جمعة الكرامة 18/3/2011, وردة النارالتي لازالت تختمرالذاكرة, كانت ولازالت حرقة وانتشاءة. و بما أن الوقت لا ينتظر فلن نسكت سنوات كما كان يفعل آباؤنا في سرد شهاداتهم عما أدركوه من أحداث تاريخية هامة في حياتهم ,و لن ننسى. لم تكن أول اعتداء على مسيرة الشباب الثائر ضد نظام صالح فقد سبقها الكثير من الاعتداءات على المعتصمين التي كان أهمها ذلك الذي وقع في فجر يوم الثلاثاء 15/3/ 2011 ,و لم تكن الأكثر من حيث عدد الشهداء و الجرحى و لكنها كانت الأكثر تأثيراً في مسارالثورة اليمنية والأكثرغموضاً بتواطؤ الكثيرحتى الآن رغم وقوع الحدث في رابعة النهار ورغم غزارة شهودها سواء المتواجدين في موقع الحدث أو من كانوا يشاهدون النقل الحي المباشر عبر وسائل الإعلام المختلفة كانت ولازالت الحدث الذي زلزل عرش صالح إن لم نقل أنها اقتلعته , و لولا تكالب من لا يريدون لهذا الوطن الأمن والأمان و السلامة والرخاء لكانت لوحدها نهاية مأساتنا, و ثمناً باهظاً لما نرجوه من نجاح ثورتنا. يومها كنت هناك حاضراً لصلاة الجمعة في الساحة كما أصبحت العادة طوال سنة الثورة الأولى التي انبعثت وأنا في صنعاء و لأداء واجب تحتمه عليا مهنتي كطبيب قبل أن أكون مناصراً للثورة أتواجد في المستشفى الميداني حين تستدعي الحاجة لذلك مثلي مثل مئات الأطباء والممرضين وطلاب العلوم الصحية و المتطوعين لبوا نداء الواجب الإنساني و الثوري . كان خطيب الجمعة في ذلك اليوم هو الأستاذ/ فؤاد الحميري ,تكلم طويلاً عن الساحة و شبابها و أهميتها و قدرتها على انتزاع النظام و من أنه يرى للكوثر طريقاً عبر هذه الساحة «و هي من الجمل المؤثرة التي علقت في ذاكرتي و عرفت مدى تأثير الكلمة على جموع المحتشدين بعد ذلك في تدافع الشباب تجاه الحواجز غير آبهين بما يتصدى لهم به أنصار النظام السابق» و كلام غيره كثير ألهب جموع المحتشدين الذين توجهوا كما هي العادة باتجاه أطراف الساحة بعد نهاية كل جمعة و لكن في هذه المرة كان التربص بهم مختلفاً عن كل ما سبق , فقد كان أنصار النظام قد وضعوا حواجز اسمنتية في الشوارع المحيطة بالساحة لمنع توسع الخيام و حصر الثوار في مربعهم الصغير حد الاختناق. و كان قد سبق ذلك بأيام تسريبات و إشاعات أثبتت جمعة الكرامة صحتها من أن النظام نشر بلاطجته في محيط الساحة و وزع كميات من الأسلحة لهم و بدأوا بالفعل في بناء حواجز و متارس بين البيوت و في شوارع الحارات الضيقة . توجهت الجموع صوب الحواجز الإسمنتية القاطعة للشارع العام بالدائري لتكسيرها و هنا حدث أكثر مما كان في الحسبان , بدأ أنصار النظام السابق بإشعال اطارات السيارات من خلف الحواجز حتى انعدمت على المتواجدين في الساحة إمكانية رؤية البلاطجة المتمترسين خلف الحاجز وبدأ التراشق بالحجارة ليتبعه إطلاق نار كثيف و موجه مباشرة صوب الشباب وابتدأ تساقط الضحايا منهم وهم يصرون على التقدم و اقتحام خط الاسمنت و النار والنيران. و رأينا شبابنا و هم يتساقطون كالفراش أمام أعيُننا وتحت وقع تلك الأعيرة النارية التي كان من الواضح أنها ليست لمجرد التخويف أو الردع و لكنها جاءت لغرض القتل و الإعاقة فقد كانت موجهة كما أسلفت مباشرة الى الرؤوس و الأعناق و الصدور و الأطراف السفلية , قتلٌ متعمد مع سبق الإصرار. توجهت على الفور إلى المستشفى الميداني, كنتُ يومها أصطحبُ إبني الصغير محمد «عشر سنوات وليتني لم أفعل به هذا فما رآه داخل المستشفى تجربة مريرة لا أظن أنه سينساها ما حيي» . و بدأ وصول المصابين و الشهداء بشكل متسارع و متتابع الى المستشفى الميداني الذي كان يومها لم يتوسع بالشكل الذي هو عليه الآن , لأن حرم المسجد لم يكن قد وظف بعد كقسم للرقود و استقبال المصابين و كانت هذه الجمعة