ثمة مرض نفسي عادةً ما يصيب بعض السياسيين، الذين غالباً ما يرتكبون الكوارث بسببه أو بسببهم؛ فغالباً ما يستحضرون هذا المرض لتحقيق مآرب سياسية يعجزون عن تحقيقها بذكائهم السياسي المحدود، أو ربما بسبب هشاشة بيئتهم السياسية وتشوهها. هذا النوع من المرض النفسي أو “الاكتئاب” بصفة أدق، مرتبط بدرجة رئيسية برغبة السياسي نفسه في إدخال الجمهور في حالة أزمة تساعده على تبني خيارات متطرفة أو راديكالية قد تعمد لتصفية الخصم السياسي، وهو الأمر الذي يجعل القائد السياسي - المريض - يبدأ أولاً بتأزيم نفسه تجاه خصمه كيما يستطيع من واقع الطاقة التدميرية بداخله أن يصدِّر هذه الأزمة إلى جمهور المتفرجين الذين يصبحون تلقائياً مأزومين أيضاً ولا تنفرج أزمتهم إلا بالقضاء على الخصم السياسي الذي يحرِّض ضده هذا السياسي المأزوم، وقد يأخذ الأمر منحى مقابلاً ومشابهاً يشجع على حدوث صراع أهلي داخل المُجتمع. وهذا النوع من الاكتئاب السياسي المَرَضي والمُدمر - برأيي - يمثل الخيار الأمثل لأولئك الذين يعجزون عن إلهام شعوبهم، سواءً بأفكارهم ومشاريعهم السياسية أو بقوتهم اللوجستية والتنظيمية، ولعلّ في هذا التأزيم حصانة أو حماية أولية لتشكيل هذه المنظومات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي تعطي الفُرصة للتأثير على المُجتمع، ومثال ذلك - برأيي - الحركة النازية في المانيا، والتي وجدت في التحريض العنصري ضد الخصوم فُرصتها الذهبية في تدعيم مشروعها، وهو الأمر الذي عاد بالدَّمار على أوروبا وأماكن أخرى من العالم، وبسببه ظلت المانيا مدينة لعقود بالاعتذار المادي والمعنوي للشعوب التي تضررت من جنون هتلر! إنه لمن المُفارقة أن يكون رأسمال سياسيّ ما وشفرة تأثيره “مرض نفسي” يعمد إلى تصديره للجمهور، وأن تكون فكرة العيش على الأزمات هي الأصل في سبيل الحصول على مكاسب سياسية وعلى جمهور سياسي مضمون تُمارس عليه إرهاباً نفسياً غير مُباشر بتحذيره من مخاطر خصم مفترض، وفي النهاية تحقق مكاسبك الضيقة بعد أن تكون قد دمرت نفسية شعبٍ بكامله! إن أصدق النماذج المُعاشة على هذا النوع من السياسيين هو رأس النظام السابق، فهو أحد جهابذة سياسة “الإدارة بالأزمات”، والتحريض من الخطر المجهول الذي يمثله الآخر: “حرب أهلية، صوملة، إرهاب ديني، انفصال، إمامة”.. ثم خَلَفَ من بعدِه خَلفٌ، لم يضيعوا من سنَّته شيئاً.. ولعلَّهم واضحين لأغلبنا، وهُم “أبطال” الفتنة الطائفية والتحريض المذهبي المقيت بين السنة والشيعة، ناهيك عن “أبطال” القبيلة السياسية الجهوية..!. ولهذا: ليس سرَّاً أن بقايا النظام السابق ما زالوا ماضينَ في السير إلى الجحيم المنتظر باسم الثورة، سواءً أبطال جماعات الإسلام السياسي وفُرسان التحريض الطائفي والحروب السياسية ذات الطابع العقدي أو اليساريين الديماغوجيين، أو القبيلة السياسية المتمترسة وراء جهل المجتمع... أو غيرهم، هؤلاء جميعاً يسعون إلى السيطرة على الجمهور من خلال اصطناع الأزمات، ومحاولة إيجاد مواطئ قدم لهم للتأثير على قناعات الرأي العام، ومثل هذه الشعبية المصطنعة المأزومة لا تصنع الخير أبداً، ولا يمكن لمن يحاول اختلاق الأزمات ونبذ التعايش بين فئات المجتمع أن يصنع مستقبلاً زاهراً لبلد أو لأحد؛ باستثناء تجار الحروب وضِبَاع الجيَف!. لقد حلُمنا بثورة تنقذنا من الأزمات، وتخرجنا من عنق الزجاجة، ولم نُردها ثورة تزيد من تضييق الخناق علينا، وتؤزمنا أكثر من أزمتنا الحاليَّة.. لقد أردناهم أنبياءً للخلاص.. ولم نردهم شياطين لإثارة الوسواس.. والعيب كلّ العيب أن يختار أحدنا أو يتعصب لجماعة الأزمات هذه، لأنه بهذا يؤيد الحروب ويختار الدمار، يؤيد ويختار الفقر والجهل والمرض، إنه ينسى كم هو بحاجة للتنمية والازدهار، كم هو بحاجة للتعلُّم والتقدُّم والتحضُّر والتمدُّن..! ما نحن بحاجته؛ خطاب متفائلٌ يعبِّر عن مشروع صادق مع طموحات الشعب وآمال الناس، نحتاج خطاباً يدغدغ آذاننا بأرقام سعيدة! بمكاسب اقتصادية سنجنيها، بتعميق الحريات الشخصية والاجتماعية، بتعزيز البحث العلمي، وتوسيع دائرة التأثير الثقافي والحضاري في أوساط شرائح المجتمع المُختلفة والدنيا منها تحديداً، بتجذير السلوك المدني، ونبذ العصبيات والإثنيات والهويات الصغيرة والمحدودة، نحتاج لحُلم كبير، طموح، باتساع الأفق العروبيّ والإنساني، ونحتاج لعملٍ في سبيله يخلصنا من هذا الغثاء الشاسع مدّ البصر.. هل هذا عصيّ؟! لا أعلم! [email protected] رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=463648523674228&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater