ما يزال في العمر بقية لدى أولئك الرجال الذين ساهموا عن قناعة راسخة في ميلاد الفجر السبتمبري وعلينا استغلال هذه البقية في استكمال تسليط الأضواء على الجوانب الغامضة وغير المعروفة وتسطير العشرات منها قبل الإنجازات ولن يتسنى ذلك إلا بقراءة الأفكار الحية التي تنبض بها ذاكرة هؤلاء الذين أحيلوا إلى دائرة الإهمال بطريقة فجة ومؤسفة أقول ذلك بعد أن تفتحت مداركي مع تجربة توثيق رؤى ومشاهد بعض المناضلين الأخيرة عن الهوة السحيقة التي تفصل بين ما كُتب عن ثورة سبتمبر وما يجب أن يكتب مما كتب في حقيقة الأمر لا يساوي سوى الشيء اليسير بالرغم من أن اهتمامي التوثيقي اقتصر على معارك نقيل يسلح فقط فما بالنا بغيرها من الأحداث الجسام التي رافقت موكب سبتمبر العظيم. لقد كتب الكثير عن ثورة سبتمبر لكن هذه الكتابات أو معظمها غثاء كغثاء السيل والسبب أن النصيب الأكبر منها سجل رغبته في إبراز ال “أنا” على حساب الآخر وقد احتوت تلك الشهادات الموصوفة بالتاريخية على نرجسية مفرطة أغفلت عن عمد أدوار الآخرين بل وتقمصت أحياناً تلك الأدوار وإن حدث وذُكر الآخر فالأمر يدعو إلى تعزيز حضور الذات ليس إلا ما زال هناك متسع من الوقت وذخيرة من جهد لتقويم الإعوجاج في تدوين التاريخ السبتمبري من خلال تسجيل شهادات من أسندت إليهم مهام نضالية ولم يعرف إليها قلم التوثيق طريقاً حتى اليوم ..ما كان بالأمس ترفاً أصبح اليوم ضرورة وصياغة تاريخ سبتمبر وأكتوبر لا تعني شخوصاً بعينهم مهما كانت مقاماتهم رفيعة، لأن هذا التاريخ لن تكتمل فصوله إلى بتحري أكبر قدر من الذين شاهدوا وشهدوا غمار معارك الدفاع عن النظام الجمهوري ولا أعني بالمناضلين أصحاب الأسماء التي لمعت واستوت على سوقها كونهم قادوا كتيبة هنا أو لواء هناك، فالمناضلون مفهوم ينسحب توصيفه على كل الثوار الكبار والصغار الشيخ والرعوي الموظف والفلاح القائد والجندي المرأة والرجل الطبيب والممرض العامل والطباخ ومن هؤلاء من لا تزال خطاهم تذرع الأرض شرقاً وغرباً فأينما وليت وجهك وجدت المئات منهم في جبال اليمن وسهولها وصحرائها ووديانها وتطواف بسيط على أي من تلك المناطق يدلك على العشرات من هؤلاء المغمورين المختزنة ذاكرتهم الخصبة بتفاصيل دقيقة قد لا نجدها عن مهندسي الثورة وقادتها المعروفين.. والأمانة التاريخية تفرض عليا استنطاق هذه الشريحة بكل حيادية وموضوعية. إن فتح مغاليق الذاكرة الجمعية التي تعج بالأحداث التي يمكن أن يكون أصحابها من الأميين وأنصاف المتعلمين من شأنه أن يثري تاريخ الثورة بالكثير والكثير الذي قد يسهم مع بساطته في كشف المسكوت عنه أو المغيب وربما يكون له الفضل في إظهار الغامض من الحلقات التي طرحها تراب النسيان والإهمال.. ولعل في ذلك ما يساعد على تنقية سفر الثورة من الشوائب والإضافات التي قد تكون منتحلة أو لم تحدث أصلاً على أرض الواقع. لقد أحسن مركز الدراسات بقيادة أديب اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح في انتهاج سبيل الحيادية في تدوين أحداث الثورة اليمنية لكن المركز وحده لا يصفق فثمة آلاف من المناضلين ينثرون شهاداتهم التي عاشوها وعايشوها حصرياً وبكل عفوية في المناسبات والمحادثات الجانبية وضعف إدراكهم بقيمة ما تختزنه عقولهم تجعلهم يظنون أن هذا البوح الممدود الذي يتوخى الفخر أو الزهو هو جل ما عليهم فعله، لذلك على الفئة السياسية المثقفة أن تعي أن في أعناقهم أمانة لن يبرأوا منها أمام الأجيال القادمة التي قد يتباعد بهم الزمن عن موعد تفجير الثورة السبتمبرية إلا بوضع الدراسات التي تقصص جميع تلك الشهادات من صدور الرجال تلك الصدور الرحبة التي لن تتردد في الأدلاء بما لديها بكل امتنان وحب وتقدير لا تريد من وراء ذلك لا جزاءً ولا شكوراً. ومن أجل تلك الغاية نقترح تشكيل لجان على مستوى كل محافظة تكون مهمتها استقبال ما يمكن أن تجود به الذاكرة على نطاق كل منطقة ومديرية وإن تعذر ذلك لأسباب تتعلق بالإمكانات والموازنة التشغيلية فبالإمكان إسناد المهمة لبحوث التخرج التي ينجزها سنوياً طلاب الجامعة وهو أمر ميسور ولا يعدم أن تحمل هذه البحوث إضافات معرفية لم تكن في الحسبان باعتبار أن طلاب الجامعة ينتمون لمناطق تختلف.. ومن خلال لجنة عليا من أهل الاختصاص يتم تشكليها مسبقاً بغرض اخضاع تلك الدراسات للفحص والتدقيق وفرز الغث من السمين واعتقد أن غالبية الشهادات المتوقعة ستكون من النوع السمين.