عنجهية العليمي آن لها ان توقف    إقالة رشاد العليمي وبن مبارك مطلب شعبي جنوبي    إستشهاد جندي جنوبي برصاص قناص إرهابي بأبين    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    تربوي: بعد ثلاثة عقود من العمل أبلغوني بتصفير راتبي ان لم استكمل النقص في ملفي الوظيفي    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    نجاة قيادي في المقاومة الوطنية من محاولة اغتيال بتعز    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    دولة الأونلاين    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    احتجاجات في لحج تندد بتدهور الخدمات وانهيار العملة    جمعية التاريخ والتراث بكلية التربية تقيم رحلة علمية إلى مدينة شبام التاريخية    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    الهند تقرر إغلاق مجالها الجوي أمام باكستان    13 دولة تنضم إلى روسيا والصين في مشروع بناء المحطة العلمية القمرية الدولية    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    هزة ارضية تضرب ريمة واخرى في خليج عدن    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    مباحثات سعودية روسية بشان اليمن والسفارة تعلن اصابة بحارة روس بغارة امريكية وتكشف وضعهم الصحي    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    غريم الشعب اليمني    جازم العريقي .. قدوة ومثال    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرات في تجربة الكتابة التاريخية عند الصحفي أحمد عوض باوزير

غيل باوزير، اسم لمدينة حضرمية ساحلية، يشير شطر اسمها الأول إلى رمز الحياة المتأصل في أعماقها، النابض في شرايينها، والمتدفق على جنباتها.أما شطرها الثاني فيرتبط بالأسرة الوزيرية الشهيرة التي سكنتها ووضعت بصمتها على مساجدها ودور العلم فيها.وكغيرها من الحواضر الحضرمية كان لمدينة غيل باوزير إسهامها الثقافي وعطاؤها الاقتصادي.وساعد توافر المياه فيها والتربة الخصبة على أن تكون حياة الناس المعيشية المعتمدة على الزراعة أكثر حظاً، واقل جهداً من حيث نسبة الإنتاج بالمقارنة مع المدن الأخرى في وادي حضرموت وفروعه المعتمدة في حركتها الاقتصادية على الأمطار غير الدائمة.
في هذه المدينة ولد الأستاذ أحمد عوض باوزير وسط أسرة اشتهر أبناؤها بالنشاط الثقافي المتنوع بين الأدب،والتاريخ، والتعليم، والرياضة، ولعل الأجدر بالإشارة من بين أفراد هذه الأسرة من حيث طبيعة هذه الأوراق هو المؤرخ والمفكر سعيد عوض باوزير الشقيق الأكبر صاحب الثلاثية التاريخية الشهيرة:( معالم تاريخ الجزيرة العربية)، (وصفحات من التاريخ الحضرمي)، (والفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي) ولسنا هنا بصدد استعراض هذه المؤلفات وإبراز أهميتها التاريخية. وما نود قوله أن الكتابة التاريخية التي خاض فيها المؤرخ سعيد باوزير باقتدار كانت فعلاً ثقافياً مورس وسط هذه الأسرة، وأحمد عوض باوزير واحد منها، ولم يكن بدعاً فيها، أو بعيداً عن أجوائها.
على أن العلاقة الثقافية المميزة التي ربطت بين الشقيقين نجدها عبر صفحات جريدة الطليعة الذي صدرت عام 1959م إلى عام 1967م وكان صاحب الامتياز الصحفي اأحمد باوزير فحدث بينهما ما يمكن وصفه بتبادل الأدوار الثقافية.فبينما انغمس باوزير الصغير(الصحفي) في صاحبة البلاط يسجل لحظة الحاضر بتفاصيله كان باوزير الكبير(المؤرخ) يبحث تارة في حاضر حضرموت وأخرى في ماضيها عن مكانتها اللائقة، ودورها المجيد. ورغم ظاهر تباعد الزمان الذي يبحثان فيه إلا أنهما يلتقيان في وضوح الأهداف،وبين حاضر الحاضر المكثف عند الصغير، وحاضر الماضي السحيق عند الكبير سعى كل منهما وحلم بحضرموت قادمة أكثر إشراقاً، وأفضل حالاً،وأكثر طمأنينة.
