العاصمة عدن تشهد فعالية الذكرى ال7 لاعلان مايو التاريخي    الحرب القادمة في اليمن    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    الرئيس الزُبيدي : نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    خبير اقتصادي بارز يطالب الحكومة الشرعية " بإعادة النظر في هذا القرار !    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    أبطال المغرب يعلنون التحدي: ألقاب بطولة المقاتلين المحترفين لنا    تحديث جديد لأسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    الحوثيون يعتقلون فنان شعبي وأعضاء فرقته في عمران بتهمة تجريم الغناء    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    ماذا يجرى داخل المراكز الصيفية الحوثية الطائفية - المغلقة ؟ الممولة بالمليارات (الحلقة الأولى)    مارب تغرق في ظلام دامس.. ومصدر يكشف السبب    ترتيبات الداخل وإشارات الخارج ترعب الحوثي.. حرب أم تكهنات؟    مأرب قلب الشرعية النابض    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    الكشف بالصور عن تحركات عسكرية خطيرة للحوثيين على الحدود مع السعودية    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    اخر تطورات الانقلاب المزعوم الذي كاد يحدث في صنعاء (صدمة)    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    وكلاء وزارة الشؤون الاجتماعية "أبوسهيل والصماتي" يشاركان في انعقاد منتدى التتسيق لشركاء العمل الإنساني    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    فالكاو يقترب من مزاملة ميسي في إنتر ميامي    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة أمين مكتب الحزب بوادي حضرموت «باشغيوان»    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    بعد منع الامارات استخدام أراضيها: الولايات المتحدة تنقل أصولها الجوية إلى قطر وجيبوتي    مارب.. وقفة تضامنية مع سكان غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة من قبل الاحتلال الصهيوني    البنتاجون: القوات الروسية تتمركز في نفس القاعدة الامريكية في النيجر    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1962-1948
نشر في الجمهورية يوم 08 - 09 - 2008


الحلقة 8
انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسة في اليمن ،ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال إحدى عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
أما الأرض فإن أهم مواردها هي الغلات الزراعية، وقد كانت الأرض في أيام غابرة ملكية مشاعة، وكان استغلالها وفلاحتها مشتركة، وخلال عقود وربما قرون، تحولت الأرض إلى ملكية خاصة تكبر وتصغر بحسب مكانة الأسرة أو الفرد في القبيلة،وبسبب عوامل أخرى «كالوراثة»،وأصبح الاهتمام بها فردياً أو عائلياً، يؤكد ذلك أن المحاصيل الزراعية الغلات التي تنتجها هذه الأراضي إنما تعود لأسر وأشخاص معنيين،وقد ازدادت ظاهرة تحول الملكية العامة «المشاع» في القبيلة إلى الملكية الخاصة من خلال استيلاء المشايخ، وأصحاب النفوذ في القبيلة على المزيد منها، وهو تحول ماكان للقبيلة أن توقفه أو أن تمنعه خصوصاً مع ظهور تطور العلاقات الرأسمالية في البلاد، وظهور الآلات وأدوات الإنتاج الحديثة، عاجلاً أم آجلاً فإن هذا الأمر لابد أن يحدث شروخاً في العلاقات والروابط القبلية لا قبل لأحد بردها.
على أن الظاهرة القبلية في المجتمع اليمني قد تميزت بخاصيتين أساسيتين جعلت من القبيلة قوة مؤثرة في الحياة الاجتماعية، وهاتان الخاصيتان هما:
1 حضور سياسي داخل بناء الدولة نكاد نلمح آثاره طوال تاريخ اليمن عموماً،ودولة الأئمة خصوصاً.
2 الاحتفاظ ببناء محلي احتياطي، كان قادراً على الظهور خاصة في غياب أو ضعف الدولة،أو في فترات الصراع السياسي،وعادة فإن هذا البناء كانت له مصالحه السياسية،وكان يفرض أساليبه في المشاركة السياسية.
وتعتبر قبيلتا حاشد وبكيل أكبر القبائل اليمنية قاطبة، وأكثرها أثراً في الحياة السياسية في البلاد، وكلاهما تنتسب إلى جدهما الأكبر «همدان بن زيد» وقد سميا بالجناجين،ولا توجد قبيلة موحدة الأفراد والمساكن مثل قبيلة همدان، فإن مطارحها مجتمعة تشكل معظم الأجزاء الشمالية والشرقية والغربية من الهضبة، وتكاد منازل بكيل في القسم الشرقي،ومنازل حاشد في القسمين الشمالي والغربي، وقد حصر أحمد فخري نحو 141 قبيلة تنتمي إلى هذين التحالفين العملاقين «حاشد وبكيل» وذكر أن في تهامة نحو 72 قبيلة أهمها وأكبرها قبيلة الزرانيق، ومرة أخرى فإن الأصل الواحد لايعني الوحدة فالصراعات بين حاشد وبكيل وبنيهما وبين غيرهما لاتعد ولاتحصى، وكثيراً ماتدفع المصالح الخاصة لكل قبيلة على حدة هذه الصراعات إلى الظهور وتمدها بالاستمرارية.
