الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    أمطار رعدية تعم 20 محافظة يمنية خلال الساعات القادمة.. وصدور تحذيرات مهمة    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    مليشيا الحوثي تحاول الوصول إلى مواقع حساسة.. واندلاع مواجهات عنيفة    السعودية تطور منتخب الناشئات بالخبرة الأوروبية    الشباب يكتسح أبها.. والفتح يحبط الرائد بالدوري السعودي    بالصور: متناسيا أزمته مع الاتحاد السعودي.. بنزيما يحتفل بتأهل الريال    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    إيران تغدر بحماس وتطعنها وراء ظهرها.. صفقة إيرانية أمريكية لاجتياح رفح مقابل عدم ضرب إيران!    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    الدوري السعودي ... الشباب يكتسح ابها بخماسية    "لا حل إلا بالحسم العسكري"..مقرب من الرئيس الراحل "علي صالح" يحذر من مخيمات الحوثيين الصيفية ويدعو للحسم    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة الى 33.970    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    لجنة الطوارئ بمأرب تباشر مهامها الميدانية لمواجهة مخاطر المنخفض الجوي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    مصرع وجرح عدد من العناصر الإرهابية على يد القوات الجنوبية بوادي عومران    انطلاق أعمال الدورة ال33 للمؤتمر الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لأفريقيا    سقوط 9 مدنيين في الحديدة بسبب الألغام ومخلفات الحرب خلال مارس الماضي مميز    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948- 1962
نشر في الجمهورية يوم 06 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسة في اليمن ،ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال إحدى عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
المجتمع والسلطة
أولاً: المجتمع
هذا الواقع الاقتصادي خلق بدوره واقعاً اجتماعياً متميزاً متفرداً، تنوعت وتعددت فيه أنماط وأشكال إنتاج قديمة وحديثة، وبالتالي تعددت فيه أشكال الملكية، والتي أدت بدورها إلى تعدد طبقي، وتداخل اجتماعي، إلا أنها مع ذلك ليست أسباباً وحيدة كما سنرى وعلى هذا الأساس يمكن تناول الموضوع وفق عدة أنماط اجتماعية على النحو التالي:
1 تعدد الأنماط الاقتصادية الاجتماعية مثل:
أ نمط إنتاج خراجي «مشاعي بدائي» ظلت آثاره تتخلل البنية الاجتماعية والاقتصادية، وتتجسد بقاياه في الملكيات العامة في الريف «ملكيات القبائل»، وقد أدخل بعضهم ملكية الدولة ضمن هذا النمط، وكذا الأوقاف، بالرغم من أن شكل ملكية الدولة يختلف باختلاف أنماط الدول وأشكالها.
ب نمط إنتاج عبودي: والمؤرخون يكادون يجمعون على أن اليمن مثلها مثل بلدان الشرق الأخرى لم تعرف العبودية باعتبارها نمطاً سابقاً على الإقطاعية ولاحقاً للمشاعية البدائية، ومع ذلك فإن شكلاً من أشكال العبودية وجد في اليمن، وظل قائماً حتى بعد قيام الثورة، وآثار هذا النمط موجود في بعض وديان تهامة، ومع ذلك لايجوز الخلط بين نمط العبودية الإنتاجي القائم على ملكية الأرض والإنسان، وبين العبودية في بيوتات الأسرة المالكة، وكبار التجار، والشيوخ، هذا النوع الأخير يعود أساساً إلى شكل آخر من أشكال استغلال الإنسان وامتهان كرامته الآدمية، ارتبط مباشرة بتجارة الرقيق، والتي كانت اليمن في يوم من الأيام إحدى محطاتها، ورسمياً فإن العبودية أُلغيت في اليمن وفق مرسوم جمهوري عقب قيام الثورة مباشرة ، وأصبح الكثير من عبيد القصور أحراراً.
ج نمط إنتاج شبه إقطاعي ، ونقول شبه اقطاعي لأن في اليمن، كما في غيرها من بلدان الشرق، قدراً من الحرية كان يتمتع بها الفلاحون في الأراضي الإقطاعية، وهو ما يتعارض مع الصورة النمطية المعروفة عن الإقطاع في بلدان الغرب الأوروبي.
