي اكتسب مع الزمن شرعيته من اعتناق فئات وطبقات اجتماعية له وقد حققوا نجاحاً كبيراً برغم التضحيات الجسام، وكان وصولهم إلى عقل وضمير الناس، هو إنجازهم الأفضل على الإطلاق.
وأخيراً هناك بعض الحقائق في الحياة الثقافية في اليمن، لابد أن يشار إليها:
أولها: أن المجال القائد للحياة الثقافية في اليمن كمافي غيرها من المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى هو الدين، حيث تتأسس الحياة الثقافية بمختلف مجالاتها على السيادة المطلقة للدين، ومن خلال الأساس الديني تتحدد الأسس والقواعد والمبادئ والقيم.
وفي الحالة اليمنية كما في الحالات الأخرى لانجد تفسيراً متفقاً عليه لمجموعة القيم الدينية، إذ يختلف الناس باختلاف مذاهبهم وحتى باختلاف فرقهم، فالقواعد والمبادئ الدينية العامة تصنع الأساس للثقافة العامة ويتفق الكل في كثير من الأمور ويختلفون حول غيرها وقد أسست المذاهب لما أسميناه بالثقافات الفرعية أو ساعدت على وجودها إلا أن الحقيقة الهامة هو أن الصراع المذهبي في اليمن لم يؤسس في الواقع صراعاً اجتماعياً لأن أسباب الصراع الاجتماعي كانت تتكون بفعل الامتيازات الطبقية، والظلم والقمع، وفساد أجهزة الحكم.
ثانيها: أن الثقافة السائدة كانت في الواقع هي ثقافة الطبقة الحاكمة، وقد حاول الأئمة إقناع الأغلبية من السكان بالوقوف خلفهم استناداً إلى فهم واحد ومشترك للقيم الدينية، وعملوا على تسويغ أفكارهم بشتى السبل والوسائل، ومنذ قرون تقبل بعض سكان اليمن فكر الإمامة الزيدية، ورفض آخرون هذه القيم، وكان على الشعب اليمني أن يكتشف في سياق تجربته أن الإمامة الزيدية وماتروجه من أفكار لن يجلب سوى التخلف والفرقة للمجتمع، وكان يجب أن يتقدم مثقفو المجتمع بأفكار ومبادئ وقيم جديدة، وكانت هذه الأفكار هي ماأردنا الإشارة إليها بالثقافة المعارضة أو بالثقافة الجديدة.
ثالثها: أن الأدباء والشعراء بصورة عامة قد لعبوا أدواراً تنويرية غاية في الأهمية، لقد حملوا على أكتافهم مهمة التعبير عن الجديد الثقافي المعارض، وفي البداية حاولوا مداراة الحكام وعدم الاحتكاك مع مسلماتهم والتي يؤمن بها الملايين من اليمنيين، لكنهم مالبثوا أن وجهوا سهام النقد ورفعوا شعارات الرفض لكثير من القيم القديمة التي كان الأئمة وكل المحافظين يحتمون بها، ومع المجاهرة بالجديد أخذ الخلاف يشتد بين قديم الأئمة وجديد المثقفين وتحول الخلاف إلى صراع حاد، استخدم كل طرف ماأمكنه من وسائل وإمكانات في المواجهة، ومارست ثقافة السلطة الهيمنة والقمع المعنوي والجسدي للمعارضين، ومع ذلك تطورت المعارضة وتهيأت للمثقفين وسائل ومنابر استخدموها بفعالية في هذه المواجهة، ساعدهم على ذلك أن العصر كان في مجراه العام عصر تغيير وثورة، وقد تأثر مثقفو اليمن بروح العصر وثقافة العصر، وقد ظفروا في نهاية المطاف، لأن ماعبروا عنه شعراً ونثراً وإبداعاً كان يلقى لدى الغالبية من السكان القبول شيئاً فشيئاً حتى تمثل وعياً جديداً في المجتمع.