لقد شكلت القبائل دائماً عاملاً من عوامل عدم الاستقرار السياسي في اليمن، وقد لايعود ذلك فقط إلى طبيعتها التي أشار إليها ابن خلدون،عندما أعاد ذلك إلى «اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي هوى وعصبية، تمانع دونها فيكثر الانتقاد على الدولة، والخروج عليها في كل وقت، ولكن أيضاً بسبب عوامل التخلف، وأحياناً كثيرة بسبب ضعف الدولة المركزية أو غيابها، حتى يكاد هذا التاريخ «تاريخ اليمن» يقرأ في معظمه وكأنه تاريخ للصراعات القبلية، ولانستثني من ذلك فترات الازدهار الحضاري قبل الإسلام، أو في ظله، أو بعد انفصال اليمن عن دولة الخلافة في بغداد.
إن تأثير الأوساط القبلية في صناعة السياسة الداخلية لليمن الملكية قاد إلى أن أية قوى سياسية قابضة على قمة السلطة، أو تطمح إليها كان يجب عليها بالضرورة أن تأخذ بعين الاعتبار موقف القبائل كعنصر بارز في بنية المجتمع اليمني، وفي الحياة السياسية والاجتماعية وهذا مافعله الإمام يحيى ومن بعده ابنه الإمام أحمد، فقد حرض القبائل على جند الأتراك، وبعد حصول اليمن على استقلالها أشرك الإمام أفراد القبائل في الأعمال العسكرية ضد قبائل تهامة والمناطق الشمالية الشرقية في البلاد، والتي قادها الإمام يحيى بنفسه ومن ثم ابنه أحمد وفي عهدهما استخدمت القبائل لفرض سلطة الإمام باستخدامها ضد بعضها البعض، وفي حالات أخرى حاول الإمام أحمد تحريضها ضد السياسة البريطانية في الجنوب، وعندما تعرضت الإمامة لانقلابي 8491م، 5591م كانت القبائل هي المدافع الأمين عن الإمامة، وقد عرف الإمام أحمد كيف يوظف هذه القوة لحماية عرشه، ولكن إلى حين فقط.
لقد اتسمت العلاقات بين الطبقات الاجتماعية الرئيسية الثلاث بالتناقض الحاد، لكن حدة هذا التناقض تتراجع إذا مانظرنا لهذا الصراع في إطار الطبقة الواحدة، وقد استخدمت الطبقة الحاكمة في اليمن كل الوسائل لحسم صراعاتها مع الطبقات المتوسطة والفقيرة لصالحها باستخدام السلطة، والايدلوجيا، وللأسف فإن الدين استخدم غالباً لتبرير سلوك الحكام والفئات العليا في المجتمع وتحولت الزيدية ونظرية الإمامة مكوناً رئيسياً من مكوناتها النظرية والتي كانت في يوم من الأيام ايدلوجية المحررين ضد الوجود العثماني، أي الزيدية الثائرة، تحولت عندما بلغ الأئمة إلى السلطة من وسيلة للتحرر ورفض الظلم إلى وسيلة للقهر السياسي والطبقي الموجه ضد الطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى خارج المؤسسة الدينية الرسمية، وقد وجد الأئمة في الموروث الثقافي مايكفي لتبرير سلوكهم السياسي، وممارستهم ضد الآخرين.
وكان التنافس بين الطبقات الأساسية في المجتمع حول الثروة والنفوذ والمكانة الاجتماعية تنافساً غير متكافئ، فالذين حازوا السلطة واستخدموا أدواتها جيداً، كالمنابر، والمدارس، والصحافة، وإلى جانب القوة وظفوا هذه الأدوات لمزيد من الاستغلال، والابقاء على القدر الأكبر من الامتيازات الطبقية في متناول أيديهم، وقد كان على الآخرين الذين يقبعون خارج التحالف الطبقي الحاكم أن يخوضوا المعارك للحصول على بعض هذه الامتيازات، فالتجارة كانت حكراً لفئات دون غيرها، بل كان الإمام نفسه على رأس طبقة التجارة، وكان التعليم أيضاً حكراً لفئة دون غيرها، وكذلك الوظائف العليا في الدولة، وفي البداية فقد استجدت الطبقات الوسطى والفقيرة في المجتمع اليمني من ممثلي الطبقة العليا الحاكمة هذه الحقوق، ولما لم يقبل الإمام، أو كانت استجابتهم محدودة لاتلبي حاجة المجتمع، خاضت هذه الفئات صراعاً مكشوفاً مع الأئمة من أجل انتزاع مايمكن انتزاعه من مكاسب اجتماعية.
وكان التفاوت الطبقي، والطائفي أحياناً، سبباً لعدم المساواة في الفرص للحصول على المكاسب الاجتماعية والفردية، ولكي يحقق أفراد الطبقة الوسطى والفقيرة هذه المساواة ويحصلون على العدل في توزيع السلطة والثروة كان عليهم أن يرفعوا لاحقاً من مستوى المواجهة مع الأئمة، وكانت أشكال هذا الصراع تتبلور مع ازدياد حدة التفاوت في المجتمع، ولم تكن ظاهرة الانقلابات، والانتفاضات، والاغتيالات سوى تعبير سياسي عنيف عن حالة سخط عارمة اجتاحت المجتمع، بمافيهم شرائح من الطبقة العليا، التي لم تحرم من الثروة، لكنها حرمت من السلطة والجاه، وكان يمكن للمجتمع اليمني أن يتجنب الوقوع في دوامة العنف، والفعل ورد الفعل، لو أن ممثلي الطبقة العليا ونعني بهم الأئمة أظهروا قدراً من القبول بمطالب الآخرين، وتجاوبوا مع الدعوات التي أطلقتها بعض الرموز المثقفة من خارج الإطار الحاكم، في مطلع الأربعينيات وبامتداد سنواته لاحقاً.
