التطورات في روسيا ما كان لها أن تقف عند تخوم العمق الحيوي لروسيا ، بل سارت قدماً في حالة من التفاعل السلبي مع سياسات اليمين الأمريكي على عهد بوش الأب وبوش الإبن ، حيث حرصت الولاياتالمتحدة على نشر درع صاروخي في العمق الأوروبي الشرقي، فيما ساندت سياسات العداء لروسيا في غير مكان من بلدان أوروبا الشرقية ، وخاصة أوكرانيا وجورجيا ، وتزايدت حالة الخصومة المكبوتة بين امريكاوروسيا، بالترافق مع الحملات الإعلامية المكثفة ضد نهج بوتين ، وخاصة قبيل الإنتخابات الرئاسية الأخيرة التي أعادت ( القيصر ) إلى سدة الكرملين ، وهو مشبع بروح الرد الإستراتيجي على الولاياتالمتحدة ، مستفيداً من ثراء روسيا بالغاز والنفط والذهب ، بالإضافة إلى تعددية عناصر القوة الأيديولوجية التي تشكلت من موروث الإتحاد السوفيتي وروسيا القيصرية ، والمصاغتين ضمن قالب قومي روسي عصري. من يتابع آراء المراقبين السياسيين الروس تجاه متغيرات العالم المعاصر يصل إلى قناعة مؤكدة بأن المدرسة السياسية الروسية تتمتع بقدر وافر من نظم المعلومات، والمتابعة والرصد لأحوال العالم المعاصر ، بل وتقديم نموذج رؤية متاخمة لحكمة الصين وأوروبا التاريخية ، وهذا ما يفسر تطابق وجهات النظر الصينية وبعض الدوائر الأوروبية الرفيعة مع المنطق الروسي المغاير لمنطق النموذج الأمريكي الذي لم يغادر حتى اللحظة مركزية النظرة لمتغيرات العالم المعاصر . عندما جاء الربيع العربي على حين غفلة من الحكام والحكومات ، متناغماً مع قوانين التاريخ والجغرافيا تصادمت الرؤيتان الأمريكية والروسية في التعامل مع الظاهرة الصاعقة ، وكانت روسيا متأنية أثناء العاصفة الأولى للمتغير العربي، لكنها تداركت موقفها ، ومعها الصين، في الحالة السورية ، وكانت حساباتهما على النحو التالي : روسيا تعتقد أن أمريكا تريد الانفراد بالنتائج ، وأنها تطوع الآلية الدولية في حل النزاعات لصالحها بالذات، وبهذا المعنى تقول روسيا بأنها لا تدافع عن النظام السوري، بل القانون الدولي ، وفي هذا القول الكثير من السياسة ونزعة الحرب الباردة. وبالمقابل تنتظر الصين من الإدارة الأمريكية وحلفائها انفتاحاً تجارياً يسمح لها بالتوغل في تلك الأسواق الموصدة أمام المنتج الصيني ، وهي فيما ترجح كفة روسيا في قراءة المشهد السوري فإنما ترجح ضمناً منظومة مصالحها الحيوية في روسيا، وفنائها الخلفي الواسع الممتد في كامل العمقين الآسيوي والأوروبي . تحدث الرئيس بوتين مؤخراً عن جملة من المسائل المحتدمة في العالم المعاصر ، وبدا في حديثه صريحاً حد البوح ، ومصمماً على روسيا العظمى التي لن تعيد مجد الإمبراطورية السوفيتية المنهارة فحسب، بل ستتجاوزها، لتعيد صياغة تحالفات كونية ترتكز على ثنائية التنين الصيني الهائل، والدب الروسي العتيد . في مثل هذا المعترك تتأرجح قضايا العرب ، فيما تتمرأى مآلاتهم كما لو أنها مرجل يمور ويعتمل بنيران حامية . [email protected]