ورابعها: كان الأئمة قد علقوا آمالاً على طريقتهم في تربية الناشئة، لقد حرصوا على ألا يشيعوا من التعليم إلا مااطمئنوا إلى غياب ضرره ومع المطالب الملحة للمعارضة وأصحاب الجديد الثقافي كان الائمة مضطرين للأخذ بالحدود الدنيا من هذه المطالب فقبلوا إرسال البعثات إلى الخارج واستقبال بعثات في اليمن، ومع اكتشاف الناس لأهمية العلم ومنجزات الحضارة الإنسانية المعرفية، راحوا يدفعون بأبنائهم إلى مراكز العلم والحضارة في العالم العربي.. ومع ازدياد عدد المتعلمين كانت مفاهيم الثقافة تتغير في اليمن وأقبل الناس على الجديد الثقافي كما أقبلوا على جديد من مجالات أخرى، وبسبب موقف الأئمة من كل جديد كان الصراع يظهر ويتبدى في المجتمع صراعاً بين القديم والجديد بكل أبعاده.
وفي الوقت الذي كان فيه التعليم واحداً من مجالات الصراع، كان بنفس الوقت عاملاً من عوامل الدفع بالمجتمع نحو حياة أفضل فبالرغم من أسوار العزلة الثقافية التي حرص الأئمة على بنائها، فإن النور قد تسرب إلى المجتمع اليمني من مصادر عديدة، ربما كان أكثرها تأثيراً ذلك النور الذي كان يحمله الطلبة العائدون من مصر والعراق والشام وحتى عدن المستعمرة.
الإعلام والصحافة:
وفي البلدان العربية بدأت النهضة فيما بدأت بظهور الطباعة التي أخذها العرب عن الغرب وكان العثمانيون قد جلبوا معهم في عودتهم الثانية إلى اليمن مطبعة حديثة، استخدمت لطباعة صحيفة سميت صحيفة «صنعاء» طبعت باللغتين العربية والتركية، وقد صدرت أعدادها الأولى في العام 9781م، واستخدمت للتحريض ضد الانجليز، ونشرت بعض المواد الدينية الإرشادية، وكذا البلاغات والمراسيم والاتفاقات والقوانين التي كانت الإدارة التركية حريصة على نشرها في ذلك الحين، وكانت أول صحيفة تصدر في شبه الجزيرة العربية، لكن هذا الحدث الذي كان له تأثيره الكبير في بلدان أخرى كمصر عندما جلب الفرنسيون المطبعة معهم كان تأثيره في اليمن دون ذلك بكثير.
وبعد دخوله صنعاء وبحروف المطبعة التركية أصدر الإمام «يحيى» صحيفة رسمية سماها «الإيمان» ابتداء من أكتوبر 9291م أي أن الأمر قد استغرق ثماني سنوات لكى يقوم الإمام بإصدار صحيفة رسمية يمنية، وقد استمرت الصحيفة في الصدور حتى 8ديسمبر 8591م مع توقف دام خمس سنوات تقريباً أثناء الحرب العالمية وما بعدها، صدر منها 473عدداً، وكانت مادتها هي نشر أوامر الإمام يحيى، وكيل المديح له ولعهده شعراًَ ونثراً، وعاشت هذه المطبعة بحروفها القديمة المهترئة إلى أن أسهمت في إصدار الأعداد الأولى من صحيفة الثورة بعد سبتبمر 2691م.
ولقد قامت هذه المطبعة بطباعة مجلة «الحكمة اليمانية» والقليل من الكتب الفقهية التي كان الإمام يرغب في نشرها مثل «الدرر المضيئة» و«نيل الأوطار» للشوكاني، و«سبل السلام» للأمير، و«الروض الباسم» للوزير، إلى جانب بعض كتب التاريخ، ولذلك قصة ليس هنا مجال لسردها، كما أن مطبعة الإيمان قد أسهمت في طباعة كتب المقررات الدراسية لمدرسة دار العلوم والجامع الكبير في صنعاء وجامع «الهادي» في صعدة، والمدرسة «الشمسية» في ذمار.