ومن جانب آخر، فإن المجتمع اليمني قد ورث الكثير من التراتبية الاجتماعية، التي تجعل من فئة السادة على رأس النظام الاجتماعي، وكان الحراك الاجتماعي في إطار هذه التراتبية الاجتماعية التقليدية إلى أعلى مستحيلاً، وقد حرص الأئمة على الإبقاء على هذا التنظيم الاجتماعي العتيق، لأنه كان يحقق لهم مصالح كبيرة والقول بأن المنافسة في إطار هذا النظام التقليدي القديم وتحقيق بعض المصالح الشخصية كانت متاحة فيه شيء من مجانبة الحقيقة، فهناك دائماً حدود ومواقع لايسمح للآخرين بالاقتراب منها أو تجاوزها، وكانت السلطة واحدة من هذه الحدود والمواقع، وقد استتبعت السلطة الثروة، والمكانة الاجتماعية، من هنا وجدت الفئات الوسطى والدنيا في المجتمع في حالة حصار وكان مفروضاً عليها إما الخضوع والاندماج فيما ترغب فيه الطبقة الحاكمة أو التمرد.
وكان لابد من حدوث الصراع والتمرد، لأنه كان السبيل الوحيد للخروج من مأزق العلاقات الاجتماعية الطبقية والفئوية والطائفية في المجتمع، وقد تحددت معالم هذا الصراع في نهاية الخمسينات بين طبقة الحكام من ناحية، وبقية طبقات المجتمع من ناحية أخرى ولقد فقد الأئمة كل إمكانية لتسويغ أكاذيبهم بالحق الإلهي في الحكم، والانفراد بمقدرات البلاد وثرواتها ونهضت لمواجهتهم غالبية ساحقة من أبناء المجتمع، وعندما انضمت القبيلة إلى هذا الصراع فيما بعد وساهم الريف إلى جانب المدينة في تحمل عبء هذه المواجهة، فقد النظام واحدة من ركائزه الاجتماعية، وعاملاً من عوامل وجوده.
فمؤسسة الإمامة الدينية تحولت في نظر الأغلبية التي حملتها إلى السلطة إلى مؤسسة سياسية طبقية تعمل لمصالحها الخاصة وتدافع عن امتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية.
وفوق هذا وذاك كان الوعي يزداد يوماً بعد يوم بخطورة استمرار الإمامة الزيدية كوسيلة للحكم على مستقبل البلاد، ووحدة الشعب، ذلك أن هناك شطراً هاماً من الشعب اليمني، لايرى للأئمة حقاً في السلطة، ولايقبل أو يستسيغ المبررات الدينية لاستمرار الأئمة على رأس الدولة اليمنية الحديثة، وحل هذا التناقض ذي الجذور الاجتماعية في أصله، والسياسي في شكله ماكان ممكناً، إلا بإحداث تغيير جذري في طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة، ويفضي بالضرورة إلى شكل آخر من أشكال التحالف الاجتماعي يسمح بالتطور والتقدم.
ثانياً: السلطة
1 مكانة الإمام في الدولة الزيدية:
يستمد الإمام، وكل إمام في الدولة الزيدية مكانته من نصوص وقواعد المذهب الزيدي، فهو حسب هذا المذهب، ظل الله على الأرض، منحه الإلهام وأعطاه بركاته، وعصمه من كل خطأ.وأودع فيه سره، وميزه عن العالمين، والزيدية ككل المذاهب الشيعية تجعل للإمام شروطاً يجب أن يستوفيها وواجبات عليه ممارستها، فقد تختلف الشروط والواجبات في بعض جوانبها عن الشيعية الإمامية، لكنها تتفق جميعاً في المكانة خاصة للأئمة. لهذا فالزيدية تطلب من أتباعها الخضوع المطلق للإمام،والقبول بأحكامه ونواهيه باعتبارها إرادة الله التي لا يحق لإنسان ردها، فالخروج عليها خطيئة تستحق لعقاب في الدنيا، كما تستحق العقاب في الآخرة.
وفي اليمن يمكن القول إن الإمام هو الدولة والدولة هي الإمام، كل السلطات في يده، وكل المؤسسات المدنية والعسكرية تخضع له، بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، فهو الذي يعين الوزراء وحكام الألوية، وكل موظفي السلك الإداري والقضائي والدبلوماسي، وهو وحده الذي يملك حق الموافقة أو التوقيع على الاتفاقيات مع الأفراد والهيئات والشركات المحلية والأجنبية، وهو القائد الأعلى للجيش ومرجعيته الروحية، وهو الذي يعين قادته، ويرقي ضباطه، ويجد حقوقه وواجباته ، يهتم بكل المسائل على اختلاف أهميتها، وقد يظن أن “كل المسائل على اختلاف أهميتها” تعبير يقصد به المسائل السياسية، وهو ظن يجافي الحقيقة، فقد كانت المسائل تعرض على الإمام من تنظيف السجاجيد وتركيب المصابيح إلى الشئون الدولية.
وصفه مادحوه بأنه مركز الأمة، فهو الدماغ المفكر، والقائد الأمين الذي يرعى مصالح الشعب، ويسهر على حقوقه، ويحمي حماه ووصفه المحايدون بأنه ابن بيئته، فيه “مواهب الخير والشر” أما خصومه ومناوئوه فقد رأوا فيه الإمام الأكثر عنفاً، والأكثر فتكاً بخصومه، والأكثر فساداً وتحجراً وهؤلاء هم الكثرة الغالبة.