يعد الأستاذ أحمد عوض باوزير(يرحمه الله ) قامةً من قامات حضرموت الثقافية الجليلة العصامية. وهو من حيث المهنة صحفي محترف، لم يدع في يوم من الأيام انه مؤرخ ولن ينقصه شيء إذا قلنا إنه دخل ضيفاً عزيزاً في حقل الكتابة التاريخية وهذه الحقيقة لا تعني ضعف الباع عنده ولا قلة المتاع إنما دخل تجربة الكتابة التاريخية بعد انتزاعه من صحيفته، وتأميم مطبعته، وتحويله مع معظم زملائه إلى موظفين يمارسون الوظيفة الثقافية، وليس الفعل الثقافي المبدع، وسنستعرض هنا أبرز إسهامات باوزير المباشرة في الكتابة التاريخية من خلال مؤلفيه (شهداء القصر)و(الشعر الوطني العامي ) وغير المباشرة من خلال مقال له في مجلة الرسالة الصادرة في القاهرة عام 1952، فضلاً عن الإشارة إلى دور صحيفة الطليعة في تسجيل حركة المجتمع.
وإذا بدأنا بالمقال الذي نشره في مجلة الرسالة بعنوان (مصادر التاريخ الحضرمي) سنلاحظ أنه خطا عتباته الأولى نحو تجربة الكتابة التاريخية من الوجهة الصحيحة،وهو البحث عن المصادر، وفي إشكالياتها، وقد عزا أحمد عوض باوزير مصاعب كتابة تاريخ حضرموت إلى ندرة المصادر، وفقدان الكثير منها،ونبه إلى أهمية التناول الواعي لمحتويات ما وصلنا منها، وعلى أن لا تؤخذ على علاتها. فمعروف أن المصادر هي عماد الكتابة التاريخية ثم أن هذه المصادر إن وجدت لا تعني احتكارها حقائق التاريخ فكثير منها لا يخلو من التزييف التاريخي لأسباب ذاتية، أو مناطقية، أو مذهبية، أو بسذاجة وحسن نية كما قال المؤرخ سعيد باوزير في احد مؤلفاته.
ولعل ابتعاد أحمد باوزير عن الكتابة التاريخية نابع من مشاغله الصحفية من جهة، والى إدراكه المبكر لمصاعب الكتابة التاريخية من جهة أخرى، رغم الملكة النقدية التاريخية التي نستشف ملامحها في بعض كلماته، ففي هذا المقال استعرض باوزير بعض المؤلفات التاريخية الحضرمية الحديثة الصادرة وقتئذ لكل من (علوي بن طاهر الحداد) و(صلاح البكري) و(محمد بن هاشم)وعلق عليها بنظرة ناقدة قائلا " وأستطيع أن أجزم بأن هذه المؤلفات – على الرغم من حداثتها – لا تخرج عن سرد الحوادث سرداً عاما دون تعمق أو تصويب"
ثم يؤكد أهمية تحلي المؤرخ بالشجاعة والقدرة على سبر غور الأحداث واستجلاء غموضها، وينتقد منهج المؤرخ محمد بن هاشم في الكتابة التاريخية ويورد عبارته الشهيرة المذكورة في مقدمة كتابه (تاريخ الدولة الكثيرية)التي جاء فيها : "وبعد فقد ألزمنا أنفسنا في هذا الكتاب أن نكتب ما عثرنا عليه في كتب التاريخ من أخبار القوم، مجردة من الملاحظات والانتقادات والأخذ والرد والتحليل والتركيب"
وبأسلوب يمكن وصفه بالمهذب انتقد باوزير هذا المسلك عندما كتب: " ونحن لا نقر السيد بن هاشم وهو الكاتب الأديب على هذا النحو من التفكير. وسواء أكانت المبررات التي زعمها صحيحة أم غير صحيحة فإننا كنا نتوقع أن يعمد إلى (المعول) لنبش الحقائق وغربلتها وأن يبرأ من تلك الشفقة والرحمة لأنها لا تجدي في منطق الوقائع التاريخية ولا تفيد كثيرا"