في الخمسينات وبداية الستينات كانت الحياة الثقافية كغيرها من المجالات الأخرى قد تأثرت بمنجزات العصر، وبأحداثه، حينها كانت ثورة مصر عام 2591م قد دفعت العالم العربي إلى مرحلة جديدة في تاريخه السياسي والاجتماعي، وكانت ثقافة العصر تتأثر بأحداثه، فإذا هي ثقافة وطنية قومية تحررية معادية للاستعمار بكل صوره وأشكاله، وكان اليمن في بؤرة هذا التغير، يؤثر فيه ويتأثر به، بالرغم من محاولات الإمام أحمد إغلاق المنافذ التي كانت تسمح بدخول هذا الفكر الجديد، والذي بدأ يتسرب سريعاً إلى وجدان الناس، ويتمكن من وعيهم، محاولاً تلافي تأثير المعارضة أيضاً في الداخل، والتي كان قد بطش بها بعد الانقلاب الدستوري في 8491م ففي عهده صدرت صحيفة «النصر» في تعز في فبراير 0591م وهذه صدرت بآلات جديدة اشتراها الإمام من عدن، وفي مايو 2591م صدرت صحيفة «سبأ» وهي الصحيفة التي كانت تصدر في عدن باعتبارها صحيفة أهلية موالية للنظام في مواجه صحف المعارضة التي انتقلت إلى تعز، وكانت هاتان الصحيفتان إلى جانب صحيفة «الإيمان» تعبران عن منهج النظام، وتصدران بالطريقة والأسلوب الذي كان يرضي الإمام الذي كان يطلع على أعدادها قبل الطبع، ويأمر بعد ذلك بطباعتها.
وفي صدورها الثاني في تعز فإن صحيفة «سبأ» ومع ازدياد حدة النقد قد نشرت بعض مقالات لكتاب مستنيرين أمثال أحمد دهمش الذي كتب مقالاً بعبوان «أخلاق البيع» ندد فيها بالظلم الاجتماعي، وبالتزلف للسلطة لدرجة الإسفاف من قبل المواطنين للحكام، لكن صاحب المقال اعتقل وحوكم، وكان مطيع دماج يكتب مقالات سياسية متعددة المضامين في الصحيفة، كما يكتب الشيخ يحيى منصور بن منصر، والسيد أحمد بن محمد الوزير، وفي طليعة الشعراء كان الشاعر الكبير البردوني ينشر قصائده على صفحاتها، وكان لقصائده دوي لا يقل عن أثر قصائد شاعر اليمن الكبير الزبيري في الأربعينات والخمسينات.
وبالرغم من هذا التقدم البطيء في واحدة من أكثر وسائل الإعلام الجماهيري تأثيراً، فإن هذا التقدم في عيون المراقبين من الخارج للحالة اليمنية في نهاية الخمسينات، يعد ضئيلاً وغير ذي قيمة، وأصحاب هذا الرأي يعتقدون أن الصحافة في اليمن وهم يعنون الصحافة الرسمية والأهلية الموالية للسلطة أقل ما يقال عنها إنها غير مؤهلة لأداء رسالتها الإعلامية والتثقيفية، وصحفيوها مسلوبو الإرادة في التعبير عن أنفسهم ومجتمعهم، وهم يتسابقون للتظاهر بتأييد السلطة الحاكمة، لذلك كان من غير الممكن الاعتماد على هذه الصحافة لمعرفة الاتجاهات السياسية لحكومة الإمام أحمد، كما أنها لا تهتم بالقضية المركزية للعرب «القضية الفلسطينية» ولا بالشأن العربي عموماً، وقد عزف الناس عن قراءتها، ولهذا نراهم ينتظرون باهتمام الصحف المصرية التي كانت المفوضية تقوم بتوزيعها أسبوعياً، أو صحف المعارضة التي أمكن إدخالها.
تلك هي صحف السلطة، أما صحف المعارضة فقد صدرت في الخارج، في عدن وبريطانيا وفي القاهرة، كان أشهر هذه الصحف «صوت اليمن» لسان حال «الجمعية اليمانية الكبرى» الاسم البديل «لحزب الأحرار» وقد صدر العدد الأول منها في 13 أكتوبر 6491م في عدن، وقد نشرت الصحيفة موقف المعارضة من النظام، وما أسمته «بمطالب الأمة» ودعت إلى إصلاح الدولة، ورفع المظالم، ووجهت نقداً شديداً لسيوف الإسلام حكام الألوية، وعلى الأخص الأمير أحمد ولي العهد، والتزمت الصحيفة خطاً عربياً متشدداً تجاه الأنظمة الملكية حتى أن ذلك كان سبباً من أسباب موقف الملك عبدالعزيز المعادي لحركة 8491م، واستمرت الصحيفة في الصدور حتى 11مارس 8491م، وهذا يعني أن الصحيفة قد توقفت عن الصدور بعد فشل الانقلاب مباشرة، وبعد أن زج الإمام بقيادة الأحرار في السجون، وقتل من قتل منهم في مجزرة رهيبة، نفذها الإمام أحمد في معارضيه ومعارضي الإمامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.