موجة الربيع العربي تستفز كوامن الاستبداد المزمن لدى الأصدقاء القدامى .. تقوم روسياوالصين في مواقفهما من ثورات الربيع العربي بالدور القديم للنفوذ الأمريكي في النصف الثاني من القرن العشرين.. الفرق هنا أن إسناد أمريكا للأنظمة التي تداخلت معها انبنى فعلاً على مصالح حقيقية كبرى، بينما يحاول الروس وبجانبهم الصين الدخول إلى سوق أفلس أصحابه؛ إذ يتبدون في لحظات الاحتظار الأخير خارجين من ممالكهم الوراثية والسوق بمجمله. لأمريكا وحلفائها الأوروبيين مصالحهم، هذا أكثر من واضح، غير أن الأكثر وضوحاً الآن أن هذه المصالح أعادت موضع نفسها لتلتقي مع منحنى مصالح الشعوب العربية في نقطة توازن تضفي المشروعية على هذه المصالح المشتركة وتفتح أمامها فرص البقاء والاستمرارية والنمو ، واحتاجت نقطة التوازن هذه إلى تضحية الموقف الأمريكي بحلفائه القدامى، والتسليم بواقع جديد ملامحه إرادة الشعوب كمتغير جديد لا يمكن تجاوزه. من جهته تبدى الدب الروسي مترافقاً مع التنين الصيني وكأنهما يجدفان في الاتجاه المعاكس لحركة الحياة والتاريخ، لماذا تصر روسيا على إسناد طغاة حمقى يغرزون آلة القتل بصلافة وعشوائية في ساحات للحرية تكتظ بمواطنيهم وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع؟ المسوغات هنا تتعدى الحرص على المصالح لتدخل فيها مصدات ثقافية لا تعطي أهمية لتطلعات الحرية والديمقراطية، فأي مصالح تتطلع إليها دولة عظمى تقرر أن تلعب دور الدعامة الأخيرة لنطام يتهاوى في طور سقوطه المحتوم؟ وأي مصالح يمكن التطلع إليها مع شعب وقفت ضد إرادته والتزمت الصمت إزاء المذابح التي تعرض لها، وتجاوزت الصمت إلى التبرير والمنافحة عن قتلة شعوبهم كما فعلت مع القذافي، والآن مع الأسد الزرافة بشار؟. نفضت تركيا يدها من القذافي بعد ارتباك وشبه مساندة في البداية، فحققت انتصارين معاً بتوحيد موقفها الأخلاقي مع مصلحتها في نقطة واحدة، لها نفس الإحداثيات، وتشير إلى مصلحة الشعب الليبي. إذا حاولنا فهم الموقف الروسي الصيني سنصل إلى افتراضين: الأول هو التشدد في الشرق الأوسط لتعظيم فرص المقايضة في المحيط الروسي تحديداً، فالأولوية لمصالح روسيا تمر بدائرتين تبدأ بالدول المستقلة المحيطة بروسيا والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي قبل تفككه، والأولوية الثانية تنتقل إلى الدائرة الأوسع أوروبا الشرقية، وهي منطقة نفوذ قديم للروس وبالمثل للصين أولوياتها الحاكمة لسياستها الخارجية في نقاط تايوان وجنوب شرق آسيا ، هنا وبحسب هذا الافتراض لن يذهب الموقفان الروسي والصيني بعيداً في الدفاع عن نظام فقد مقومات بقائه وسيكون مطروحاً للمساومة. وحتى الموقف الإيراني لن يصمد طويلاً ولا يستبعد أن يسعى للمقايضة بالأسد للحصول على فسحة مؤقتة من الضغط الغربي الناتج عن تطلعات السلاح النووي والتوسعات الإقليمية، وهو المسار الذي لاذت بأوراقه نخبة الملالي الحاكمة هرباً من مواجهة استحقاقات التغيير الداخلي. الافتراض الثاني لفهم الموقف الروسي الصيني وتفسيره يتمثل في سمات الدولتين والبنية الحاكمة فيهما، لا مجال هنا للحديث عن ديمقراطية، روسيا تتسم بالبنية الاستبدادية من القيصرية إلى اشتراكية الدولة والحزب الواحد وخلفهما طبيعة الكنيسة الأرثوذكسية، والنتيجة بوتين كنموذج يكرس عقدة أن لا نمو ولا استقرار إلا بالفردية والسيطرة وتقييد فرص إكساب المؤسسة القائمة ممكنات التغيير وحرية الاختيار وتثبيت المؤسسة وقواعد التنافس وليس الأشخاص. الصين بدورها لا تختلف كثيراً، ويبدو نظام الطاعة العمياء الضارب جذوره في الدولة والمجتمع قابلاً للاستمرارية، ولم يفقد بعد ميكانيزمات اشتغاله في المدى المنظور. وحدهم العرب من هذه الأنظمة الثقافية المغلقة التي بدت لزمن طويل وكأنها سمات ثابتة اختاروا حريتهم الآن وكسروا صورة عنهم سادت لزمن طويل: إنهم يرضخون للمستبد الداخلي، وكأن الخضوع غدا للناظر في أحوالهم كأنه جبلة طبيعية. هذا التوق للحرية والتضحية الكبرى من أجل نيلها والارتفاع إلى مصاف الشعوب الحرة لم يزعزع فقط بنيان النظام الاستبدادي الوراثي العربي، بل امتدت آثاره في أنحاء شتى من العالم، من اعتصامات مدريد، وصولاً إلى حركات احتجاج مجتمعية عمت معظم مدن أوروبا وأمريكا بعناوين: احتلوا وول ستريت، احتلوا لندن، وغيرها. وهذة نقلة تستلهم الثورات السلمية والربيع العربي، المعروف بالموجة الرابعة من رياح الديمقراطية، تستلهمها في احتجاجات ذات طابع اقتصادي واجتماعي تستهدف الشركات الاحتكارية، وتتطلع إلى تقويض قيم الربح المطلق المنفلت من كل عقال أو محددات إنسانية وأخلاقية. ويبدو أن الموجة الرابعة، الربيع العربي لن يكتفي بهذه الحدود بل سيواصل تموجه في المنطقة لاستكمال كنس النظام الرسمي العربي، وستتواصل ارتطامات أمواجه في جهات الأرض الأربع والعالم حاملاً سره معه «الثورة السلمية الشعبية».. وحتماً سيصل إلى موسكو، وبكين، وطهران طبعاً..