الثورة فعل جماهيري واسع، يهدف إلى تغيير وإسقاط القيم والعقلية الحاكمة.. مستخدماً في سبيل ذلك كل الأدوات والوسائل الممكنة؛ العصيان، والتمرد، القلم، التصميم وقوة الإرادة، الصبر في المقاومة والمقارعة، الثبات حتى النصر. الثورة هي نتاج للظلم والطغيان.. وشعور الأغلبية بالغبن والحرمان.. كما أنها نتاج لتراكم الوعي لدى الجماهير.. وإحساسها بجور الظلم وشدة وطأته عليها.. وإيمانها بقدرتها على التخلص من الطاغية. استطاعت هذه الثورة تحقيق الكثير من الأهداف.. وبفضل وعي رجالها وشبابها اتحد اليمن.. وبنيت جسور التواصل بين كل فئات وطوائف ومناطق وقبائل اليمن.. تلك الجسور التي عمل نظام صالح - ولايزال - على تدميرها. الشباب الثائر مهما تفرقت بهم أفكارهم وأيديولوجياتهم السابقة إلا أن ثورتهم وحّدت مسارهم تحت شعار: “الشعب يريد إسقاط النظام”، فتصافح اليمين باليسار.. والقومي باليساري.. والإسلامي بالعلماني تحت مطلب واحد: “دولة مدنية حديثة”. جسدت هذه الثورة الطلاق البائن بين الإنسان والوصاية عليه من أي طرف كان؛ فالثورة ولدت من رحم معاناة الشعب.. فلا ولن ترتبط بأحزاب أو أشخاص أو مناطقية أو طائفية. الجمهورية الموازية استطاعت الثورة إرغام صالح على التنحي دون الرحيل؛ فخروجه من دار الرئاسة ليشكل تواجداً موازياً من منزله عقّد الأمور، وأربك المشهد، وعرقل استكمال تحقيق الأهداف. من أخطر الثورات تلك الثورة التي تحقق النصف، وتتجاهل النصف الآخر.. فحسب جبران خليل جبران أن “نصف شربة لن تروي ظمأك.. ونصف وجبة لن تشبع جوعك.. ونصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان.. ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة.. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز؛ لأنك لست نصف إنسان, أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة”!! الدونية المُرة أن نعيش نصف حياة، أو نموت نصف موت، أو نختار نصف حل، أو نقف في منتصف الحقيقة، أو نحلم نصف حلم، أو نتعلق بنصف أمل، أو نصمت لكي نتكلم، أو نتكلم لكي نصمت. إن الوقوف في منتصف طريق الثورة خيار بائس.. فهو أقصر طريق لوأد الثورات وتبديد التضحيات.. وكما كتب الفقيه السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل:”إن الثورة مثل الرواية، أصعب ما فيها هو نهايتها”. فلا يجوز أن يقبل الشعب اليمني بعد اليوم ترقيعاً ولا التفافاً، أو أن يرضى بما دون إسقاط العائلة، وتفكيك بنية الاستبداد، وتوحيد الجيش، وبسط نفوذ الدولة على جميع أراضيها. إن غاية الثورات ليست استبدال حكام بآخرين، بل حكم الشعب نفسَه بنفسه، وبناء فضاء مفتوح يملك آليات التصحيح الذاتي سلمياً، وتأجيل مناقشة المطالب الجزئية في لحظات الحسم الكلية؛ فغاية الثورة تحرير الشعوب لا حكمها. الدونية في مسيرة الثورات الرضا بأنصاف الحلول؛ لأن نصف الرفض قبول, النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك، النصف هو أن تصل وأنت لا تصل، أن تعمل وأنت لا تعمل، أن تغيب وأنت حاضر, النصف هو أنت عندما لا تكون أنت؛ لأنك لم تعرف من أنت. اليوم لا شيء يخشاه شباب الثورة.. فقد تجاوزوا كل ما كان السابقون يخشونه في حياتهم؛ خرجوا بائعين أنفسهم للوطن وللحرية والعيش الكريم.. استقبلوا رصاص القناصة المجرمين بصدور عارية؛ من أجل الكرامة والحرية، وتحقيق كل أهداف الثورة. بين يدى شباب الثورة من الخيانة لدماء الشهداء أن يظل صالح يتفق مع أصحاب المشاريع الخاصة والصغيرة لتقويض بنيان النظام الحالي؛ من أجل إعادة تثبيت دعائم حكمه وحكم عائلته باتفاق العقلاء، لا استقرار ولا أمن ولا تحقيق لأهداف الثورة إلا بخروج صالح من البلاد. ألا تكفي خيانته ثلاثة وثلاثين سنة ليعود لمواصلة تدمير ما تبقى من ممتلكات الوطن؟. بين يدى الرئيس هادي صحيح أنك تعيش في موقف لا تحسد عليه.. فأنت ومن معك من شرفاء الوطن أمام مرحلة انتقالية في غاية التعقيد والصعوبة.. لكن بقاء الحال على ما هو عليه دون قرارات حاسمة ينتظرها الشعب تقضي بتوحيد الجيش وإنهاء الانقسام والتوتر، فإن المشهد يعيد نفسه وبصورة أكثر وضوحاً من الثورات السابقة، سواء كانت ثورة 48، أو ثورة 62، والتي قال فيها البردوني رحمه الله: والرجال الذين بالأمس ثاروا أيقظوا حولنا الذئاب وناموا ربما أحسنوا البدايات لكن هل يحسون كيف ساء الختام؟ فالوقوف في منتصف الطريق لا يوصل إلى نهايته.. وعدم الثورة خير من نصفها؛ لأن عودة السابق انتقام من اللاحق.. فنصف حياة بالتأكيد موت لنصفها الآخر..وحسن البداية لا يعنى بالضرورة حسن النهاية.