كان لرياح التغيير التي عصفت بما يسمى بجمهوريات الربيع العربي والتي جاءت هذه الرياح نتاج ظروف سياسية واجتماعية عدة أفرزها سلوك الانظمة الحاكمة في تلك الدول دفعت بحركة الشارع نحو المنظومة الحاكمة في ردة فعل طبيعية لسلوك غير سوي عجلت بنهايتها , وبعيدا عن المسرعات التي جعلت تلك الثورات تنفجر في سلسلة تزامنية في تلك الجمهوريات فجميعها كان لها المحفز الاساسي هو الظلم واخطاء الانظمة التي لم تكن قد ادركت بعد سننية التاريخ وحركة الحضارات واعتلالاتها فهم لم يستوعبوا دورهم كأنظمة في صيرورة الحضارة فقد غيبت تلك الانظمة عقليتها عن المسار الطبيعي للفعل الحضاري أو لم يستوعبوا جيدا جدلية التاريخ وأمراض الانظمة التي تكتب نهايتها ولعل أخطر تلك الامراض الظلم الذي يؤسس للغياب الحضاري فكانت جمهوريات تعيش خارجاً الزمن بأممها ولم يدركوا أن الحضارة تقذف بالكائنات الضعيفة خارجاً أنها الحضارة ,تلك المفردة التي تقرأ من كل زوايا الحياة والوجود الإنساني وقد جاءت حمالة أوجه شأنها شأن غيرها من المفردات التي تستوعب مفاهيم ومعانٍ عدة ولكن في مجملها تدور في فلك معنى النماء والاستقرار والرفاه والحضور , وحتى لا نغرق في المعنى الدلالي , يكفي أن نقف على مفهوم أن الحضارة هي تحقيق الوجود الإنساني واثبات تميز وخصوصية لها بعد إنساني لذا فالحضارة كائن حي ينمو ويشب ويشيخ , تصيبه الأمراض والاعتلالات لأن ذلك مقتضى طبيعي لكل كائن حي لهذا كانت رؤية ابن خلدون في مقدمته حول الحضارة أنها تولد وتشب وتهرم وتموت , والحضارة كائن تغذيه الأفكار وهي التي تحفظ صيرورتها , ومنذ ولدتها تحمل جرثومة نموها وفنائها وفي مسيرتها تصاب تلك النظم الإنسانية الحياتية بأمراض تتفاوت بين الأمراض العارضة والمزمنة وأمراض الموت , وتختلف درجة مقاومة الحضارات لهذه الأمراض من حضارة إلىأخرى تبعاً لمستوى المناعة والثبات داخل منظومة ومفردات الحضارة وهذا يتعلق بمرحلة البناء فكلما كانت المعطيات الأولية لبناء الحضارة سليمة ومتماسكة كانت النتائج سليمة يقول مالك بن نبي ((إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكيرالكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجدأنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس )) , لذلك ما تصاب به المجتمعات – وهي اداءة الفعل وقلب الإنتاج الحضاري – يغير مستوى عطاء واستمرار وتغذية ذلك المجتمع لجسد الحضارة والمشاركة في البناء الإنساني والحضور الحضاري , لذلك تصاب مفاصل الحضارة وجوهرها باعتلالات شتى ولعل من أكثرها حضوراً في سقوط وموت الأمم والحضارات مرضان عضال الظلم والجهل وعلى اختلاف مستوياتهما ويأتي توقفنا هنا في هذا المقام على عتبات احدهما وهو الظلم الذي ماتسرب إلى امة من الأمم إلا كان أداؤه إتلافاً وسماً زعافاً يشل حركة النماء ويدخل المجتمع في حالة استلاب وجودي ونفوق حضاري وما أصاب امة من الأمم إلاّ قادها الى مثواها , وهذا ماأصاب الشعوب العربية وأنظمتها وهو متعدد الصور متلون الأسلوب مستشري الظهور يبدأ من النواة الأولىالأسرة ويبلغ ذروته في الاستبداد السياسي والقمع الإنساني انه حالة من انعدام السواء الوجودي وحالة من اضطراب نفسي واجتماعي ينتج عنه سلوك عدائي تجاه الفرد أو المجتمع , إصابة سرطانية تنهك جسد الحضارات , فعل غير ملائم لهدف غير صحيح , لذا قالت العرب (( الظلم هو وضع الشيء في غير محله ) التطرف والعدائية وضع دخيل على الوضع