2 الإدارة في عهد الإمام أحمد:
بعد مقتل والده الإمام يحيى ، وتنصيب نفسه إماماً، أعاد الإمام أحمد تشكيل مجلس الوزراء، ومنح أخاه الحسن الذي وقف إلى جانبه في مواجهة الانقلاب الدستوري منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ونائب الإمام في صنعاء، كما وزع معظم وزارات الحكومة على إخوته، والأسر المتحالفة مع نظام حكمه، مكافئاً مؤيديه الذين رفضوا أمانة الوزير.
وعلى مستوى الألوية «المحافظات» أجرى عدداً من التنقلات في الوظائف، وحرص على تولية وجوه جديدة معروفة بانتمائها شبه الإقطاعي ،فاختار محافظين من الشيوخ الصغار بديلاً عن حملة العمائم المدنيين، وكان اختيار هذه الوجوه بمثابة تشكيل قوة مشايخية معاكسة لشيوخ مؤيدي الانقلاب الدستوري، أو مهادنيها، فشهدت الخمسينيات مديري مناطق، ومحافظي ألوية لا عهد لهم بمثل هذه الأعمال في العهود السابقة، وفي تفسير البردوني لهذا الاختيار قال إن الإمام استهدف من هذه التعيينات:
أولاً: كسب مشايخ في وجه مشايخ.
ثانياً: تقديم التبرئة من كراهية شيوخ البلاد. فقد كان الإمام أحمد متهماً دائماً بكراهته لشيوخ البلاد، وسوف نرى كيف نكل ببعضهم، وسجن بعضهم، وقتل وأعدم البعض الآخر.
ثالثاً: تنصيب الأقارب المسالمين للشيوخ المناوئين في الأربعينيات المؤيدين للانقلاب.
رابعاً: تكوين مشيخة حديثة، على أنقاض القديمة، بدون قواعد متينة، ولكن بواجهة رسمية، لأن قوة كل مشيخة تعتمد على مكانها عند الحاكم.
وعند انقلاب الثلايا،الذي نصب أخاه عبدالله إماماً جديداً، وبعد أن تمكن في أيام من القضاء على الانقلاب وإعدام قادته ومنهم أخواه وقائد الانقلاب حاول الإمام تطوير منظومة الحكم المتخلفة، ربما أراد كسب المزيد من الأنصار من خارج إطار العائلة الحاكمة، وربما أدرك أن حجم المعارضة بين أوساط قبلية وأخرى غير قبلية جاءت معظمها من الشوافع قد ازدادت وأنه بحاجة إلى شكل ما حديث فضفاض غير مؤثر، لاتضعف من سلطاته كإمام وملك، فأصدر في أغسطس 5591م أمراً ملكياً بتشكيل المجلس الاستشاري، وهو مجلس كما تنم على ذلك تسميته مجلساً للمشورة والنصح، لا ممارسة الحكم أو التشريع.
وهكذا قبل الإمام بفكرة التطوير والتغيير وهي قضية القضايا في اليمن آنذاك، وكان الصراع الاجتماعي السياسي الثقافي يتمحور حولها، بين مؤيد لهذا التغيير، وقد عرف هذا التيار بالأحرار، وبالإصلاحيين، ثم بالثوريين والتقدميين، ومعارض لهذا التغيير وهو تيار محافظ، يختبئ خلف نصوص دينية ويستتر بها،ومع ذلك فإننا نرى كالعادة أن المرسوم فيه من العبارات التي لاتتطابق مع ممارسات الإمام، حديث عن المصلحة العامة، والخير ورفاهية الشعب، والاقتداء بالحكومات العربية، وهو هنا يقصد الحكومات العربية التقدمية، وكل الحكومات العربية مهما كان نوع نظامها السياسي كانت في الواقع تقدمية بالنسبة للإمام وحكومة الإمام، وأخيراً فإننا نلفت الانتباه إلى اسم القاضي عبدالرحمن الإرياني «ثاني رئيس جمهورية» وهو الذي عفا عنه الإمام في ساحة الإعدام. فهل وجوده يعني أن الإمام كان متسامحاً مع معارضيه، ربما لكن ليس للحد الذي قد نتصوره.
وكان الأمر الملكي ذاته قد تضمن تشكيلاً للحكومة،احتفظ فيها الإمام لنفسه بمنصب رئيس الوزراء، ومنح البدر منصب نائب رئيس الوزراء ووزارتي الخارجية والدفاع.
ويمثل هذا التشكيل الحكومي الجديد، خطوة غير مسبوقة للإمام، وهي تعكس الحالة التي كان عليها موقف الإمام من مسألة التغيير بعد شهور قليلة فقط من الانقلاب الأخير.
لكن هذه الخطوة كانت تحتاج إلى خطوات أخرى في مجال تفويض المهام والصلاحيات، وهو ما لم يحدث، فقد احتفظ الإمام بكل الصلاحيات في يده، وجعل كل الوزراء بمن فيهم ولي العهد، موظفين لدى جلالته، لا يقضون أمراً حتى يعودوا إلى مقامه الشريف.
وهكذا انتهى هذا الإجراء إلى لا شيء، وعادت فكرة التغيير تطرح نفسها، ولكن هذه المرة لم تعد تطرح في حدودها الدنيا، لأن المعارضة كانت قد طورت مفهومها للتغيير وأصبح يعني عندها تغيير النظام الإمامي بنظام جمهورية، أي أن الفكرة قد تجذرت، وسنرى أن هذه الفكرة ستمضي إلى نهايتها.