وقد قدم الأستاذ أحمد عوض باوزير خدمة جليلة غير مباشرة-إن صح التعبير- للمكتبة التاريخية الحضرمية من خلال إصداره صحيفة الطليعة، ورغم المآخذ على الكتابات الصحفية والمحاذير الكثيرة التي يجب أن يضعها الباحث عند الاعتماد على الصحافة والدوريات عموما في الكتابة التاريخية فإن صحيفة الطليعة التي استمرت ما يقارب التسع سنوات وثقت لمرحلة مهمة من تاريخ حضرموت المعاصر، ومن خلال تصفح أعدادها يستطيع الباحث تتبع مجريات الأحداث التي مرت بها، والمنطقة العربية عموما،وسيلاحظ أن الصحيفة لم تكتف فقط بنقل الخبر بل عمدت إلى تثوير الناس ضد السياسة الاستعمارية البريطانية، و سعت إلى تنمية الوعي الوطني والقومي، وهي بهذا قد أسهمت بشكل أو بآخر في صناعة التاريخ بغض النظر عن مدى قبول الناس لما تضمنته من أفكار ورؤى.
صحيح أن باوزير لم يكن الصحفي الوحيد في هذه الصحيفة ولكنه صاحب الامتياز، وحامل الرؤية الوطنية الواضحة، والحاضن للأقلام الشابة والمخضرمة التي وجدت في أوراق صحيفته الوعاء الذي استوعب آراءها ورسم تطلعاتها. إن صحيفة الطليعة بحق سجل تاريخي (تحت التصنيع) يحتاج لمن يعتني به، ويدونه بعين ذلك العصر،ونبضات روحه، ولعل في هذا السفر مفخرة تكفي باوزير لأن ينال المكانة الرفيعة التي يستحقها.
وإذا تطرقنا لتجربة الكتابة التاريخية عند أحمد عوض باوزير سنجد أنه في عام 1978م تقريبا، نشر كتابيه (شهداء القصر) و (الشعر الوطني العامي) وعلى حد علمنا لم تنشر له بعدهما أي مؤلفات أخرى! ولم يرد ذكر لتاريخ النشر في الكتابين ومن خلال التاريخ المذيل في مقدمتي الكتابين نستنتج انه فرغ من كتابه الأول في 27أغسطس 1977م والكتاب الثاني في 12 فبراير 1978م،والإحالة التي وردت في الهامش في كتاب الشعر الوطني صفحة (43) تدل على أن كتاب شهداء القصر كان مخطوطا في أثناء كتابته لهذا المؤلف، ويبدو أن وفاة أخيه المؤرخ سعيد باوزير في أكتوبر 1978م هو ما دفعه إلى طباعته فقد تضمن الكتاب إهداءً خاصاً إليه.
وكيفما كان الأمر فقد وجدنا من المناسب في البداية استعراض كتاب الشعر الوطني العامي. وأول ما يلفت النظر في هذا الكتاب عمومية عنوانه فرغم أنه لا يتحدث إلا عن الشعر الوطني العامي في حضرموت لم ترد كلمة حضرموت ، ويبدو أن اختفاءها من العنوان الرئيس وفي الصفحة الأولى الذي جاء فيها تحت العنوان نفسه : (صفحة مشرقة في تاريخ نضالنا السياسي المعاصر) كان مقصودا، فالمؤلف أراد إبعاد عن نفسه شبهة المناطقية، وتهمة الحضرمية في وقت كانت كلمة اليمن تطرح بوصفها مهيمناً على ما كل هو محلي، ولكن المؤلف وسط هذه العموميات ابتعد عن الإشارة إلى كلمة (اليمني) التي قد تكون في الوسط بين العموم والخصوص.وللأسف فإن هذا المنحى القاصر ما يزال مستمرا حتى ساعة الناس هذه مع اختلاف في الأهداف والنوايا باختلاف المراحل.
