ظهر الرئيس الجديد أحمد حسين الغشمي بعد مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي وأخيه ورفاقهما يتمنطق القبع على رأسه، وقد تحول البعض من الذين كانوا يظاهرون الرئيس الحمدي بالمودة والحب إلى جانبه، لم يكن الرجل يومها يمتلك مشروعاً محدداً، أو أهدافاً معلنة وإنما مؤهلاً كما عبر هو لإحدى الصحف الأجنبية الطاعة لله ورسوله وطاعة الوالدين” لم يمكث الغشمي في السلطة كما هو معروف أكثر من ستة أشهر ونيف إذ فاجأته الأقدار بعبوة ناسفة كان يحملها القادم إليه من الجنوب.. في شنطة هاندباج، ولكنها استبدلت في الطائرة التي كان يستقلها الرسول بشنطة أخرى محملة بالعبوة الناسفة انتقاماً للرئيس الشاب الحمدي وكذا لتوقيع استعادة الوحدة اليمنية حلم اليمنيين التي وئدت باغتيال الحمدي قبل الذكرى الخامسة عشرة لثورة الرابع عشر من اكتوبر بثلاثة أيام.. عاجل الموت الرئيس الغشمي مبكراً قبل أن يستمتع بنعيم السلطة وجاهها ومالها.. ليأتي بعده الرئيس السابق علي عبدالله صالح لذا أعلن فور اعتلائه كرسي الرئاسة بأنه لا يطمح في السلطة والحكم، وإنما للانتقام للرئيس الغشمي من الجنوب، وأضاف أنه تمنى البقاء حتى لأسبوع فقط من أجل تنفيذ أجندته والانتقام لم يكن رأس الرئيس السابق علي صالح خالياً من المشاريع والأهداف كسابقه الغشمي، وإنما كان محملاً بعديد من الشعارات والبيانات والخطب التي كان يهتبل المناسبات، أو يسعى لصنعها لبث ما يعتمل في رأسه بواسطتها.. معروف أنه لم يمض على صالح أكثر من شهرين في السلطة حتى كاد أنصار الرئيس الحمدي ومعهم الناصريون أن ينتزعوها عند زيارته للحديدة.. لابد هنا من الإشارة إلى الهزيمة التي مني بها الجيش الشمال في حرب صالح الانتقامية للجنوب.. ما جعله يعيد ترتيب بناء هذا الجيش، أو هيكلته على طريقته التي أرادها في الولاء الشخصي أولاً له.. ثم ثانياً للوطن لقد أودى انقلاب أنصار الحمدي ومعهم الناصريون بالقادة كما هو معروف للإعدام في حين زج بقواعد وكوادر الناصريين في السجن، ومعهم العديد من قواعد البعث وبعض قادتهم وعدد من كوادر وقواعد الحزب الديمقراطي الثوري الذي انتقل من حركة القوميين العرب وعدد من قادة وكوادر حزب العمل والشبيبة واليساريين بشكل عام من بينهم أعضاء وكوادر وقادة من الطليعة الشعبية.. إجمالاً زج معهم بمعظم عناصر الأحزاب والوطنيين داخل سجون ما كان يسمى بالأمن الوطني في عدد من المحافظات.. إذ صادفت هذه الأحداث نشاط الجبهة الوطنية وعدداً من مدن ومناطق وأرياف الجمهورية العربية اليمنية كرد على الحرب التي يشنها الرئيس صالح على الجنوب.. أقول كان يمكن إغفال مثل هذه الذكريات لو لم تكن هي بداية لوصلات مشؤومة، أو غير سارة يفتتح بها الرئيس صالح بدايته.. الحرب على الجنوب والإعدامات والسجون. بعد الوصلة المؤلمة إن لم أقل الكارثية بمعنى الكلمة التي أصيب بها الشعب اليمني وثورته بمقتل الرئيس الحمدي، ومشروعه التغييري الذي وئد بمقتله، وصلتان لا تسر ومنذرتان بالذهاب إلى المجهول حيث لا أحد يعلم ما يخبئ الزمن الآتي للشعب والثورة.. من جهة أخرى أوردتها للدرس والعبرة ليس للرؤساء الذين يتربعون على كراسي الحكم بالوعود والشعارات والأحلام المحلقة من المكاسب والبناء والمنجزات.. ثم لا نعرف بعد ذلك أين تذهب، ولكن الحركة الوطنية والتقدمية الممثلة في الأحزاب والتنظيمات الأخرى في بلادنا بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م نصب الانقلابيون الأستاذ محسن العيني رئيساً للوزراء إذ كان الأستاذ محسن يشاع قربه للبعث منتمياً، أو نصيراً، ولكن تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ محسن كان يحظى بالتقدير والاحترام في أوساط الحركة الوطنية والتقدمية.. بما في ذلك اليسار اليمني، ولم يكن محل اختلاف، أو استياء، ولا أبالغ إن قلت مثل طمأنة للكثير بوجوده في هذا المنصب من أن الثورة لن تتزحلق إلى المجهول بوجوده الشخصي المدني والحضاري رغم مصاهرته لبيت بالحوم “قبائل نهم” كما نصب سلطان القرشي رئيساً للأمن الوطني، وهو أيضاً ينتمي للبعث، وشخصية أيضاً لا تقل تقديراً واحتراماً من منتسبي الحركة الوطنية والشخصيات السياسية والاجتماعية، فقط أنهما لم يتحسبا للمطب الذي أراد مشايخ الانقلاب واللواء حسن العمري وضعهما فيه، إذ كان الانقلابيون النوفمبريون يعدون العدة لضرب الحركة الوطنية وبوجه أخص اليسار تمنطق بعض إخواننا البعثيين يومها بالمسدسات في أركان أحواضهم زعماً منهم أنهم أصبحوا يحكمون من خلال الأستاذ محسن العيني وسلطان القرشي، وبيت بالحوم الذي كان يشاع صلته بالبعث، وفي 24 من اغسطس 68م.. بدأ الانقلابيون ينفذون أولى ضرباتهم بمقتل رئيس الأركان عبدالرقيب عبدالوهاب من سلاح المظلات وعدد من رفاقه وهروب البعض الآخر.. كانت آخر وجبة هي ضرب المقاومة الشعبية في صنعاءوالحديدة.. ثم ملاحقة العناصر الوطنية والتقدمية ممن كان لهم الباع والذراع في صد هجمات الملكيين في “حرب السبعين يوماً” إلى جانبهم وهكذا لقد وضع انقلابيو نوفمبر بعض إخواننا من القادة البعثيين في تلك المناصب وغيرها كما تبدو لتسهيل ضرب الحركة الوطنية والمقاومة كديكور لتنفيذ مخطط معد مسبقاً وبعد الانتهاء من الفعلة المشؤومة جمد العيني، أو أنه قدم استقالته لا أعلم وزج بسلطان القرشي في السجن، هكذا على ما يبدو من الوقائع والأحداث المتعاقبة أن الانقلابيين استفادوا من وجود البعثيين في مناصب هامة وحساسة لضرب إخوانهم في الحركة الوطنية الأخرى واليسار المستهدف بشكل أخص.. ثم اتجهوا ناحيتهم، وبالنسبة لإخواننا الناصريين هم الآخرون استفادوا من علاقتهم الطيبة بالرئيس إبراهيم الحمدي أو ميوله نحوهم.. إذ ارتقوا في عدد من المناصب الهامة والحساسة مدنية وعسكرية، لكنهم لم يكونوا على وفاق مع عناصر من الحركة الوطنية الأخرى واليسارية على وجه الخصوص، إذ أجبروا العديد منهم على الاستقالة من أعمالهم في المؤسسات التي كانوا يديرونها، وضايقوا العديد من اليساريين في وظائفهم وأعمالهم كنت من بين العناصر الذين نالهم النصيب.. فاستقلت من البنك المركزي الذي كنت أعمل فيه وكذلك فعلت أختي وزوجات وأخوات أخريان من الحركة، وآخرون. بعد مقتل الشهيد الرئيس الحمدي وأخيه ورفاقهم، واغتيال الرئيس الغشمي وصعود الرئيس السابق صالح، وانقلاب إخواننا الناصريين ضده والزج بالجميع في السجون.. كنت من بين المعتقلين في الحديدة وقد رأيت الدموع.. دموع الحسرة على ما يبدو تهطل من عيني أحد الناصريين لا اذكر اسمه حين رأى أحد اليساريين عاد من التحقيق مدمى من الضرب، وبحكم الفضول سألته لماذا؟! قال: إننا الآن في الهم شرق نحن وأنتم، كان الولد على قدر من الوعي والثقافة والتسييس، حيث إنه من خلال تلك الدموع كان يعتذر لما فعله بعض رفاقه ببعض الوطنيين الآخرين، ليدرك متأخراً أن القوى التي لا تعرف غير مصالحها ومنافعها لا تفرق بين العناصر الوطنية التي تنكر عليها العدوان والأذى للوطن مهما كان انتماؤها لقومية العرب أو العالم فهم في الاستهداف والتنكيل سواء، أردت أن تكون هذه الوصلات من الذكريات أحد الدروس والعبر لمؤتلفي المشترك والقوى الوطنية الأخرى والشباب في ساحات الوطن ومنظمات المجتمع المدني، وكل الخيرين في محبة وصون هذا البلد. للتذكر والاستفادة من الماضي بإيجابياته