وظل الحديث عن مجلس نيابي أمنية للمعارضة والشعب، بل كثيراً ما كانت المعارضة تتحدث بشيء من الحسرة عن التجارب التمثيلية المحلية التي كان العثمانيون قد شكلوها في مطلع القرن، وجاء الأئمة ليلغوها، وبعد سفر الإمام إلى روما في عام 8591م، ومع ازدياد حدة المعارضة للنظام في الأوساط المدنية والعسكرية، أقدم الأمير البدر على تشكيل مجلس نيابي فيما عرف «بإصلاحات البدر» ويبدو أن الإمام بعد عودته من روما، وتمكنه من قمع المعارضة في 9591م، قد أبقى على هذا المجلس بتركيبته الزيدية، يدلنا على ذلك ما ورد في صحيفة «فتاة الجزيرة» بأن المجلس النيابي اقترح على الإمام أحمد إضافة عناصر شافعية إلى عضوية المجلس، لكن الإمام رفض اقتراح المجلس قائلاً: «إن اليمن يحكم إدراياً، طبقاً لأحكام أهل البيت والشوافع لا يحسنون هذه الأحكام، وقد يحصل تشويش إداري إذا ما تم تعيين أحد منهم «وإنه يفضل أن يعين رجالاً منهم في الجيش والإدارة العسكرية.
ولم يحدث الإمام تغييراً كبيراً على النظام الإداري الذي كان قائماً في عهد والده، لكنه أضاف لواء جديداً «محافظة» هو لواء البيضاء، ليصبح عدد الألوية في الخمسينيات سبعة ألوية بدلاً من ستة، وكان الهدف من هذا الإجراء هو تعزيز جهوده في مواجهة الإنجليز في عدن والمحميات، وتقوية نفوذه في الجنوب الشرقي الشافعي من البلاد، وعموماً فإن النظام الإداري في اليمن إنما يعود إلى الأتراك الذين أخذوا في الاعتبار أولويات الدين والجغرافيا عند ترسيم حدود المحافظات والأقضية والنواحي.
ويتسم النظام الإداري بمركزيته الشديدة، وهذه المركزية تجسد في الواقع رغبة الإمام في الاحتفاظ بمقاليد الأمور تحت رقابته المباشرة، كما أنها تعكس حالة من عدم الثقة في أقرب أفراد أسرته إليه، وقد ازدادت شكوكه فيما بعد مع ازدياد وتيرة المعارضة العلنية والسرية، لكن تعيين محافظين وعُمال في الألوية والأقضية والنواحي على ما فيه من مركزية، كان خياراً أفضل من إدارة هذه المناطق بصورة قبلية، كما فعل البريطانيون في المناطق الداخلية من المحمية التي خضعت لحكمهم، وكان مفهوم الخدمة العام غير معروف لدى الأغلبية العاملة في الجهاز الحكومي ويسود الاعتقاد لدى هؤلاء العاملين أنهم خدم الإمام، وكان كثير منهم يوقعون رسائلهم إلى الإمام، بما في ذلك الوزراء والقضاة «بالمملوك أو الخادم» ومن جانبه كان الإمام يخاطب وزراءه وموظفيه «بالولد» تعبيراً عن إحساسه بالأبوة وعلو المكانة على غيره كما كان بإمكانه أن يستحدث إدارة جديدة، إذا كان ذلك يوافق مصلحة لديه، أو يلغي إدارة أو قسماً أو مؤسسة إذا ما رأى في ذلك مخالفة لما يريد.
وفي غياب الرقابة، وضعف المرتبات التي كان نتيجتها انتشار الفاقة والعوز بين العاملين، كان الفساد سمة من سمات النظام الإداري لدولة الإمام، وكان الإمام على علم بفساد إدارته بل كان يشجع هذا الفساد من خلال تعيين موظفين عرفوا بفسادهم، واشتهروا بسوء سلوكهم مع المواطنين، وقد حاول البدر الذي مثل لسنوات أمل الإصلاحيين في تطوير الإدارة والنظم الإدارية باستخدام خبرات عربية، من مصر على وجه التحديد قد فشلت واصطدمت بموقف والده المتحجر.
القضاء:
لم يكن هناك قوانين وضعية يرجع إليها القضاة للفصل بين الناس في شئونهم المدنية والشرعية، وإنما هم يعتمدون على معارفهم الخاصة، وما كانوا قد حصلوا عليه من علوم في فقه الشريعة الإسلامية.
في مدارس الإمام، وترجيحهم لآراء الفقهاء الأوائل الذي تختلف آراؤهم من فقيه إلى فقيه، مما يؤدي إلى تناقض الأحكام، وإثارة المشكلات بين الناس.
وإلى جانب الشريعة هناك الأعراف والتقاليد، وهي مصدر آخر للتشريع، وهذه في اليمن لها جذور اجتماعية، فالطبيعة القبلية للمجتمع اليمني أبقت حتى الآن على دور للعرف لم يتحول حتى الآن إلى قانون، وكثيراً ما تعود سلطة التحكيم إلى مشايخ القبائل والأعيان والعقال، وهؤلاء وإن لم يكونوا رسمياً أعضاء في جهاز الدولة القضائي، إلا أن أحكامهم كانت متبعة، وغالباً ما يعتد بها عند اللجوء للقضاء الشرعي.