الطبيعي وهو الاعتدال والهدوء , لذا ما انهارت حضارات وتهاوت إلا كان الظلم فأر الخراب فيها وحفار قبرها يقول ابن خلدون في مقام الظلم:« أن انهيار الحضارات أو خراب العمران دائما يحدث عندما تطغى هذه الأمة ويصبح الظلم فيها عنوانا عاما لكل شيء , لذلك المتلمس في سنن الحضور والغياب الحضاري في القرآن الكريم يدرك ذلك المعنى» قال تعالى (... وعاد وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين. وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكل أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). لذا نجد في قصص الأمم في القرآن كقصة فرعون وبني إسرائيل عبرة على ذلك التدافع الحضاري وعدم الثبات السياسي حين يكون الظلم عنواناً فقد وصلت الحضارة الفرعونية إلى أوج الرقى والازدهار وماكان للفرعون رمسيس في لحظة زهو وتجبر أن يدرك انه يحفر قبر حضارة باستضعاف بني إسرائيل حيث مارس الظلم والعدوان كمنهج سياسي واجتماعي فجعل يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، ولما بلغ ظلمه نهايته جاءت سنة الله وقضى رب الملك أن يخفض هذا الفرعون ويزول ملكه ويرفع تلك الأمة المستضعفة بني إسرائيل. وقال ابن تيمية (أمور الناس تستقيم في الدنيامع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلموالإسلام وتبقى عِبرة التاريخ الأخيرة في سقوط الدولة الأموية - رغم قربها من عصر النبوة والراشدين التي كان الظلم قد أكل سيقان هذه الدولة فما طار رأس سعد بن جبير على يد الحجاج ولا وسطر بداية النهاية التي أكمل خطوها رأس الحسين بن علي وهكذا سارت أيام بني أمية يكتب نهايتها رؤوس تطير ومعها يكتب نهاية دولة حتى في تلك اللحظات التي تتوالد بعض المتداركات في عمر هذه الدولة التي كانت نهايتها عبرة . فسقطت الدولة الأموية سنة 132ه، ولقي مروان بن هشام آخر خلفائها مصرعه في حلوان بمصر , كذا كان حال بني العباس وغيرها من الدول عبر الزمن ماضيه وحاضره . والظلم يبدأ من ابسط مفردات المجتمع وتكويناته فيشب في وعي الفرد لعلاقة مشوهة من الأسرة او المجتمع , فالمجتمعات التي يتربى أبناؤها على الظلم هي مجتمعات تتجه إلى هاوية الضياع فهذه الطاقات هي التي ستتغلغل في مفاصل الحضارة ولكن طاقات مشوهة مستلبة غير قادرة على التغيير فيظلمون ويظلمون , فجدلية الظلم لا تقف على الطرف الفاعل للظلم بل هي بطرفيها فاعل سادي ومفعول به مازوخي , وكلاهما ظالم ذاك بتطرفه واستبداده وذاك باستكانته ورضوخه , فتهدر الطاقات في فعل تدميري في حين كان أولا بهما توجيه نشاطهما وطاقتهما الى البناءلأن القاعدة في الفعل الحضاري كما يقول بن نبي “المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها”، وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها” ومن يصنع الحضارة ومنتجاتها غير المجتمعات التي قد تنفق أوقاتهاوقدراتها في صناعة الظلم والقهر والاستبداد الذي ينتج الموت والانهيار وينتهي الشهود الحضاري , وما تعيشه الأمة الإسلامية من ضياع وتأخر عن ركب الحضارة والشراكة الإنسانية الحقه إلا نتاج عصور من استبداد وظلم . فكان الزمن الذي نعيشه وبكل تقلباته ومخرجاته وماحدث في مناطق شتى في الوطن العربي مما اصطلح عليه بالربيع العربي هو نتاج تلك الثقافة , ثقافة الظلم التىاستشرت في منظومة الحكم العربية فخلفت كل هذه الفوضى وكل هذا الانقلاب الشعبي الذي ماحسب له الظالمون حساباً بل أضاعوا شعوبهم فأضاعتهم شعوبهم .