ومساوئه ومطباته كي لا يقعوا فيما وقعت فيه الحركة الوطنية قديماً من التمزق والشتات وأنانية البعض من الهرولة والانفراد.. ما عطل على الثورة خط سيرها نحو المستقبل المنشود الذي اختطه ضباطها الأحرار، علق بالتالي أحلام الشعب وأمانيه في الحياة الكريمة والمواطنة المتساوية. دفق الثورة وألقها في الوطن من البديهي أن تعترض أي ثورة في العالم العديد من المعوقات ومقاومة المتضررين منها.. غير أن الثورات التي تحظى بقيادات وطنية نظيفة الأيادي وعلى قدر من الثقافة والحب والوعي تنتصر مهما وضع المتضررون من العراقيل والإعاقة في طريقها، في بلادنا لم يعدم الثوار من الضباط الأحرار اليمنيين مثل هذه الميزات أبداً متوجة بإرادة الشباب الضباط والمدنيين من الذين كانوا معهم على الخط، وبقدر بعض الانتكاسات التي منيت بها الثورة في بلادنا كما أشرت إذ كان ذلك من الطبيعي أن يحدث في ظل الجهل المتفشي والأمية وأضاليل ومكر الإمامة، ويمن يثور في ظل الجغرافيا المحيطة به التي لم تكن بأفضل منه في تلك الأزمنة، وهبوب الجند المصريين لإسناد الثورة، وجمال عبدالناصر القائد لحركة التحرر العربية والعالمية الذي يحظى بالنصيب الأوفر من العداء من قبل الغرب والجغرافيا المحيطة في ظل تدفق الثروة الهائلة من الطاقة بها. كل ذلك الذي وقف سداً أمام الثورة واحلام وتطلعات الشباب والشعب، إلا أن الثورة قد فتحت آفاقاً رحبة للوعي والتعليم والثأئر.. فالاستعداد الأوفر للدفاع عن الثورة والتضحية من أجلها.. إذ هب الشعب اليمني من مختلف المناطق والأرياف للالتحاق بالحرس الوطني جنباً إلى جنب مع إخوانه الضباط والجنود المصريين يذود عن الثورة ويقدم الشهداء في مختلف مناطق القتال يجدر في هذه التناولة القول قبل الاسترسال أنه مع انبثاقة الثورة السبتمبرية وسطوع أهدافها لخير وتقدم الشعب اليمني وأحلام وتطلعات ضباطها الأحرار لما فيه انتقال اليمن كل اليمن أن النزعة العنصرية الانتقائية في تشكيلات الجيش واعتلاء المناصب العليا الحساسة والهيمنة بشتى أوجهها الكالحة لم تكن موجودة في تربية وثقافة الضباط الأحرار يومها.. تجلى ذلك في وحدات الجيش وألويته التي ضمت خليطاً من مختلف مدن ومناطق اليمن شماله ووسطه وجنوبه وغربه وشرقه فبقدر ما تعرضت مسيرة الثورة لأكثر من انتكاسة وتراجع عن خطها الثوري المرسوم يومها.. بالقدر الذي ظلت مابين فترة وأخرى تستعيد عافيتها أو بعضاً منها فثورة الرابع عشر من اكتوبر 63 وانطلاقها ذلك بفضل الآفاق الواسعة التي تفتحت للشعب اليمني بفضلها، وأطل من خلالها المسرح والأدب والقصة التي فرضتها الإمامة.. انتعش المسرح والأدب والقصة والرواية والفنون بمجالاتها المختلفة في الموسيقى والفنون التشكيلية والنهل الخصب من مختلف الثقافات والفكر، وليس أدل على ذلك من إصرار الشعب اليمني في الدفاع عن ثورته حتى النصر ودحر المرتزقة في السبعين يوماً، وصعود المقاومة الشعبية من الشباب والصبية والرجال للدفاع وفتح مخازن المؤن والإمداد.. ثم حركة الثالث عشر من يونيو التصحيحية التي استعادت الثورة من المتمصلحين والمنتفعين لذواتهم إلى حين.. ثم انتفاضة الشباب في الحادي عشر من فبراير سنة 2011 الموسومة بثورة الربيع العربي بروز الأحزاب قيمة الديمقراطية والحرية والتعدد وتشكلات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، وغير ذلك من المكاسب والتطلعات بعد فترات تراجع وفساد وضمور، وأهم منجز من منجزات الثورة اليمنية استعادة وحدة اليمن في الثاني والعشرين من مايو سنة 1990م كل ذلك من الآفاق الرحبة التي أسدتها ثورة سبتمبر للشباب والشعب اليمني بمختلف أفكاره ومشاربه.