يحتفل غداً الشعب اليمني بمرور 49عاماً على انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963م ..وهي مناسبة وطنية عظيمة تستعيد فيها الذاكرة اليمنية صور البطولة والتضحية والفداء التي اجترحها اليمنيون حتى فجر الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر عام 1967م، حيث رحل آخر جندي بريطاني من مستعمرة عدن وقتها .. وهي البشارة التي كان قد أطلقها الزعيم جمال عبد الناصر قبل ذلك بسنوات عندما قال في مدينة تعز : (على الاستعمار البريطاني أن يحمل عصاه من عدن ويرحل ..). تلك العبارة أمدت ثورة 14 أكتوبر التي انطلقت من جبال ردفان بزاد من الثقة والدعم ومكنت الشعب اليمني من الانتصار والتحرر من براثن الحكم الاستعماري ، خاصة بعد أن كانت مدينة تعز إثر ثورة 26 سبتمبر ملاذاً آمناً للفدائيين وبوابة لانطلاقتهم مجددا ً وآخرين من اليمنيين يحملون العتاد ومختلف جوانب الدعم اللوجستي الى تلك الجبهات. وهذا يعني أن ثورة 14 أكتوبر لم تكن بمعزل عن مجرى المتغيرات الداخلية وتحديداً قيام الثورة في شمال اليمن قبل ذلك بنحو عام وكذلك بفعل المد القومي التحرري الذي كانت مصر تحمل لوائه وقتذاك ، لكن ثمة خاصية ينبغي أن لا نغفلها والمتمثلة في الدعم اللامحدود الذي قام به أبناء الجزء الجنوبي من الوطن عندما هبوا في مساندة ثوار سبتمبر وكانوا سنداً لهم، وفي طليعة ذلك دماؤهم الزكية التي سالت إلى جانب دماء إخوانهم من أجل الحرية والانعتاق من ربقة الحكم الإمامي الكهنوتي الذي جثم على صدور اليمنيين في شمال الوطن لعقود طويلة جعله معزولاً عن أبسط مقومات الحياة.. إذ أن ذلك يعني واحدية النضال وليس بالضرورة واحدية الثورة سواءً في توقيتها أو في موقعها وظروف كل منهما، باعتبار واقع التجزئة السائد إبان انطلاق الثورتين في شمال وجنوب الوطن وصولاً إلى يوم الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967م. هذا السجال يعود مجدداً إلى الواجهة مع ظروف الانتقال إلى مرحلة سياسية مختلفة تشرع الأبواب أمام كافة القوى والشرائح الوطنية والاجتماعية إلى صياغة عقد جديد لبناء الدولة اليمنية الحديثة تقوم على مبادئ الحرية والعدل والمساواة وكفالة حقوق الإنسان وترسيخ أسس الديمقراطية والتعددية واعتماد أساليب جديدة لمقومات الدولة اليمنية الحديثة البعيدة عن المركزية وبما يتيح أمام المجتمعات المحلية حرية إنتاج الصيغ الكفيلة بأن تكون إضافة إلى العهد الجديد لا أن تكون عبئاً عليه ..أو ابتداع صيغ أخرى تتيح أمام المجتمعات المحلية (ذات الخصوصية الجغرافية ) حرية التحرك في إطار الأقاليم أو أية صيغ تحالفية أخرى في أن تعمل باستقلالية تتيح للمواطنين هامشاً واسعاً في اعتمال هذه الأنشطة وفي مناخات تشجع على الخلق والابتكار ولا تدعو إلى النكوص أو الانغلاق . وفي اعتقادي الشخصي فإن مثل هذه المخرجات الموضوعية هي الكفيلة بإغلاق سد الثغرات أمام أصحاب المشاريع الصغيرة الذين يهتبلون هذا الفراغ واليمن يعيش مراحل الانتقال السلمي للسلطة لأول مرة في تاريخه المعاصر ..حيث يسعى البعض من أصحاب هذه المشاريع إلى محاولة إقامة كانتونات تتفق ونوازعهم الشخصية والذاتية ولا تعبر بالضرورة عن قناعات الناس أو رغباتهم وتطلعاتهم في إقامة مشروع نهضوي لا يحتضن الأسرة اليمنية الواحدة التي تحقق لها هذا الانجاز في مايو 1990م فحسب بل ويقدمها كأنموذج حضاري لا يوازيه في الدلالة الزمانيه والمكانية غير قيام الوحدة الألمانية . إن التفكير بصوت عال في هذه المرحلة يعد أمراً مطلوباً ليس فقط من اجل إعادة وإحياء قيم الثورة ، بل أيضاً في إقامة مشروع الدولة اليمنية الحديثة التي ظللنا قرابة خمسة عقود نتحدث عنها ، لكننا – للأسف الشديد - نغرق في متاهات الحروب القبلية والمناطقية والشطرية والانقلابات السياسية تارة مشفوعة بنزعات ذاتية وتسلطية وأخرى مدفوعة بعوامل التجاذبات والتدخلات الخارجية..وتبعاً لذلك كانت الدولة اليمنية الحديثة المنشودة هي من يدفع الثمن، حيث تأخر إنجاز هذا المشروع كثيراً وقد حان الوقت الآن - مع إطلاق شارة بدء الحوار الوطني الشامل – للبدء عملياً في إنجازه من خلال البحث في شكل هذه الدولة أو كذلك في مناقشة الضمانات الكفيلة باضطراد مسيرة وديمومة هذه الدولة اليمنية الحديثة .. وهو ما يتطلب – بالضرورة – مشاركة كافة الأطراف والقوى في فعالية الحوار الوطني لطرح كل الآراء والمقترحات والمتطلبات تحت ظلال من الحرية والشفافية ودون تحديد أية سقوف لأي من ذلك بهدف إثراء تجربة التحول لما فيه مصلحة الشعب من أقصاه إلى أقصاه.. أو هكذا – على الأقل – تكون احتفالاتنا بأعياد الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر) مدخلاً لمعالجة أخطاء الماضي وتصويباً لمساراتها وصولاً إلى استحقاقات الحاضر والمستقبل .