يثير الكتاب قضية مهمة تتعلق بالعلاقة بين الشعر والكتابة التاريخية والى أي مدى يمكن النظر إليه بوصفه مصدراً من مصادر التاريخ وفي مقدمة الكتاب أشار المؤلف إلى أن الشعر هو: ( المصدر التاريخي الوحيد الذي لا يتطرق إليه الشك والذي ينقل لنا صورة العلاقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة آنذاك) ويبدو لنا أنه قصد ب (لا يتطرق إليه الشك) من حيث صحة الرواية والنقل، وليس بما يحتويه من إشارات قد يجد فيها الباحث التاريخي ضالته، فالشعر شأنه شأن النثر هو كلام البشر الذي يعبرون فيه عن أفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم ويسجلون مشاهداتهم وانطباعاتهم ومن هنا تكمن مصاعب المؤرخ في التمييز بين الغث والسمين وبين صدق الإشارة وشطح العبارة.
جمع الكتاب بين سرد بعض الأحداث التاريخية التي مرت بها سلطنتا حضرموت في المدة من 1917م-1967م وتعليق الشعراء الشعبيين عليها،وقد طغت المادة التاريخية والمفسرة للأشعار على صفحات الكتاب.ومع هذا انحاز الكتاب إلى عنوانه من خلال ارتكاز الأحداث التاريخية المتناولة على الأشعار المختارة ودورانها حولها. وورود لفظة الوطني في العام تدل على انحياز الكتاب للشعر المناهض للسلطة القائمة رغم أن المؤلف كان منصفا عندما سمى الأمور بمسمياتها في معرض وصفه للأعمال العسكرية المناهضة للسلطنتين بقوله: ( كانت-الأحداث- قد استهدفت في الغالب قطع الطرق،وترويع الآمنين،ونهب الأموال ) ثم استدرك مراعيا زمن التأليف وقال في السياق نفسه : (فإنها أي الأحداث في حقيقة الأمر كانت تعبر عن حالة الرفض لواقع تلك الحكومات التي سعت بمساعدة الأجنبي إلى التوسع وبسط سيطرتها على المناطق الأخرى).
يحتوي الكتاب على بابين هما أقرب إلى الفصول قسم كل باب إلى مرحلتين تحدث في المرحلة الأولى عن التمرد القبلي وفي المرحلة الثانية عن التدخل الأجنبي المباشر في حضرموت. أما (الباب)الثاني فتطرق إلى حركة ابن عبدات وفساد الحكم مع استعراض الأشعار التي قيلت في كل مرحلة.
وأهمية الكتاب القصوى تكمن في كونه وثق للشعر الشعبي المواكب لتاريخ حضرموت المعاصر،وحاول تفسيره، والحكم عليه من وجهة نظر الشعراء الذين وقفوا في الصف المعادي للحكومات المحلية القائمة والمرتبطة مع البريطانيين باتفاقيات حدت من سيادتهم على دولهم ،وهو بهذا يمثل صفحة مفيدة للدراسات التاريخية،وبالمقابل يجب مراعاة أن جانب من سيادة المؤلف وقعت كما نظن تحت تأثير النظام القائم وقتئذ الذي عبر عن توجهه السياسي والاجتماعي.
وإذا لامس باوزير الكتابة التاريخية أو سار على حافتها في كتابه السابق فإن تجربة الكتابة التاريخية الحقيقية نجدها في كتابه (شهداء القصر) وهو الكتاب الذي يحكي كما جاء ضمن عنوانه في الصفحة الأولى قصة أول انتفاضة شعبية ضد الحكم الانجلوسلاطيني. ولا سيما بعد أن ترشح لمنصب سكرتير( وزير) السلطنة القعيطية الشيخ القدال ( من أصل سوداني) خلفاً للسكرتير سيف بن علي البوعلي (من أصل عماني).
وعموماً عندما يستدعى التاريخ تلبية للحاضر فقط أو لإحياء ذكرى معينة تتحول الكتابة التاريخية من محاولة الكشف الحيادي لحقائقه إلى البحث الموجهة برؤى مسبقة. وسنعود لهذه النقطة عندما نقارن بين وجهة نظر كل من باوزير والدكتور محمد القدال في حادثة القصر (قصة) الكتاب.