هي الأولى التي امتلأ بها مبنى المسجد و ساحته الخارجية بهذا الكم الهائل من الشهداء و المصابين بالأعيرة النارية , و قلة لا تكاد تذكر من المختنقين بالغازات حيث أنها لم تستخدم يومها كثيرا ,فالهدف هذه المرة لم يكن الترويع و فض اعتصام فقط وإنما القتل و الإعاقة . حدثت جمعة الكرامة بعد التزام صالح أمام شاشات التلفزيون بحماية المعتصمين من قبل الأجهزة الأمنية ضد أي اعتداء , و كالعادة ما إن يصرح بشئ حتى يحدث العكس تماماً , بقي أفراد الأمن المكلفين بحماية الساحة في موقف المتفرج بزيهم الرسمي . نقل وتخبط وارتباك وصرخات ألم عالية وآهات مكتومة و دموع و تصميم عجائبي من قبل الشباب أذهل كل المتواجدين و المتابعين , حيث كان المصابون في المستشفى يصرون على عودتهم إلى خط المواجهه ,خصوصا من نكب بسقوط أخٍ أو عزيز عليه بين يديه. سقط أكثر من خمسين شهيداً و خمسمائة جريح في أقل من ثلاث ساعات ,أعمارهم مختلفة تتراوح بين ال 16 و ال35 تقريباً من كل المحافظات و الطبقات و المهن. تعرفنا على كثير منهم قبل الواقعة كانوا شباباً مفعمين بالحيوية و ضحكاتهم كانت تملأ الساحة و صيحاتهم تسمع في كل مكان.. يتنقلون في الساحة من مكان إلى آخر لأداء واجبهم الذي اختاروه لأنفسهم و الذي وجدوا أنفسهم فيه. إطلاق النار كان واضح المصدر من فوق العمائر والبيوت المطلة على الشارع و تمكن الشباب من إلقاء القبض على عدد ممن كانوا يطلقون النار و اقتحموا بعض البيوت التي يأتي منها الطلق الناري. و استطاعوا الحصول على الكثير من الوثائق و الملفات التي قالوا لنا في حينها أنها تتضمن مخططات الأوامرالتي بموجبها تم الاعداد للمجزرة ,و تم التحرز على معظمها إن لم يكن كلها لاحقاً من قبل اللجان الأمنية , حتى أنه تم لاحقاً تجميع كل الوثائق و استعادتها من بعض الشباب الذين احتفظوا ببعضها. جمعة الكرامة لفتت أنظار العالم إلى الثورة اليمنية و أقنعت الجميع بأن ما يحدث في الساحة اليمنية لم يكن مجرد اعتصامات صغيرة تديرها المعارضة ضد صالح “ كما كان الإعلام الرسمي في حينها نظام صالح يروج للأمر” و إنما ثورة حقيقية من شعب يتوق للتحرر من النظام الجاثم على صدره لعقود و أنه على استعداد تام لبذل أغلى ما يمتلك و هي الروح من أجل تحقيق هدفه في الحصول على الحياة الكريمة التي يستحقها. تزلزلت الأرض من تحت اقدام صالح الذي يا طالما ظن أنه خالدٌ على كرسيه لن تطاله عدالة أرض و لن تتخلى عن مساندته سماء حتى هم بالتوريث للعرش. تجرد النظام السابق من الكثيرمن مراكز قواه بالإستقالات المتتالية من عسكريين و سياسيين و وزراء و نواب كانوا طوال فترة حكمه تحت مظلته و في عباءته , و ارتفعت الأصوات الدولية المطالبة برحيله. و بدأت بعدها المبادرات و الحوارات التي حاولت تمييع حقيقة الثورة و تحويلها من ثورة شبابية شعبية عارمة في كل أرجاء الوطن الى مجرد أزمة سياسية بين نظام حكم و معارضة. و الآن وبعد مرور سنة على هذا الحدث التاريخي,لازالت كل التساؤلات لم تجد الإجابة الشافية للشهداء و ذويهم و لا لشباب الثورة و مطالبهم. فلا نتائج للتحقيقات , ولا نشر للوثائق و الصور والتسجيلات و محاضر جمع الاستدلالات و لا سماع للمتهمين الذين تم القاء القبض عليهم يومها , ولا إيضاح للسبب الذي من أجله تم إقالة النائب العام الأسبق/ عبدالله العلفي. تبقى شواهد قبورشهدائنا شاهداً تاريخاً على هذه المؤامرة البشعة التي تعرض لها شعبنا العظيم الثائر. لا أحد يمتلك حقيقة ما حصل يومها كاملة وكل سيرويها من زاوية الرؤية التي كان يحتلها ساعة حدوثها , و لكن الجميع بمن فيهم صالح و نظامه و أنصاره يجمعون بما لا يدع مجالاً للشك أن جمعة الكرامة هي اليوم الذي غيّر مسار التاريخ في اليمن.