مع إطلالة شهر أكتوبر المجيد بما يحمله من مآثر بطولية وأحداث عظام لشعبنا الأبي والمتمثلة بإعلان الجبهة القومية للكفاح المسلح وانطلاق أول شرارات الثورة من قمم جبال ردفان الأبية في 14 أكتوبر 1963م، هذا اليوم الذي ليس ككل الأيام في تاريخنا وسيظل ذكرى دائمة ومتجددة لا يصيبها التقادم ولا يبليها مرور الأيام، فالذكرى للإنسان عمر ثان، وحين نتذكر فإننا نستحضر ما حدث ونشيد به ونثني عليه ونرفع عاليا كل من شاركوا فيه وصنعوا مجده، وتخليدا لهذه الذكرى الخالدة فقد تسلحت بأدواتي الصحفية المتواضعة من كاميرا ومسجلة وأوراق وشرعت في إجراء حوارات ولقاءات وتسجيل ذكريات لبعض الشخصيات التي كان لها شرف المشاركة في التحضير والإعداد لثورة 14 أكتوبر المباركة وأيضا ممن كان لهم شرف المساهمة الفعلية في الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني لجزء غال وعزيز من وطننا الحبيب. وبينما أنا أغوص مع محدثيّ في أعماق ذكرياتهم استوقفتني روايات متناقضة لحدث تاريخي مهم في مسار ثورة 14 أكتوبر، حدث يعتبر من أعظم إنجازات ثورة أكتوبر في فترة الكفاح المسلح وليس حادثا عرضيا يمكن المرور عليه مرور الكرام، ولكنه حدث أعاد للعرب عامة الشعور بالعزة والكرامة وبأن أمة العرب ما زالت قادرة على البذل والعطاء واجتراح المآثر البطولية لحدوثه بعد أيام قليلة من نكسة 5 يونيو 1967م ونقصد بذلك ما تم يوم 02 يونيو 1967م من تمكن الثوار من إسقاط حي كريتر بأكمله وانتزاعه من سيطرة البريطانيين والتفاف ودعم الجماهير للثوار، وقد شكل ذلك نقلة نوعية في مسار الثورة وعجل بدنو يوم الاستقلال المجيد في 30 من نوفمبر 1967م وأيقن الانجليز أنهم يقفون ضد إرادة شعب تقوده مجموعة منظمة تجيد التخطيط والتنفيذ وليس مجموعة مخربين كما كانوا يصفونهم. إن الأمر جد خطير ، فهو ليس مجرد تناقض في سرد وقائع حادثة معينة وكل يريد انتسابها له، بل لأن ذلك الأمر يخص تاريخنا وكيف يجب أن يكتب لأن كتابة التاريخ وتسجيل أحداثه بأمانة وإنصاف يعيد الاعتبار للثورة ولشهدائها ومناضليها ، لقد غيرت هذه الحادثة مجرى سير موضوعي الذي خططت له وأعددت له منذ مدة ليست بالقصيرة من حيث إعداد الأسئلة والترتيب مع الشخصيات التي خططت لعمل حوارات معها، وكلها شخصيات أجلها واحترمها فبعضها ما زال يتبوأ مناصب مهمة وبعضها توارى عن الأنظار وفضل العيش في الظل بهدوء وسكينة بعد مشوار حافل من العطاء والبذل في سبيل هذا الوطن الغالي. لذلك فقد ارتأيت أن أسجل كل ذكريات ضيوفي وتمحيصها وتحليلها ومطابقتها ومقارنتها بما تم تسجيله في فترات سابقة حول نفس الأحداث لتكون عاملا مساعدا للباحثين في كتابة التاريخ بموضوعية وإنصاف وصدق ،ورغم جدية وموضوعية الكتابات السياسية والاستراتيجية والتاريخية التي تم نشرها منذ اندلاع الثورة إلا أنها لا تغطي كل المجالات وتفتقر إلى المزيد من الوثائق