يعيدنا أحمد عوض باوزير في ما سطرته من إهداء بكلمات مقتضبة إلى أجواء التاريخ والعلاقة الخاصة بينه وبين أخيه المؤرخ الراحل عندما كتب:
" إلى روح أخي الأكبر( سعيد عوض باوزير) الذي تعلمت منه كيف يكون البحث عن الحقيقة متجردا متنزها عن الأهواء…. إليه أهدي باكورة إنتاجي لعل أن تقر به عينه وهو في دار الخلود"
في هذا الإهداء يؤكد باوزير انتماءه لمدرسة أخيه المؤرخ الراحل التي وصفها بالحيادية والنزاهة وهي سلوك يعد من أهم مقومات الكتابة التاريخية الجادة، ويبدو أن أحمد باوزير استشعر الفراغ الكبير الذي تركه رحيل أخيه ، وتوحي عبارة (باكورة إنتاجي) بالنظرة التفاؤلية، وتؤشر لخطوة البداية، والرغبة في الاستمرار لتعقب البداية بدايات.
قسم باوزير كتابه إلى خمسة أبواب هي أقرب إلى الفصول منها إلى الأبواب. خصص الباب الأول لمدخل تاريخي لمدينة المكلا والقوى المتنافسة للسيطرة عليها، وفي الباب الثاني تناول بدايات ظهور الوعي الوطني في حضرموت وهو المقدمة الحقيقية لموضوع الكتاب الرئيس في الباب الثالث الذي عنونه الزحف الجماهيري إلى القصر، وفي الفصل الرابع تتبع ردود الفعل الداخلية الإقليمية تجاه حادثة القصر، كما تطرق لمحاكمة المتهمين في أعمال الشغب. أما الباب الخامس الأخير فتضمن شهادات معاصرة لعدد من المعاصرين للحادثة.
وباستثناء الباب الثالث والرابع فإن باوزير لم يأت بجديد بل كان صادقا مع القارئ عندما استماحه العذر: "إن وجد في الاستعراض المستفيض شيئا من الملل والتكرار" وتدل الإحالات في الهوامش المتكررة لمؤلفات أخيه الأكبر على درجة من التأثر بتلك المؤلفات ومؤلفها.
وقد غطت الصحافة العدنية هذه الحادثة، ووجد باوزير ضالته في مادتها، ولاغروَ فهو القريب من عالم الصحافة، المتعلم في أروقتها، وممّا يؤخذ على هذا الفصل عدم اعتماد باوزير على السجلات الرسمية لجلسات محاكمة المتهمين بأعمال الشغب.
في هذه التجربة التاريخية نلاحظ مقاربة ثلاثية تملكت شخصية باوزير تجلت في تحليه بشيء من نفس القاص، وبراعة الصحفي، وحضور المؤرخ، وربما يرى البعض في ذلك عيوباً وعوائق تخل بالكتابة التاريخية المنهجية، وللإنصاف يقتضي القول إن باوزير وبعد عقود مع الكتابة الصحفية لا يعقل أن يظهر بمظهر مغاير لما تشكل به، ومما يحسب لصالحه أنه أول من دون حادثة القصر، ووصف المؤرخ محمد عبدا لقادر بامطرف مؤلفه في مقدمة هذا الكتاب بالسجل التاريخي القيم.
رؤية بين رؤيتين
لسنا هنا بصدد تقييم الكتاب،ولا نحسب أنفسنا ندعي ذلك، وإنما تقتضي القراءة التاريخية النقدية تفسير التاريخ من زوايا نظر متعددة وهي بهذا تختلف عن الكتابة التاريخية التي تعني إعادة التسجيل الجزئي لأحداثه، ولهذا فاإن موضوع الكتاب الذي تناوله باوزير سيظل عرضه للنقاش مادامت القدرة على التأمل والتفكير موجودة، والمصادر والمعطيات الجديدة متوافرة.
ولأن الدراسة التاريخية هي في جوهرها تكاملية، فقد قدم الدكتور محمد سعيد القدال دراسة تاريخية عن هذه الحادثة برؤية مغايرة ولكنه دخل مجال الكتابة مطاردا بشبهة الذاتية، فوالده كان طرفا أساسيا فيها. وكان القدال صادقا عندما استشعر توجسات القارئ لما سيسجله فكتب : "تعرضت حادثة القصر لكثير من التواتر الشفاهي ولقليل من التمحيص والدراسة واكتنفتها مزايدات تاريخية ونوازع ذاتية . ولعل تناولي للحادثة قد لا يخلو من النوازع الذاتية…"
والقدال الذي مال ميلا لافتا إلى والده كما بدا لنا , نظر إلى حادثة القصر بوصفها نوعا من التدافع الغوغائي من قبل من شبههم بالبروليتاريا الرثة حسب التصنيف الماركسي .وانطلق في جرحه لرواية باوزير من كونها وقعت فريسة لمناخ سبعينيات القرن الماضي الذي نفخ في أشرعتها فانطلقت تمخر دون بوصلة تاريخية .
وعلى العموم فإذا كانت رواية باوزير الأقرب إلى الواقعية أصابها شيء من زخم السبعينيات التي توصف بالثورية فإن رواية القدال المنهجية مسها شيء من القصور التاريخي وأربكها ثقل ذاتي أو عائلي . وفي رأينا فإن هذه الحادثة تحتاج إلى أكثر من قراءة تأخذ بعين الاعتبار تقدير الروايات السابقة، والاجتهاد في تمحيصها كي تشق القراءات الجديدة طريقها برؤيتها المتجددة وزوايا نظرها المتعددة.
وفي تقديرنا أن نقطة الأساس التي تستوجب الانطلاق منها عند دراسة حادثة القصر تبدأ منذ تولي السلطان صالح القعيطي الحكم وما تلاها مباشرة من استعمار غير مباشر لحضرموت عبر بوابة معاهدة الاستشارة (1937م) المثيرة للجدل التاريخي؛ فقد شهدت هذه الفترة إلى بداية الخمسينيات من القرن الماضي بداية الحراك الوطني المناهض للوجود الاستعماري في حضرموت الذي تكلل بهذه الحادثة الشهيرة.
من هنا نجد أن المدخل لفهم أسباب حادثة القصر يأتي من تتبع السياسة الاستعمارية في حضرموت, ومن أبرز مظاهرها تعمد المستشاروين البريطانيين إبعاد الحضارمة من الوظائف الرسمية في السلطنة القعيطية .ونستطيع أن نتتبع السخط الشعبي تجاه هذه السياسة في الشعر الشعبي والمقالات التي يرسلها الكتاب الحضارم إلى مجلة الرابطة العربية التي تصدر من القاهرة والصحافة العدنية وكذا المظاهرات والتحركات قبل الحادثة وإذا ربطنا ذلك بأثر حركة ابن عبدات في الغرفة والمقاومة الحمومية للسلطنة القعيطية فإن هذا سيقربنا من الإجابة عن التساؤلات الكثيرة التي من حقها أن تتناثر هنا وهناك من قبيل: لماذا حادثة القصر؟ وما هو حجمها الحقيقي؟ ومن أين بدأت ؟. ولن يكون منصفا من تناول هذه الحادثة بعيدا عن النفسية الحضرمية ومقدرتها في خلق الرأي العام الضاغط بنعومة ولكن بإصرار.
وبقيت كلمتان:
- شكر(تاريخي) للسلطنة القعيطية لما هيأته من أجواء مقبولة لحرية الكلمة، فأسهمت بذلك في صنع باوزير الصحفي، وصحيفة باوزير.
- تقدير خاص للأستاذ أحمد عوض باوزير الذي ذكرني في أحد مقالاته بصفة الصديق، وكان سيكفيني شرفا لو حسبني ضمن تلاميذه الصغار في مدرسته الصحفية الكبيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.