د علاقات إنتاج رأسمالية أولية، لاترقى إلى اعتبارها نمطاً إنتاجياً مستقلاً، وهذه تظهر بوضوح في أسلوب المبادلات التجارية والسلعية والتعامل النقدي في الأسواق.
وهناك ظاهرتان جديرتان بالتنويه، بالنظر لأهميتها في سياق التحليل العام:
الظاهرة الأولى:
هي أن نمط الإنتاج السلعي كان يتقدم بسرعة على حساب أنماط الإنتاج الأخرى، فدائرة التعامل قد اتسعت لتشمل الريف والمدينة معاً، رغم عدم وجود نظام نقدي تختص به اليمن، يعزز ذلك ظاهرة انتشار السلع الأجنبية في السوق.
الظاهرة الثانية:
هي أن العلاقات شبه الاقطاعية قد دخل عليها نظام التأجير، الذي أصبح شكلاً جديداً في علاقات الإنتاج الزراعي، أخذ بدوره في الاتساع على حساب العلاقات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية كما ألمحنا، وهذا النظام برغم ما فيه من إجحاف وظلم للفلاحين، لكنه كان يمنحهم المزيد من الامتيازات والمزيد من الحرية،ويتقدم ولو بخطوات وئيدة بالعلاقات الرأسمالية في الريف، وقد ارتبط ظهوره بدخول الآلة إلى قطاع الزراعة.
وعموماً فإن النظام الاجتماعي والاقتصادي في عمومه، هو نظام تتعايش فيه أشكال الإنتاج من المشاعية البدائية، مروراً بالعبودية وشبه الاقطاعية، وحتى العلاقات الرأسمالية، إلا أنه في اليمن يمكن القول إنه بالرغم من وجود هذه الأشكال مجتمعة، فإن شبه الإقطاعية كان هو النظام السائد، ولكن المتغير والمتحول بتأثير الكثير من العوامل.
2 تعدد أشكال الملكية: وبالنتيجة، فقد تعددت أشكال الملكية ، وأكثر هذه الأشكال شيوعاً هي:
أولاً : في الريف:
أ الملكية المشاعية:
وهي ملكيات قبلية، ناتجة عن بقايا الإنتاج المشاعي البدائي، حيث تعود الأرض إلى القبيلة، وقد تراجع هذا النمط من الملكية، وتقلص لحساب شيوخ القبائل،الذين أخذو يحولون تدريجياً أراضي القبيلة إلى ملكيات خاصة، وكذلك فعل الشيء ذاته الشيوخ الأصغر شأناً وبقية المتنفذين في القبيلة، وبقايا هذا النمط في المناطق المرتفعة على وجه التحديد قائمة حتى الآن، وبالإضافة إلى الأرض المشاع التي عادة ما تثير الخلاف بين القبائل هناك نمط خاص في منطقة «حراز» حيث يسود المذهب الإسماعيلي، وتبدو فيه الملكية أقرب إلى الملكية العامة. وكذلك العمل وتوزيع الإنتاج.
ب ملكية الأوقاف:
وقد قدرت بعض المصادر ملكيات الأوقاف بنحو 21% من مجموع الأراضي الزراعية، وقد تصدق هذه التقديرات أحياناً وقد لاتصدق، إلا أن لها مدلولاً واضحاً حيث إن عدد المتصدقين بأموالهم كان كبيراً، وهذه الأراضي كانت تؤجر إلى الفلاحين، أما عوائدها فكانت تذهب مناصفة بين الهيئات المشرفة عليها والعائلة المالكة، وأغلب الظن أن الإمام لا يسمح إلا بالقليل من إيرادات هذه الأراضي لمن يوليهم الإشراف عليها كما يمارس الإمام نفس الدور الإشرافي على الأوقاف في المدينة، فعوائدها تدخل خزينة الدولة.
«ج» الملكية الخاصة:
وهي نوعان النوع الأول:الملكيات الخاصة الكبيرة وتعود بالأساس إلى الإمام،وأفراد عائلته، وبعض شيوخ الأرض،وهناك بضع عائلات عرفت بكبر حجم ملكياتها وسعتها ومن أهمها:
1 عائلة الإمام ذاته 00701 هكتار
2 عائلة الهيج 00751 هكتار
3 عائلة الجبلى 0522 هكتار
وقد كون الإمام يحيى ومن بعده الإمام أحمد معظم ملكياتهم،إما مما آل إلى الدولة الزيدية من أملاك الدولة العثمانية، تحول مع الزمن إلى ملكيات خاصة للإمام، أو عن طريق الاستيلاء على أملاك الخصوم، واستيلاء الإمام أحمد على مزارع «العصيفرة» في تعز وهي من المزارع الخصبة خير مثال على ذلك.