وإلى جانب المحاكم الشرعية في الألوية وبعض الأقضية، هناك محكمة الاستئناف الشرعي، وبدايات هذه المحكمة تعود إلى الأتراك الذين أسسوا مجلس الاستئناف، وبعد انسحابهم من اليمن حافظ الإمام يحيى على المجلس، وكذلك فعل الإمام أحمد، مع جعلهما محكمتين إحداهما في صنعاء، والأخرى في تعز حيث يقيم الإمام وقد سميت «بالهيئة الشرعية» وصلاحياتها تنحصر في دراسة الاعتراضات الواردة إليها من الصادر بحقهم أحكام من المحاكم الشرعية، وعادة فإن الأحكام الشرعية التي تصدر من المحكمتين الاستئنافيتين في صنعاء وتعز تصدق من الإمام، إذا كانت تتعلق بالإعدام، أو إذا كان أحد الأطراف لجأ للإمام باعتباره القاضي الأعلى، أو تركت المحكمة للإمام أمر البت فيها، وكان أول رئيس للمحكمة في عهد الإمام أحمد هو العلامة محمد بن حسن الوادعي، أما آخر تشكيل للمحكمة فقد كان برئاسة محمد يحيى عباس المتوكل، الذي أعدم في اليوم الثاني للثورة، وضمت في عضويتها كلاً من القاضي أحمد الجرافي وكيلاً، والسادة عبدالله بن عبدالقادر، وعبدالله السرحي، ولطف الحيمي، ومجد شرف الدين، ومن المهم الإشارة إلى أن أعضاء المحكمة الاستئنافية العليا وأعضاء المحكمة الشرعية بتعز يعتبرون من أصحاب الرأي في اختيار الإمام، غير أن الأئمة الزيدية كانوا قد تجاوزوا قواعد اختيار الإمام، وفرضوا دائماً مرشحهم، وعادة كان ولي عهدهم، ففقدت المحكمة بعضاً من اهميتها، وإن احتفظ بعض أعضائها بشيء من التأثير بصفة شخصية باعتبار عائلاتهم التي ينتمون إليها.
وقد احترم الإمام أتباع المذهب الشافعي في الجنوب، فكان يعين قضاتهم من الشوافع، ومع ذلك فإن هؤلاء القضاة قد حصلوا على تأهيل زيدي «هادوي» في مدارس الإمام.
وكانت أحكام الحدود تنفذ بما يشتمل القتل والسرقة والزنا ومعاقرة الخمر والميسر وتطبق أحكام القتل على القاتل بقطع الرأس في الساحات العامة، تعلق بعدها على أبواب المدن، ولاتنفذ بقية الحدود كالسرقة والزنا ومعاقرة الخمر إلا بعد ثبوتها على صاحبها عدة مرات ولكن السنوات الأخيرة من حكم الإمام أحمد شهدت ازدياداً ملحوظاً في عدد المحكومين عليهم بالإعدام، أو الذين صدرت ضدهم أحكام إدانة بالسرقة وقطعت أيديهم وخصوصاً في فترات الأزمات السياسية التي مر بها النظام وكانت محل نقد في الصحافة العدنية لبشاعتها ولاختلاط ماهو سياسي بماهو جنائي.
وكانت الأغلال والقيود وسيلة أخرى من وسائل العقاب، وقد يخطر بالبال أن القيود كانت تستخدم للذين صدرت بحقهم أحكام قضائية، إلا أن الأمر في اليمن يتعدى ذلك، كانت القيود توضع في أيدي وأرجل كل من صدر بحقه أمراً من الإمام، موظفين أثناء عملهم، أو ضباطاً أثناء واجباتهم، وكثيراً مايشاهد مثل هؤلاء في ذهابهم وإيابهم إلى العمل ويكفي أن يتلقى أحدهم أمراً من الإمام بوضع القيد في رجليه فيفعل ذلك دون تردد، لأن العواقب وخيمة، وهكذا فإن البحث عن العدالة في اليمن يبدو من الأمور المستحيلة في هذه الفترة، فهناك إسراف في تطبيق العقوبة، وغياب للإجراءات المناسبة، لكن الإمام أحمد نفسه الذي ذكرنا شيئاً كثيراً من استبداده، وسوء سلوكه، هو نفسه الذي رفض إعدام زعيم المعارضة «النعمان» واكتفى بسجنه بالرغم من مطالبة كبار قضاة المحكمة الاستئنافية بفعل ذلك.
وكغيره من أجهزة الدولة كان القضاء في هذا العهد فاسداً، وظل يدر على القائمين عليه ثروات طائلة من خلال العمل على إطالة المنازعات الشخصية لاستنزاف المواطنين، وفرض أنواع لا حصر لها من الأساليب للحصول على المال، لذلك كانت وظيفة القاضي مقرونة بالابتزاز والنهب، ساعد على ذلك خلل في وثائق الممتلكات وتسجيل الأراضي، وهو خلل يعكس عجز التنظيم الحكومي وقصوره.
3 المؤسسات العسكرية:
«أ» الجيش:
يمكننا أن نلحظ مرحلتين في تطور المؤسسة العسكرية اليمنية حتى قيام الثورة الأولى، هي مرحلة التكوين التي تلت استقلال اليمن، قيام الدولة المتوكلية اليمنية، وهذه مرحلة تمتد حتى عام 8491م ويجعلها البعض حتى عام 5591م أما الثانية فهي المرحلة التي فرض فيها على الإمام أحمد القيام بعدد من الإصلاحات كان منها إصلاح حال ووضع الجيش اليمني، وفي المرحلتين تداخلت الأحداث إلى درجة أصبحت فيها الأولى توطئة للثانية وضرورية ولفهم ماجرى من أحداث عظيمة غيرت مسار التاريخ في اليمن، وكان الجيش في مركزها بل وصانعها.