التي يجب توفرها واتاحتها أمام الباحثين حتى يتمكن مؤرخونا من كتابة تاريخ الثورة بكل إجادة. لقد تعرضت كثير من الأحداث والوقائع التاريخية للتغيير والطمس والتزوير حسب إرادة المستعمر أو الحاكم منذ قديم الزمن، ولعل النقوش الخالدة التي تركتها لنا الحضارات القديمة خير شاهد ، فقد وجد العلماء والباحثون كثيرا من أخبار النصر في الحروب التي كانت مدونة باسم من قام بها ، فجاء الخلف وأمر بكشط اسم السلف ونقش اسمه بدلا عنه، والأمثلة كثيرة في التاريخ قديمه وحديثه ولا أدعي شرف الريادة في الخوض بموضوع ضرورة تسجيل وتدوين تاريخ ثورتنا وجميع الأحداث التي مر بها شعبنا، فقد سبقني لذلك كثير من الأساتذة الأجلاء، لذا عزمت أن ألقي بحجر في بحيرة المياه الراكدة علّ الدوامات المتكونة تحرك البعض انطلاقا من فكرة كلما زاد الطرق على الباب أو النداء حتما سيؤدي ذلك إلى أن يسمع من بالدار الطرق أو النداء فيفتحوا لأنني ضد فكرة لا حياة لمن تنادي. فحين نعيد كتابة التاريخ يجب التركيز بأن التاريخ ليس مجرد أقاصيص وروايات تحكي ولا هو مجرد تسجيل للوقائع والأحداث وسرد البطولات وإنما تحليل للمضمون ورصد للدروس المستفادة والعبرة والتربية للأجيال الجديدة لتعرف حقيقة شعبها وتاريخه وتتمسك وتفتخر به وتعمل على إحيائه في نفوسها وفي واقعها. كما يجب تجنب كثير من الأخطاء التي شابت كتابات كثير من المؤرخين في تقسيمهم للتاريخ إلى مراحل سياسية والحديث عن كل مرحلة كان هناك حدود فاصلة في مجرى التاريخ تفصل بين عهد وعهد وتجعل كل عهد قائما بذاته، هذا النهج يقطع التواصل التاريخي بين أجيال الأمة كأنها لم تكن أمة واحدة متصلة. ويجب توفر الشروط التي تساعد على التمحيص للأحداث والوقائع التاريخية ومن أهمها أن يشارك الإعلام بماله من سطوة وتأثير لا يمكن تجاهله في تنشيط الذاكرة الوطنية للأحداث الوطنية والتاريخية. جمع وتنظيم وفهرسة الوثائق والبيانات النقابية والمقالات الصحفية التي نشرت في الفترة المواكبة لقيام الثورة. إسهام القيادات التي شاركت في الثورة ومازالت على قيد الحياة والإدلاء بشهاداتها. جمع الوثائق الخاصة بصمود الجبهة الداخلية ودعمها للثورة. عدم تكوين أية لجان لصياغة وكتابة التاريخ فهذا مشروع وطني يتطلب تعبئة المورخين والمفكرين طوعيا. إن إعادة صياغة كتابة التاريخ وتمحيص وقائعه مهمة ضخمة وخطرة وتتطلب جهدا جبارا لإنجازها فهي أكبر من أن تكون جهد أفراد متفرقين قد يتفقون على وقوع الحادثة وتختلف تفسيراتهم وتعليلاتهم لأسبابها ودوافعها باختلاف المنهج الذي ينتهجه كل منهم متأثرا بعقيدته وتكوينه الفكري والثقافي وتصوراته التي ينطلق منها، لذا فالأمر يتطلب جهدا جماعيا منظما تقوم به مؤسسات متخصصة على فترات زمنية طويلة قد تمتد لعدة أجيال، ومع ذلك فلابد من القيام بهذا العمل رغم مشقته لأنه ما من أمة تستطيع أن تعيش بلا تاريخ ممحص محقق.