وفي غياب الاحصائيات يصعب التنبؤ بعدد العائلات التي يفوق حجم ممتلكاتها المئة هكتار،إلا أنه يمكن القول إن بعض الأسر كآل الوزير،وآل الشامي،وآل السباعى وغيرها،والتي يمكن اعتبارها جزءاً من تركبية النظام، على الأقل حتى 8491م تدخل ملكياتها في هذا النوع من الملكيات.
النوع الثاني من الملكيات الخاصة:هي الملكيات المتوسطة والصغيرة،والأخيرة هي النمط السائد في المرتفعات الجبلية الشمالية والوسطى؛نظراً لمحدودية الأراضي الزراعية، وحسب بعض المصادر فإن 09% من الملاك الصغار لايملكون سوى 02% من الأراضي الزراعية،وهي أرقام تبدو قريبة من الواقع وإن كانت لاتمثله تماماً،وتقسيمات البيضاني لاتبدو دقيقة،وهو يعترف بأنها تقديرية،بالإضافة إلى أنها قاصرة على منطقة تهامة فحسب،وذلك يقلل من إمكانية الوصول إلى نتائج أكثر دقة،أما الاحصائيات التي نشرت بعد ذلك بعشرين عاماً، وبعد سقوط النظام الإمامي،فمن الصعب اعتمادها لطول الفترة الزمنية الفارقة.
ثانياً:- في المدينة:
إن من الأهمية بمكان القول بأن معظم الملاك أو جلهم يسكنون العاصمة والمدن الرئيسية،وهو الأمر الذي جعل البعض يكتفي بدراسة شكل الملكية في الريف،وهو لايكفي لتقرير حال المجتمع،حتى ولو كان هذا المجتمع ذا طابع زراعي، كماهو الحال في اليمن، هناك على الأقل 02% من السكان يقطنون المدينة وقد مارست مدن صنعاء وتعز والحديدة وإب وذمار أدواراً سياسية وإنتاجية متعددة،وكانت الأنشطة الإنتاجية في المدن محصورة في مجالين رئيسيين، مجال الصناعات الحرفية اليدوية، ومجال التجارة،وإلى حد ما مجال العقار، ففي مجال الصناعات اليدوية،كان هناك القليل من الصناعات التقليدية كصناعة الأسلحة،والأحجار الكريمة،والحدادة في صنعاء وصناعة حلج القطن والدباغة.
وهذه مصانع أو معامل صغيرة تستوعب نحو 04- 05 من العمال، وكان هناك فئة من الملاك يحكمون هذا النوع من النشاط، وكونوا إلى جانب طبقة ملاك الأرض أرستقراطية المدينة.
أما التجارة فكانت حرفة الأفراد والعائلات الأكثر قرباً من النظام والأكثر غنى، وهي حرفة كانت تدر ثروة هائلة على أصحابها نظراً لاحتكار تجارة الخارج وإلى حد كبير تجارة الداخل.
وفيما يخص الحرف فإن معظم الحرفيين يملكون وسائل إنتاجهم الخاصة، وقليل من الورش الخاصة هي التي تقوم على عمالة مؤجرة، لقد ظلت النشاطات الرئيسية محدودة وبقي مستوى الحرف على حاله منذ قرون عديدة.
3 تعدد الطبقات الاجتماعية:
يشير مفهوم الطبقة الاجتماعية إلى انقسامات داخل مجتمع ما،ويمكن أن نميز ثلاثة ميادين أو مستويات للحياة الاجتماعية، الأول: البنية الاقتصادية التي تؤلفها جملة العلاقات في دائرة إنتاج الخيرات والخدمات وتبادلها، وهذه العلاقات مستقلة عن إرادة الأفراد، فهي خارجة عنهم، والثاني:المستوى البيئي الذاتي للوعي الاجتماعي، وتشمل الصورة التي يرى عليها الأفراد أنفسهم ويرون الآخرين،والثالث:الفعل الفردي والجماعي معاً في دوائر متنوعة من الحياة التي تشمل سلوك الأفراد كأشخاص خصوصيين، مستهلكين وعمال وموظفين، ونمط حياتهم وعاداتهم،والصورة التي ينظمون عليها أنفسهم، وبقدر ما تقوم صلات ذات دلالة بين هذه المستويات توجد الطبقات.
