إذا كان هناك شجرة متجذرة في الأعماق وكبرت أغصانها وصارت أشواكها تؤذينا فليس من الحكمة أن نكتفي بقطع تلك الأشواك فقط , لأننا إن قطعنا اليوم غصنا واحدا فإنه سيعود مرة أخرى ما دامت الشجرة تنبت أغصانا كل يوم, ولربما لو تأخرنا قليلا فلن نستطيع في المرة القادمة قطعه إن هو قوي واشتد , والأفضل لهذه الشجرة التي تعمقت جذورها وطالت أغصانها وتناثر شوكها علينا , أن نذهب إلى جذورها فنقطعها أو نقطع عنها الماء , فإذا انقطع ما يغذيها فإنها ستكون يابسة في فترة قصيرة , وهذه هي الطريقة المناسبة لحل مشاكل الشوك تلك, أن نجعل فريقا يبحث عن جذورها لنقطعها ونمنع عنها الغذاء كحل بعيد المدى, وفريقا آخر يقطع الشوك المتناثر كحل قريب المدى . لازلت أتذكر تلك العبارة الرائعة التي قرأتها للشيخ الدكتور عبدالمنعم النمر في كتابه الاجتهاد حيث قال « لا بد أن ينزلوا البحر ويعوموا , وينقذوا العقل الفقهي الغريق حتى ولو قذفهم القاعدون على الشاطئ بالحجارة» فهو يعلم أن من يغوص في الأعماق سيلاقي قذفا بالحجارة , وهذه أحدى مآسينا كأمة , نحارب من يريد إنقاذنا من الموت ثم نقول لماذا نموت ؟ لقد هرب الكثير من علمائنا من فخ استبداد الحكام ولكنهم للأسف وقعوا في فخ استبداد العوام , فأصبحت آراؤهم أقرب إلى ما يطلبه المستمعون , وآثروا المرور على سطح مشاكلنا فزادوا الطين بلة حين وضعوا علاجا خاطئا فوق الجرح فزاد الورم . وواحدة من أهم مشاكلنا التي برزت بشدة في الفترة الأخيرة هي مشكلة تلك الجماعات التي تفجر وتقتل وترهب الناس تحت مسميات الجهاد والقتال في سبيل الله , وهي ظاهرة خطيرة بحثها كثير من المفكرين والباحثين الجادين , فوصلوا إلى أن هناك مجموعة من الأفكار والمعتقدات الخاطئة تمتلئ بها كتب تراثنا هي من يدفع ذلك الشخص لأن يفجر نفسه بتلك البساطة. حين أسمع أن شخصاً من أفراد القاعدة فجر نفسه بين جموع الناس يتبادر إلى ذهني تلك الأفكار الخاطئة التي تمتلئ بها كتب التراث والتي تعتبر المادة الخام لإيقاد شعلة الحماس لدى هؤلاء , فأقول في نفسي هذه هي النهاية المنطقية لتلك الأفكار الخاطئة , وتخيلوا معي شخصا قيل له : إن آيات القرآن الكريم التي تحث على العفو والصفح والدعوة بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن والبر والقسط مع الآخر المخالف لنا منسوخة , فهي متلوة لفظا ملغاة معنى . ثم قيل له : دعك من آيات القتال التي تربط القتل بعلة رد العدوان على من قاتلنا كقوله تعالى {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }البقرة190 , وعليك فقط بآية واحدة هي آية السيف فإنها نسخت تلك الآيات فقد نسخت أكثر من 124 آية , وهي آخر حكم صدر بحق المخالف لنا في الدين, برغم أن السيف لم يذكر في القرآن مطلقا وبرغم أنهم لم يتفقوا كذلك على ماهي آية السيف , ولكن اكثرهم استقر رأيه حول آيتين من سورة التوبة هما الآية الخامسة والآية التاسعة والعشرون ..