ما يحدث اليوم وما نراه وما نشاهده من تراشق بالكلمات وكيل للاتهامات ونسج للقصص الحزينة والمبكية, بل والمضحكة, لو عايشها الكاتب التركي “عزيز نيسين” لكتب عنها عشرات القصص الساخرة, لما فيها من إبراز للجوانب الباطنة من ذواتنا المحاطة بالكيد والتربص بالآخر, نظهر فيها سذاجة وبلاهة لا نظير لها إلا في أدب برناردشو ومارك توين.. وفي سخريات البردوني الساخر اليمني بامتياز, مستعرضين معارك الأنا مع الغبار الذي لم نتخلص منه بعد.. في شريط سينمائي يظهر فيه جيفارا وقد وضع سلاحه جانباً وبدأ يخوض معركته الأخيرة مع كل شيء .. ربما لم يخض مثلها من قبل, سلاحه الكلمات واللسان الطويل كمنشار, فهو في إحدى بلاد العرب, الظاهرة الصوتية كما وصفهم القصيمي.. مع التراقص اللغوي للعنف والعنف المضاد, ضاقت به سماواتنا المفتوحة واللامفتوحة على صفحات الجرائد, الانترنت, المقايل, الباصات, الاستراحات, تؤبجد من جرحنا, تعمقه.. تزرع الحقد في نفوس الناس؛ لتنهار أخلاقهم وتنهار قيمهم ومصداقيتهم.. تجعلهم لا يؤمنون بأحد, مهما وضحت رؤيته, أو وضحت أهدافه, تعمل على خلط الأوراق, وتوزيع الأدوار, ونشر الأفكار, التي تعمل على التقويض والهدم, مشوهة منابر الفكر, ملوثة للشعارات الكبيرة, مستغلة بعض العقول, سواء كانت هذه الأفكار دينية أو تقدمية, من حداثية وليبرالية, فليس لها غاية إلا إبراز الأنا على الآخر, بنظرة استعلائية كنا لا نريدها أن تظهر الآن, فالتواضع والزمن كانا كفيلين بإحقاق الحق بعيداً عن المزايدة واختلاق معارك في سماء قد سئمت نزقنا وجنوننا وجراحاتنا ومعاركنا السرابية لنعود إلى فشلنا من جديد, ونعود إلى درس العلوم وغيره, معددين أول من اكتشف الدورة الدموية, أول عالم في الكيمياء, ونحن اليوم في ذيل الأمم وأسفلها, نعدد ببلاهة ونردد أول من نزل إلى الساحة! أول من نصب خيمة, ونحن فاشلون في الحرية والديمقراطية والتعايش والاختلاف والمواطنة والحوار.. فاشلون في إدارة ثورتنا وتجسيرها لما ينفع البلاد والعباد. فيا لجرحات الوطن, غورها, عمقها, الذي يلامس ما وراء الغيب, لصورة القادم المغلف بالضبابية, والمعتم بأحقاد الفارس الملثم, التي لم تنته, أو تزول رغم ثورة, لامست واقعنا المرهق, فتحت أبواب التغيير الموصدة عن غير موعد، حطمت من قيود الصمت, وكسرت حاجزاً لطالما كان يحجبنا عن حقوقنا.. عن مستقبلنا, عن بعضنا, آمالنا العريضة بالإحساس بالإنسانية والتنعم في هذه الحياة, التي حُرم منها آباؤنا وأجدادنا.. ثورة قام بها المتعبون في هذا الوطن, المنسيون, الضاجون بجرحهم الغائر في مساحات عظيمة من القلب. لقد طفح الكيل بما نسمعه، ليس جلداً للذات بقدر ما هو بكاء على الذات, بكاء على مواجيد الأحلام المؤجلة إلى حين زوال داحس والغبراء وانتهاء حرب البسوس الجديدة. طفح الكيل من ثقافة تعمل على إلصاق الهمجية والطائفية بنا, فتوسع من دائرة العنف, والاقتتال, جعلتنا ربما بطريقة أو بأخرى نطرب لحوادث المشكلات, ننتظر الحروب, نرددها بوعي وبدون وعي, ننام ونصحو على وقع حرب أو انتهائها, ندق أسافين التشاحن والتعارك في معركة غير متكافئة لصراع الديكة الغليظة, الديكة المنتنة, التي دوختنا بصراعاتها وأصواتها الشاذة جداً.. بروائحها المنتشرة في الجنوب والشمال, تغوص في وجع جسدنا المنهك والمتعب, باسم السياسة في أرقى صورة لتخلفها وتعفنها, وهي تنشر غسيلها في صفاقة وقبح نادرين, وقد غدت غايات ضيقة ودنيئة, تعتمد على الخبث والحقد؛ للوصول إلى أهدافها غير الواضحة أساساً للإنسان المثقف, مابالك بالإنسان العادي, الذي خرج بصدره العاري لا يؤمن باليسار ولا باليمين.. لا يعرف يوركا أو جان جاك روسو أو فولتير، أو مونتسكييه, إنما يعرف عبده البقال وبجاش الخباز وبائعة الُكرّاث المثخنة بالقهر والموت البطيء على قارعة طريق يجسد البؤس والألم, يغطي أرضنا التي كانت سعيدة في يوم ما. فالغائب قصراً كما يبدو هو هذا الإنسان, الخاسر الوحيد؛ وجد نفسه وحيداً يصارع أمواجاً من المتناقضات, تجرفه سيول من الهزائم والانكسارات, والنرجسيات السياسية الموغلة في تعذيبه, وتجريعه خيباتها المتكررة, وتحميله صراعاتها, بل وصراعات التاريخ بكل تقلباته وتغيراته. ليكفيه ذلك أي المواطن البسيط لنعفيه من الثرثرة اللامتناهية, والسفسطائية غير المجدية لأحد، ولا نقرر له حفظاً الفصل الأخير من المعركة العبثية لجيفارا العظيم في نسخته “الحوحداثية” اليمنية.. ونتنبه لهمومه ونعمل على إخراجه من سرداب خوفه وشقائه اليومي, يجب ألّا نقوده إلى صراعات, هو في غنى عنها, صراعات لم يكن يتوقعها, صراعات الحسين ويزيد.. السادة والعبيد, ونعلنها معركتنا الأخيرة, نمارس فيها الفكر والوعي؛ حفاظاً على مبادئ الأحرار, وإيماناً حقيقياً بقضايا الوطن وثورته, حاضره ومستقبله.