إن أكثر النظريات انتشاراً في تفسير العلاقات الطبقية والصراعات الاجتماعية هي النظرية الماركسية،وهي نظرية أثارت ومازالت تثير الكثير من النقاشات حولها،وقد مرت هذه النظرية حتى الآن بمرحلتين كما يرى أصحابها،الأولى تلك التي تعود إلى ماركس نفسه الذي يرى أن الاستغلال إذ يغتصب السائد «السيد» فضل قيمة عمل المسود هو أساس العلاقات الاجتماعية،وماركس هنا يقلل من أهمية تأثير الوعى، وتأثير الدولة في حياة المجتمع، وقد جرى بعد ذلك تطوير هذه النظرية على يد «ماكس فيبر» وهي «مرحلة ثانية» كما يراها علماء الاجتماع المحدثون،وفي هذه المرحلة تكون النظرية أكثر مرونة،إذ أن «فيبر» لايكتفي بأخذ علاقات الإنتاج وحدها في الحسبان، ولكنه يعيد الاعتبار لأمور أخرى بدت غير ذات بال لدى «ماركس» مثل دائرة التداول، ومواقع السوق، على الرغم من أنه يعتقد كماركس أن حيازة الملكية أو عدم حيازتها هو أساس الأوضاع الطبقية.
وقد أكد الماركسيون على قضية محورية دائماً وهي أن المهم تغيير الواقع لا وصفه.
إلا أن النظرية الماركسية محل نقد شديد من دعاة الفكر الليبرالي،فهم يرون أن التقسيمات الطبقية، والتناقضات الاجتماعية، واقع لامحيص منه، وأن من العبث تغيير هذا الواقع تحت أي مسمى كان، وهم يعتقدون أن للدولة وهي عنصر هام في البناء الفوقي لأي مجتمع القدرة على ممارسة وظيفة الحكم بين المصالح المتعارضة المتنافرة في المجتمع وإن دورها حاسم في تحقيق العدالة والمساواة بين أفراد وطبقات المجتمع، كما أن هذه النظرية محل نقد آخر من الاتجاهات الدينية في المجتمع،وقلما يعترف رجال الدين في الغرب والشرق بأن الأسباب الرئيسية في التفاوت الطبقي إنما تعود إلى التفاوت الكبير في الملكية،بين فقراء المجتمع وأغنيائه،وهم يعتقدون بأن المسألة تتعلق دائماً بالايمان وبالأخلاق،أي أنهم يعودون بالتناقضات الاجتماعية إلى الوعي.
وفي الحقيقة فإن الدين يمكنه أن يلعب دور الوازع الأخلاقي ويمكنه تغيير بعض اتجاهات السلوك الاجتماعي، لكنه من المؤكد لايلغي هذه المتناقضات، ولايزيل أسبابها الكامنة في عناصر غير معرفية، ولا علاقة لها بوعي الإنسان وثقافته، كعنصر الملكية مثلاً.
وفي المجتمعات العربية،واليمن واحد منها، فإن الأمور تبدو أكثر تعقيداً، وهناك اجتهادات نظرية لاتخلو من قيمة معرفية،هذه الاجتهادات النظرية أضافت عناصر جديدة إلى المفاهيم الاجتماعية،ومن أهمها:عنصرا «النسب» والاستقلالية في المنصب التي بلور «حليم بركات» أثرها ومفعولها في تحديد العلاقات الاجتماعية بين طبقات المجتمع العربي، دون أن يتخلى عن الأساس النظري الماركسي، والذي يرتكز أساساً على الملكية الاجتماعية، بفرعيها ملكية الأرض وملكية المال.
