هل نقرأ التاريخ أم نكتبه ؟ الجواب الذي يتبادر إلى الأذهان هو قراءة التاريخ ، لكن ما معنى قراءة التاريخ ؟ هل هي القراءة (التقليدية) التي نمارسها كلنا أثناء الاطلاع على أي كتاب تاريخي ؟ والتي تستمتع بالأحداث المدونة وكأنها من حكايات ألف ليلة وليلة!. أم هي القراءة المتأنية الباحثة بين السطور عن عبرة من الأحداث المدونة في هذا المرجع أو ذاك ؟ وهل يختلف التاريخ المقروء باختلاف القارئين برغم أن التاريخ المدوَّن واحد؟ إنها القراءة المستفيدة من عبق الماضي في صناعة الحاضر لا الموغلة في الماضوية فتصبح تراجعية نحو البقاء في الماضي ولا متفلتة من أحداث التاريخ لا تقيم له وزنا .. لا ريب إن لكلّ قراءته على حسب الزاوية التي يرى منها الحدث سواء كانت زاوية سياسية أم دينية أم اجتماعية أم غيرها من الزوايا التي قد تكون خليطاً من تلك الزوايا السالفة الذكر، وبهذا تختلف القراءة لنفس التاريخ المدوَّن لاختلاف وجهات وأهداف القارئين. أما كتابة التاريخ أول مرة للحدث التاريخي فليست إلا تدويناً له وتوثيقاً من المخطوطات المحفوظة أو الآثار واللقى أو من الرواية الشفاهية لمعاصري الحدث وغيرها من وسائل نقل الحدث ، لكن كل إعادة كتابة لذلك التاريخ المدوَّن لن تكون إلا إعادة قراءة للتاريخ في نفس الوقت ، فالحدث التاريخي – بطبيعة الحال- لن يحدث إلا مرة واحدة فقط لكن ما يكتبه المؤرخون في كل العصور عن ذلك الحدث هو (قراءتهم ) لذلك الحدث ضمن تأثير ظروف عصرهم الذي يعيشون فيه لتأتي قراءتهم (عصرية) للحدث ، طبعا لن يغيروا من وضعية الأحداث التي تمت لكن يربطوها بواقعهم المعاش متجاوزين كل مشكلات الحاضر بذخيرة الخبرة المكتسبة من التاريخ عن تلك المشاكل نفسها لأن التاريخ يحمل في داخله نوعا من الإنذار المبكر لمنْ يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته.. إن هذه القراءة- الكتابة أو لنسمها إعادة قراءة للتاريخ تساعد المؤرخ لوضع الحاضر في مكانه الصحيح ذلك أن التاريخ يوسع مدى إدراكنا للعملية التاريخية، فمعرفة كيفية عمل المجتمع في الماضي تفتح عيوننا على الإمكانات والبدائل الكامنة في الحاضر، فالتاريخ حوار بين الحاضر والماضي … أسوق هذا الكلام ونحن في خضم الاحتفالات بالذكرى الخمسين لثورة 26 سبتمبر الخالدة والذكرى التاسعة والأربعين لثورة 14 أكتوبر الخالدة حتى تكون قراءتنا لتاريخ هاتين الثورتين العظيمتين وما تلاهما من أحداث غير مفصولة عن الأحداث السياسية التي نعيشها اليوم … فقراءة واعية لإرهاصات الثورة السبتمبرية – منذ 1948م حتى مايو 1962م- تنبئ عن التململ الذي تنامى في أوساط الجماهير ضد النظام الحاكم - آنذاك- وكيف تخطّى الثوار كل إخفاقات تلك الإرهاصات حتى انبثقت الثورة السبتمبرية وتلتها الثورة الاكتوبرية، لكن لماذا احتاجت الثورة السبتمبرية إلى سبع سنوات كاملة (منذ 1962م إلى 1969م) لتقف على قدميها ؟ سؤال تجيب عليه إعادة قراءة التاريخ المدوّن عن المراحل التي مرت بها الثورة السبتمبرية ابتداءً من صباح الخميس 26سبتمبر 1962م وحتى مؤتمر التصالح في جدة عام 1970م وما تخللها من أحداث جسام كحركة 5 نوفمبر 1967م وملحمة السبعين يوما مابين عامي 1967م و1968م ولا ننسى أحداث أغسطس 1968م الدامية وكيف تقاتل رفاق السلاح إلى غيرها من الأحداث الأخرى ، لكن ليس الهدف من هذه القراءة هو الإجابة عن سؤالنا المطروح سابقا بل ( إسقاط واعٍ ) أو إعادة قراءة لتلك الأحداث على واقعنا اليوم حتى لا نعيد الأخطاء نفسها التي مرت بنا في تلك الأحداث على أقل تقدير … ومشابه لذلك في ثورة أكتوبر 1963م وما رافقتها من أحداث مشابهة خاضها الشطر الجنوبي لليمن – سابقا – بل والأحداث المترابطة بالثورة السبتمبرية … وليس بعيدا عن أذهاننا أحداث حرب صيف عام 1994م التي أرى أن إعادة قراءة تاريخها هي أولى الخطوات لحل المشكلة الجنوبية بما يحفظ لليمن الطبيعي وحدته المباركة و كذلك إعادة الحقوق لأصحابها بما يكفل للجميع المواطنة المتساوية ، وهذه ابسط مبادئ الدولة المدنية الحديثة التي ينادي بها الجميع اليوم… أخيرا إلى كل مؤرخينا وقرّاء التاريخ لا تكفي كتب المذكرات الشخصية الموجودة اليوم للأفراد الذين خاضوا تلك الأحداث أو كانوا أطرافا فيها لتكون مرجعا توثيقيا للتاريخ، بل يكون التدوين المؤسسي بالمنهج العلمي في توثيق التاريخ هو المعوّل عليه بعيدا عن الانطباعات الشخصية لفلان أو علان، هذا إذا أردنا تاريخا نستفيد منه لا مجرد سرد لذكريات تقادم بها الزمن مثل حكايات أبي زيد الهلالي …