كتبت قبل ست سنوات تقريباً مقالاً مثيراً في صحيفة الناس الغراء بعنوان «هبل ما يزال على العرش» أثار المقال ضجة واسعة وجدلاً كبيراً وإعجاباً شديداً عند القراء , بينما حصره بعض القراء بدعوتي لإسقاط هبل الصنم علي عبدالله صالح فقط. وأنا عنيت به حينها إسقاط صنمية الفرد , إسقاط صنمية الزعماء , إسقاط ثقافة الاستبداد , إسقاط ثقافة التسلط والدكتاتورية , إسقاط المفاهيم الفكرية المنحرفة والقيم السياسية المزورة التي صنعها وغذاها ورعاها الاستبداد السياسي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية خلال القرون الماضية والحقب التاريخية المتعاقبة , من بعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة وحتى مطلع عام 2011م وتفجر ثورات الربيع العربي , والتي هزت هذه الثقافة الاستبدادية ووجهت أسلحتها الفتاكة في صدها ومفاهيمها وقيمها حتى أصابتها في كبدها , ورأيناها ومازلنا نراها تترنح وتتهاوى لولا عمقها في بنيان مجتمعاتنا , وسريانها في صلب ثقافتها ومفاهيمها , بل اختراقها حتى للتعاليم وللقيم الإسلامية نفسها . تلك كانت دعوتي حينها وتلك رؤيتي وفكرتي ومازالت , لذا ما إن تفجرت ثورات الربيع العربي , حتى شهدت فكرياً يتجلى في أرض الواقع وتنادي به الساحات والميادين المشتعلة بثورة الفكر النقي , وسمعت الصرخات مدوية في كل ساحة وميدان وشارع أن يسقط هبل , فليسقط هبل , اسقطوا هبل . ومرات عديدة وأنا في وسط المسيرات الحاشدة , أسمع الأصوات مدوية بالشعارات الصادحة القوية , بينما أنا وحدي أصرخ : أسقطوا هبل , فليسقط هبل .. إن ثقافة الاستبداد السياسي , قد خلطت علينا الأوراق , وروجت لمفاهيم التخلف والتجهيل وقيم الاستبداد , وتعبيد الناس لغير الله وإخضاعهم لجبروت الحكام وأهوائهم , وأعلت من شأن الزعماء الطغاة والقادة الظلمة والحكام المستبدين , وهمشت الأمة والمجتمع والوطن والشعب والفرد والإنسان , وحولت الكل تبعاً للزعيم وملكاً له , ومنحته حق التسيد والتحكم والتصرف بدون رقيب أو حسيب أو حد أو منتهى . تلك الثقافة الاستبدادية التي صنعت لنا أصناماً كثر عبر تاريخنا العربي والإسلامي المطحون بالاستبداد والمعجون به , بل إنها أضفت عليهم مشروعية إسلامية وألبستهم عمامة الدين المصطنعة والملفقة لهم زوراً وبهتاناً , ثم أضافت لهم في العقود الأخيرة مشروعية وطنية , تم فيها اختزال الأوطان فيهم , واختزالهم في الأوطان , وتزويجهم الشعوب , حتى غدا الزعيم هو الشعب , وهو الوطن وهو الزعيم الخالد المخلد وإلى الأبد , ولا صلاح ولا خير ولا بناء ورقي ولا تقدم ولا أمن ولا استقرار إلا بوجود الزعيم القائد المفدى , وإلا فإنه الهلاك بأسوأ صوره وأشكاله , وخلدتهم مهما عبثوا في الأوطان وثرواتها ومقدراتها , ومهما أجرموا بحق الشعوب المستكينة المغلوبة على أمرها .. لذا فإن هبلاً هذا ليس صنماً جاهلياً , ولكنه صنم ثقافي احتل العقول والقلوب واستوطن البلدان العربية والإسلامية