واستناداً إلى عنصر «النسب» يرى «بركات» أن الأفراد والجماعات في المجتمعات التقليدية يرثون انتماءهم الطبقي في العائلة،وفيها يتعلمون القيم والأصول الطبقية،ولما كان نظام الإرث يؤمن انتقال الثروة ضمن العائلة، ولما كانت العائلات الثرية أكثر قدرة من غيرها على الاستفادة من الظروف المستجدة، والتحولات الاقتصادية،وفي تنمية إمكانات أفرادها وتهيئتهم على خوض معارك الحياة،مجهزين بجميع أنواع الأسلحة الضرورية، فإنها نادراً ماتخسر مواقعها ومكانتها في ظل النظام القائم، بذلك تكونت تقليدياً فكرة النسب، وانتقلت الوجاهة من جيل إلى آخر، تماماً كالموروثات المادية والمعنوية الأخرى، كما أن النسب بدوره قد يصبح سبباً في حصول العائلة على الثروة والنفوذ، وبكلام آخر قد يكون النسب نتيجة أو سبباً أو كليهما معاً، وهو يرى أيضاً أن للنسب أهمية خاصة في التقسيم الطبقي في المجتمع العربي، كانت قريش تتشكل من طبقة التجار، مما فسر سيطرتها اقتصادياً أو دينياً إلا أن الانتساب لقريش ولعائلة النبي صلى الله عليه وسلم جلب معه فيما بعد ثروات طائلة عن طريق المخصصات والهدايا وامتلاك الأراضي فنشأت، أو بالأحرى تبلورت طبقات ارستقراطية تقوم على الملكية والنسب الرفيع معاً، بالرغم من أن في التراث العربي مقولات تعلي من قيمة الفرد المنتج، والفرد المبدع «لاتقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ماقد حصل» وكأنما يريد بركات القول إن النسب قد حافظ على تأثيره على مدى طويل وفي مراحل مختلفة ومتعاقبة من تطور المجتمعات العربية، وهي مسألة محل نظر إذا مانظر إليها من هذه الزاوية فحسب.
وفي الواقع فإنه من غير الممكن دراسة وفهم الحالة التي كان عليها المجتمع اليمني، دون الأخذ في الاعتبار هذا العنصر، نعني به «عنصر النسب» حيث قامت الإمامة الزيدية بتكريسه في كل مناحي الحياة وجعلت من قضية النسب وحق المنتسبين إلى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» حقاً إلهياً في الملك والحكم، وقدسته حق التقديس على مدى ألف عام، حتى غدا في مرحلة ما، وكأنه جزء من ثقافة المجتمع اليمني، وعلامة من علاماته، وهو غير ذلك.
العنصر الثاني: هو استقلالية المنصب «الموقع» الذي يحتله الأفراد والجماعات في المجتمع، وخصوصاً في المجتمعات التقليدية هل يعمل الفرد لحسابه الخاص أم لحساب غيره؟ هل يخدم أم يستخدم؟ هل هو سيد عمله أم هو مسود فيه؟...الخ فبقدر مايعمل الفرد لغيره وتحت إشراف الآخرين، وبقدر مايتلقى الأوامر وينفذها بقدر ماتتضح مكانته.. إن استقلالية المنصب ودرجة النفوذ تتوقفان على موقع الفرد أو الجماعة في البيئة الطبقية، ومدى ملكية وسائل الإنتاج إذاً فالعوامل الأربعة وهي ملكية الأرض، وملكية رأس المال والنسب، والاستقلالية في المنصب، هي أسس يمكن اعتمادها في دراسة التمايز الطبقي لأي مجتمع، والمجتمع العربي على وجه الخصوص، وهذا الاتجاه في التفكير الاجتماعي لايهمل العناصر الأخرى، كالثقافة، والدخل، والوظيفة، إلا أن هذه العوامل الأخرى عوامل مساعدة ومرتبطة بالأسس الأربعة السالفة الذكر ولاحقة لها.
لننظر الآن إلى البناء الاجتماعي في اليمن بتكويناته الطبقية المتعددة، كما كان باحثون يمنيون وغير يمنيين قد تناولوها هنا وهناك في ثنايا كتب التاريخ والاجتماع، ولنبدأ بأكثر هذه الإسهامات بساطة في التناول حتى أكثرها تعقيداً في التحليل.
لقد قسم البعض المجتمع اليمني إلى بدو وفلاحين، ولم يعط اهتماماً كبيراً للفئات الاجتماعية الأخرى، معللاً ذلك بسبب قلة الفائض في الإنتاج العام، وانعدام الصناعة، وانقراض الأعمال الحرفية القديمة، وقال إن هذا الانقسام في إشارة واعية أو غير واعية إلى أن العلاقات الاجتماعية إنما تنشأ خارج إرادة الناس لم يكن انقساماً اختيارياً في المجتمع بل هو بفعل الطبيعة في الأرض المجدبة التي صنعت البداوة، والأرض الخضراء التي أتاحت الفرصة لظهور الفلاحين.