1 تكوين الجيش النظامي:
دخل الإمام يحيى صنعاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 8191م معلناً استقلال اليمن، ومنصباً نفسه إماماً وملكاً وأميراً للمؤمنين في الجزء الأعلى من اليمن.
وعلى الفور أدرك الإمام أهمية تكوين جيش وطني يحفظ الأمن والاستقرار، ويساعد على إخضاع القبائل المتمردة، ويواجه به التهديد الأجنبي المتمثل في الوجود البريطاني في الجنوب «عدن والمحميات» فأعلن عن فتح باب التجنيد في الجيش فتوافد الآلاف من الرجال إلى صنعاء، وتم إعداد بضعة آلاف ليكونوا نواة لجيش نظامي جاءوا من مصادر ثلاثة: المقاتلين الذين حاربوا الأتراك في صف الإمام أولاً، وثانياً ممن تم اختيارهم من جيش الجندرمة التركي، اليمني الأصل، والثالث من بين رجال القبائل الشافعية والزيدية.
وفي العام التالي أعلن في احتفال مهيب عن قيام الجيش النظامي الذي تولى قيادته ضباط أتراك كانوا قد فضلوا البقاء في اليمن بعد انسحاب القوات التركية، كان أبرزهم كنعان بك «الذي عين مدرباً للجيش وعين علي بن إبراهيم من الأسرة المالكة نائباً وسارت عملية التكوين والتدريب على نحو إيجابي، لولا ظهور الخلافات بين مدرب الجيش التركي ونائبه اليمني، أقيل على إثرها كنعان بك، وتولى علي بن إبراهيم إمارة الجيش فيما أوكل إلى القائد التركي تأسيس كلية للتدريب العسكري، نجحت في تخريج أعداد من الضباط اليمنيين المؤهلين، لكن خلافاته مع علي بن ابراهيم استمرت فقادته إلى السجن حتى تدخلت الحكومة التركية لإنقاذه، واختير بدلاً عنه في تدريب الجيش حسن تحسين باشا، السوري الأصل والذي خدم في الجيش التركي، ولكنه سرعان مااختلف مع أمير الجيش فأقيل واستعير العقيد «تريا بك» لخلافته وباقتراح منه تم تعريب لغة التدريب في الجيش، وافتتاح معهد لتدريب الضباط، وتشكيل فوج نموذجي، وسرية استحكام وسرية مخابرات ولكنه استقال من خدمته بسبب خلافه مع أمير الجيش فعين مدرباً سورياً آخر هو أركان حرب «مصطفى وصفي باشا» حاول إصلاح الجيش، لكن اقتراحاته التي كان من بينها الغاء الجيش النظامي وإعادة تكوينه على أسس جديدة، لم تحظ بموافقة الإمام، فترك الخدمة هو الآخر، فاقترح ولي العهد استعادة حسن تحسين باشا، الذي تملق الإمام بعدد من المقالات في الصحف السورية فعين مدرباً للجيش الذي قدرت عداده في 8391م بنحو 52 ألفاً وقيل ثلاثين ألفاً أما التقديرات الغربية فلا تتجاوز به العشرة آلاف.
2 تكوين الجيش الدفاعي:
مع رفضه لفكرة تسريح الجيش النظامي، وافق الإمام على إنشاء جيش جديد هو الجيش الدفاعي والميليشيا، وكلف القائد السوري تحسين باشا على إعداده وتدريبه.
والفكرة من وراء تكوين هذا الجيش كانت جعل الخدمة العسكرية إجبارية على كل القادرين من المواطنين، أما مؤلف كتاب «اليمن المنهوبة المنكوبة» فيرى أن الإمام أراد بهذا الإجراء اشغال القبائل حتى لاتعود إلى التمرد، كما فعلت في بداية العهد، ونجحت التجربة، واستمرت عملية التدريب للآلاف من المواطنين كباراً وصغاراً وكلما انقضت دورة أعقبتها أخرى، وكان الفقراء وحدهم هم الذين يدفعون ثمن هذه التجربة، فإن أصحاب النفوذ والأغنياء قد تمكنوا من التهرب من أداء الواجب، واستشرى الفساد في هذا الجيش وأصبح محل نقمة المواطنين، وفي مرحلة ماحاول الإمام استخدامه في مواجهة الانجليز ولم يفلح.
3 تكوين الجيش البراني: إلى جانب هذه التشكيلات كانت هناك تشكيلة غريبة تسمى بالجيش «البراني» وهو جيش مؤلف من القبائل النائية الزيدية على نحو خاص، لكنه ليس بجيش نظامي، فقد كانت مجموعاته تتبع شيخاً من شيوخ القبائل، وهو مايدعى «بالعريفة» كان الهدف من تكوينه منافسة الجيش النظامي، وخلف حالة من التوازن في المؤسسة العسكرية ليأمن الإمام جانبها وقد وضع لهذا الجيش نظاماً خاصاً به لاينطبق على الجيشين النظامي والدفاعي، ففترة بقاء الجندي فيه من سنة إلى سنتين ، ثم استبداله بشخص آخر من أهله أو قرابته، وهو أكثر خشونة فأفراده دائماً في حالة تحفز للحرب، وجاهزون دائماً لتنفيذ أوامر الإمام أو أمراء الألوية ورواته أربعة ريالات يخصم منها ريالاً للشيخ «العريف» شهرياً.
وبالإضافة إلى الجيوش الثلاثة كان الإمام يحتفظ لنفسه بحراسة خاصة تسمى «بالعكفة»،يبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف جندي،كان من مهامهم حراسة الإمام وتنفيذ المأموريات،والقيام بالاستعراضات الأسبوعية، كانت أفضل قطاعات الجيش،وأكثرها كفاية،وعادة فإنها ترابط في الثكنات خارج صنعاء.
ومع هذا التعدد والتخصص،فقد كان الجيش يعاني من ضعف التسلح والتدريب، وفقدان الامكانيات العسكرية اللازمة، والنقص في الامدادات، فقد كان الجندي لايحصل إلا على الحد الأدنى من التغذية، القليل من العيش «الكدم» والقليل من الأدام، ولاتبدو على أشكالهم صرامة وانضباطية الجندية،كانوا ملتحين، حفاة الأقدام، يرتدون أثواباً بيضاء مفتوحة الأكمام وكانت عمائمهم مختلفة الألوان والأشكال، متمنطقين بخناجرهم بينما كانت تتقاطع أنطقة الذخيرة على صدورهم، عليهم واجبات لكن ليس لهم حقوق، فالإجراءات الانضباطية تجردهم من كل ميزة، حتى أثناء المرض، بل إن هذه الإجراءات تلزم أهله بدفع ثمن سلاحه وملابسه إذا فقدت عند موته، وهو يطرد من الخدمة إذا تقدم به السن دون حقوق،إلا أنه مع كل ذلك يتمتع بالقدرة على التحمل، ذكي، وشجاع، ومقدام، ولديه قابلية على التعليم واكتساب الخبرة.
والجيش اليمني متعدد الأغراض، فإلى جانب أنه يفترض فيه القيام بواجباته العسكرية والعادية، كحراسة النظام، وإخماد الثورات، وحفظ الأمن، فإنه يقوم بأعمال أخرى كجمع الضرائب، وأعمال الشرطة،ونقل وتوصيل البريد الحكومي، تلك الوظائف التي يمكن اعتبارها من خصائص السلطة المحلية.
4 البعثات العسكرية:
«أ» البعثات اليمنية:
وكانت هزائم الإمام أمام الإنجليز في الجنوب، والملك عبدالعزيز بن سعود في الشمال، قد فرضت عليه إعادة النظر في وضع الجيش، وقد فكر الإمام في استخدام علاقاته مع بعض الأقطار العربية والأجنبية، وخصوصاً العراق التي ارتبط معها باتفاقية أخوة وصداقة عام 1391م،كان من نتيجتها أن بعث الإمام أول دفعة من الطلبة تم اختيارهم بعناية من قبل الإمام شخصياً، حرص على أن يكونوا من أبناء العامة، وليس لهم خلفيات قبلية مؤثرة، وغير مؤهلين للإمامة، وقد تكونت الدفعة من عبدالله بن يحيى السلال، ومحمد عبدالخالق حجر، وأحمد علي إسحاق، ومحمد صالح العلفي، ومحمد مصلح الريدي وأحمد على الآنسي،وأحمد حسني المروني،وعين على رأسهم الأستاذ محيي الدين العنسي،تلتها بعثتان الأولى مدنية والثانية عسكرية،وكان أبرز أعضاء المدنية أحمد حسن الحورش، وعلى محمد رجاء، وشيخان عبدالله الحبشي، وعلي بن علي الآنسي بالإضافة إلى ستة من أبناء السيد حسين بن صالح الحبشي،أما البعثة العسكرية فقد كان أبرز أعضائها أحمد الثلايا، وأحمد بن أحمد الحيمي،وحمود الجائفي،وسلام الرازحي،ومحمد عبدالولي نعمان، وقد أصبح معظمهم علامات مضيئة في تاريخ الحركة الوطنية فيما بعد.
كانت أول دفعة قد عادت إلى الوطن في 7 سبتمبر 7391م،واستقبلت استقبالاً حاراً من قبل الإمام والمواطنين، لكن هذا الاستقبال الحافل سرعان ماتحول إلى شك لدى الإمام،فهؤلاء العائدون قد احتكوا بالأفكار المعاصرة والتقدمية حينها، ولاشك أن هذا الاحتكاك قد أثر فيهم، لقد أصبحوا قادة في جيش الإمام لكن سلوكهم المغاير، وأفكارهم المستنيرة، وطموحاتهم التغييرية، بالإضافة إلى عناء الضباط القدامى لهم، كانت كافية ليقوم الإمام بعد ذلك بإبعادهم عن الجيش، أو على الأقل عن المواقع الحساسة، ولم يعد متحمساً لإرسال بعثات أخرى، وربما فكر في أن استقدام مدربين إلى اليمن، أفضل من إرسال متدربين إلى الخارج.
وكانت إيطالياً قد شجعت الإمام على إرسال بعثة طيران يمنية للحصول على المعارف والخبرات اللازمة في هذا المجال الحيوي، وقبل الإمام وأرسل عشرة أشخاص حصلوا على دورة لمدة ثلاث سنوات، ومع أول استعراض للطيران سقطت إحدى الطائرات، وكانت إيطالية، وصُرع قائداها: أحمد الكبسي وأحمد السراجي، وكانت النتيجة إلغاء مشروع الطيران نهائياً وتوزيع أعضاء البعثة على مرافق البريد وبعض المصالح الحكومية الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.