وأصبح رمزاً من رموز ثقافتها . إن هبلاً هذا ثقافة مزورة ومفاهيم مغلوطة وفكر منحرف ومفاهيم باطلة ومبادئ مشوهة وقيم مغشوشة, عششت ونمت وترعرعت حتى تقوت وتصلبت وامتلكت القوة والشرعية الزائفة في عمق ثقافتنا الشعبية والسياسية . إن هبلاً هذا إنما صنعته الشعوب وقوته الثقافة الاستبدادية , ولن تسقطه إلا الشعوب بعد استبدال ثقافتها الاستبدادية بثقافة الحرية والشورى والعدالة والكرامة والحقوق المشروعة.. لذا فإن إسقاط هبل لن يتأتى بإسقاط زعيم مستبد أو اثنين أو خمسة , بل لن يتأتى إلا بإسقاط ثقافة هبل الاستبدادية , وهدمها في العقول ومسحها من النفوس وسفكها في القلوب والتحرر منها , وإعادة الاعتبار للإنسان أولاً وللحرية ثانياً وللعدالة والحقوق ثالثاً وللشورى رابعاً ولكل القيم السياسية المسلوبة منا خامساً.. ثم تصحيح المفاهيم المغلوطة , وسحق الأفكار الخاطئة , وتوعية المجتمعات بالموقع الحقيقي لولاة الأمر والقادة والزعماء وطبيعة وظيفتهم والمهام المنوطة بهم والواجبات الملقاة على عواتقهم ومالهم من حقوق شرعية وقانونية معروفة ومحدودة , ومسؤولياتهم الجسيمة المطالبون بالإيفاء بها , وأنهم موظفون عند الشعوب , مديرون لشؤونها , راعون لمصالحها , قائمون على خدمتها , ومحاسبون إن أساؤوا استخدام سلطاتهم أو قصروا في واجباتهم أو خانوا أماناتهم , أو تسببوا في التضييق على شعوبهم , او عبثوا بأوطانهم , أو غيبوا قيمة من القيم الإنسانية الكبرى التي لا قيمة للشعوب بدونها : حرية , شورى , عدالة , مساواة . وعليه أقول : إن خلع علي عبدالله صالح من كرسي الحكم وسقوط صنميته الرسمية غير كافٍ عندي , إذ المطلوب بنظري إسقاط صنمية الفرد في ثقافتنا , إسقاط هبل الفكر , هبل الاستبداد , هبل الوعي الزائف , هبل الجهل والتخلف , هبل الفساد , هبل التضليل والدجل والضحك على الشعوب , هبل الإعلام الدجال , هبل الزعيم المقدس , هبل الرئيس إلى الأبد . وإذا كانت ثورات الربيع العربي قد نجحت نجاحاً مذهلاً في هز بعض عروش الطغيان , وهدم أوكار بعض الأصنام , وخلع بعض الرؤساء الفاسدين , وهز بعضهم , وتمكنت من سوق الشعوب إلى التمرد على ثقافة الاستبداد وصنمية الفرد , ومكنتها من رفع أصواتها عالية في وجه الأصنام حتى أرعبتها وكسرت شوكتها وأوهنت هيبتها , فإن المهمة لم تكتمل بعد , ومازالت هناك ثقافة غائرة في عمق الثقافة العربية والإسلامية وفي جدران الوعي المنقوص , عند طوابير طويلة من فئات مجتمعاتنا , ليس العوام والجهلاء فقط , بل للأسف عند كثير من أنصاف المتعلمين وأدعياء السياسة وأصحاب الثقافة الزائفة , بل عند بعض حملة علوم الشريعة الإسلامية من طلاب التقليد ومشايخ الجمود والانغلاق والتعصب . والمهمة هنا هي مهمة ثقافية فكرية إعلامية تعليمية تربوية تنويرية , تستكمل المشوار بنشر الوعي الصحيح وإزالة ثقافة الاستبداد وأصنامها من العقول والأفكار والنفوس . * أستاذ الفكر الإسلامي المشارك بجامعة إب