وعمد البعض الآخر إلى تقسيم المجتمع اليمني إلى ثلاث طبقات، الأولى: الاشراف من نسل الحسن والحسين، والثانية: التجار والعمال، وهي طبقة وسطى في تقديره، أما الثالثة فهي من البربر، ويعني بهم الخدام، وبصرف النظر عن المعنى المراد هنا من كلمة «بربر» فإن هذا الاصطلاح لاينطبق البتة على أخدام وعبيد اليمن.
وذهب باحث آخر إلى تقسيم أكثر تفصيلاً، فقد جعل المجتمع اليمني ينقسم إلى أربع طبقات: السادة والأشراف في قمة السلم الاجتماعي، ويليهم القبائل طبقة ثانية، ثم التجار في المرتبة الثالثة، وأخيراً الطبقة الدنيا التي قال إنها خليط من فئات اجتماعية وأجناس من أصل أفريقي، ويقصد هنا العبيد والأخدام.
وكان كل من الصائدي و «العطار» قد وصلا إلى تقسيم اجتماعي اقترب كثيراً من واقع المجتمع، حيث قسما المجتمع إلى ست طبقات هي:
1 السادة والأشراف.
2 شيوخ القبائل.
3 التجار والحرفيون.
4 الفلاحون.
5 العبيد.
6 الأخدام.
وهذا هو التقسيم الذي اعتمده بعض المؤرخين في تناول واقع اليمن في العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين، معتمدين إلى حد كبير على العطار ومقتفين أثره مع قدر غير قليل من التحليل الموضوعي والنظرة التاريخية.
لقد ابتعدت التقسيمات الأولى عن واقع الحال كثيراً باستثناء الأخير، وعيبها الرئيسي أنها لم تر في المجتمع اليمني غير البدو والفلاحين، غير الزراعة والرعي، وبعضها كان قد أضاف التجار والعمل كطبقة وسطى، وأغفل مكانة القضاة وشيوخ القبائل، بالرغم من وجودهم الظاهر والمؤثر في حياة المجتمع.
وكانت بعض البحوث قد اقتربت إلى تحليل يكاد يقترب إلى حد كبير من واقع المجتمع في تركيبته التقليدية، وإلى حد كبير أيضاً الطبقية المميزة والمستندة إلى ملكية الأرض لكن وضع العبيد في طبقة، والأخدام في طبقة أخرى تليها لايعبر عن الواقع الحقيقي، إذا ماأخذنا بعين الاعتبار أنه لا العبيد ولا الأخدام يحظون بالحقوق التي من المفترض أن يتمتعون بها كبقية فئات المجتمع أما إذا أخذنا بالأسس السابقة في التصنيف الطبقي، فإنه يمكن أن يدخل في عداد الطبقة الدنيا في المجتمع، معظم الفلاحين في جنوب البلاد وشمالها، وفئات أخرى من العمال والموظفين، ولايفرق بين هذه الفئات الاجتماعية إلا قاعدة النسب، حيث يفتخر القبيلي بانتسابه القبلي، فلاحاً كان أو عاملاً أو موظفاً.
من هنا يمكن إعادة التقسيم والتركيب الاجتماعي للمجتمع اليمني، إلى ثلاث طبقات فحسب: ارستقراطية عليا، وتجارية إقطاعية وسطى، وكادحة فلاحية وعمالية دنيا، وكل طبقة تتكون من عدة فئات:
1 الطبقة العليا وتتكون من الفئات التالية:
«أ» السادة: وهم حكام اليمن، إليهم بنتسب الأئمة، ويعودون بنسبهم إلى الرسول «صلى الله عليه وسلم» عن طريق ابنته فاطمة زوج علي بن أبي طالب، وهم من كبار الملاك وحائزي العقارات، وهم الموظفون الكبار في جهاز الدولة، وحكام الألوية، وإليهم وحدهم يرجع أمر انتخاب أو اختيار الإمام نظرياً على الأقل والسادة النبلاء هم من الطائفة الزيدية، وإن كان بعضهم يعمل بالتجارة أما السادة الشافعيون فلم تكن لهم من الحظوة ماللسادة الزيديين لدى الإمام، وإن كان الإمام أحمد قد عين بعضاً منهم في مناصب إدارية، وكانوا الطبقة الأكثر محافظة في المجتمع فقد رفضوا دائماً كل محاولة للاصلاح في العهد الملكي الإمامي، لكن بعضهم انخرط في المعارضة ابتداءً من مطلع الأربعينات وكان قادة الانقلاب الدستوري في عام 8491م من أبرز بيوتاتهم.
لقد عمل السادة «أئمة اليمن على وجه التحديد» منذ قدومهم إلى اليمن على خلق سياق أيديولوجي عام يكرس أوضاعهم كجماعة حاكمة تنتسب إلى آل البيت، وهم بحسب محتوى هذه الأيديولوجية فاطميون تمتعوا بالقداسة والوجاهة، حيث أخذ هذا المحتوى يتغلغل في الوعي الاجتماعي، مغلفاً ببعض الظواهر الأسطورية، تحول مع الزمن إلى مايشبه الحقيقة الدينية التي يصعب المجادلة فيها، وهذه ظاهرة ليست بالضرورة نتاج حالة اليمن، بل هي ظاهرة نجمت عن تدني مستوى الوعي، فإن الطبقات الحاكمة المسيطرة كانت تبحث دائماً عن ايديولوجية تبرر بها وجودها في نفس الوقت تمدها بنسيج من المعتقدات تحتمي بها من دون أن تكون لها بالضرورة قيمة موضوعية ولهذا النسيج الأيديولوجي أهمية أيضاً لأنه يبرر صراعها لاكتساب المكانة والقدرة.
والسادة طبقة منغلقة على نفسها، وأفرادها يتمتعون بمركز في الوسط الاجتماعي، فإذا صادف مواطن سيداً من هؤلاء السادة، وإن صغر سنه، ورق حاله، هوى على ركبتيه ويديه يقبلهما وكانت الإمارات الرفيعة والمكانة العالية لهم، مهما قلت معرفتهم وكفاءتهم، وكل صدقات اليمن، والهدايا، والنذور الدينية في الأعياد والمواسم تذهب لهم مهما كثر مالهم، وسعد حالهم والقاعدة عند السادة أن يصاهروا بعضهم بعضاً ولايقبلون مصاهرة الغير باعتبار عدم وجود الكفاءة في النسب.
لكننا في حاجة إلى تأمل هذه الظاهرة من زاوية أخرى ففئة السادة في واقع الأمر ليست طبقة متجانسة والتعميم هنا لايمنحنا معرفة الأسباب التي تدفع بأفراد هذه الطبقة للثورة ضد الإمام، والعمل إلى جانب القوى الأخرى للقضاء على النظام وإزالة الإمامة كطريقة للحكم دامت قروناً عديدة، الحقيقة أن بعض السادة لايملكون من الانتماء إلى هذه الطبقة غير الاسم، فقد كان البعض منهم فقيراً، والبعض الآخر لم ينل نصيباً من التعليم الذي كانت تحرص عليه الفئات الغنية منهم،لهذا تفاوت أفراد الطبقة في المكانة الاجتماعية،فالسيد العالم كان أكثر وجاهة من السيد غير العالم،والسيد الغني كان أكثر مكانة من السيد الفقير،أو الذي كان غنياً ثم افتقر.
ومن هنا نجد تبريراً للمشاركة الفعالة لأفراد وأسر من هذه الطبقة في مقاومة الوضع القائم، ورفضه والتمرد عليه، إنما الأكثر إثارة ومدعاة للتأمل هو أن بعض أفراد الأسرة الحاكمة والأسر المتحالفة معها وتمردوا على النظام وسعوا إلى تغييره وإصلاحه، وهم في حقيقة أمرهم لايختلفون طبقياً عن بقية أفراد الطبقة المالكة إلا أنهم حصلوا على قدر كبير من التعليم، وكأننا هنا أمام «ماكس فيبر» تماماً، أو كأننا أمام الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، والأمير إبراهيم أحد زعماء الانقلاب الدستوري وآل الوزير، وآل الشامي، هم النموذج المجسد لهذه الحالة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.