ثم قيل له: إن آية السيف تأمرنا أن نقاتل المشركين والكافرين في كل زمان ومكان حيث ثقفناهم وأن نأخذهم ونحصرهم وأن نقعد لهم كل مرصد , في بتر واضح لمعنى تلك الآية التي تخص فئة محددة في زمان ومكان معين بسبب ما عملوا من عدوان وقتل للمسلمين , وهكذا يتم التعامل مع كثير من الآيات القرآنية حين يتم فصلها عن سياقها بما قبلها وما بعدها من الآيات . ثم قيل له: إن هذا الفهم ليس فهمنا وإنما هو فهم السلف الصالح واقرأ ما كتبوه في تفاسيرهم فستجد ذلك , وإياك أن تخالف السلف الصالح في الفهم وإلا هلكت وضللت , فالسلف معصومون ولا يمكن أن يقعوا في الخطأ . وتمر الأيام ويسمع ذلك الشخص عبارات كثيرة تلهب حماسه للقتل والقتال , يدرسها في تلك الكتب منها : من عمل كذا أو خالف مسألة كذا فهو زنديق ضال مبتدع حلال الدم , ومن لم يؤمن بكذا فهو مرتد يستتاب ثلاثة أيام ثم يقتل , ويحمسونه بأن القضاء متقاعس عن الحكم على المرتدين وهذا مخالف لأمر الله ورسوله وعليه أن يقوم بذلك الواجب بدلا عنهم , ونسى هؤلاء أن هذا الحكم لم تشر له آية واحدة في كتاب الله رغم ذكر الردة مرارا في القرآن , وإنما استدلوا لحكمهم ذلك براوية ظنية مختلف في ثبوتها ودلالتها , جعلت فريقا من المتقدمين والمتأخرين يرفضون ذلك الحكم . ويستمر ذلك التلميذ في حفظ روايات يقال له بأنها منسوبة للنبي وتأمره بأن يقاتل الناس حتى يدخلوا في دين الله , فإن لم يسلموا فعليه بالاستمرار في قتالهم , وتخيلوا معي كيف سيكون إيمان ذلك الشخص بتلك الفكرة كون الذي يدعيه للقتال هو رسول الله وليس شيخه كما يقولون , وأنا أنزه ديننا ونبينا أن يكون قد أكره الناس على الدخول في الإسلام وأن تلك الروايات ما هي إلا مدسوسة عليه وأراد أصحابها النيل من صورة الإسلام النقية, واتهامه بأنه دين ضعيف من داخله ولذا يلجأ إلى السيف لينشر مبادئه بالقوة بين الناس . ثم يكررون له ما سيحصل للمجاهد من نعيم وحور عين ويصكون له صكا إلى الجنة , وما بقي إلا أن يفجر نفسه حتى يجد كل ذلك النعيم , وينسى ذلك المسكين تحت ذلك الإغراء أنه سيذهب لقتل المسلمين والمسالمين وأن مصيره قد يكون مختلفا. ثم لما رأى فريق من هؤلاء أنه لا استطاعة لهم بحرب العالم كله, أعادوا ترتيب أولوياتهم ليبدأوا بقتال من يوالي الكفار حسب زعمهم , فبدأوا بحرب الحكام والجيوش من أبناء جلدتهم , ومن وقف في صفهم من العلماء وخاصة أولئك العلماء الذين ينتمون إلى نفس مدرستهم, حيث رأوهم متشددين في تطبيق الأحكام على الشعوب ومتساهلين في تطبيقها مع الحكام , فأحبوا أن يخرجوا من تلك الحالة المتناقضة عندهم ليكونوا أشداء على الجميع حكاما ومحكومين , فعمموا حكمهم على كل المسلمين المخالفين لهم . هكذا تشكلت أفكار ذلك الشاب عبر مجموعة من المفاهيم الفكرية وجدها أمامه وتعلمها ولم يجد أحدا ينتقدها من كبار العلماء عنده , بل إن بعضها يدرس في مناهج المدارس والجامعات التابعة للحكومات , وأصبح العيب والتقصير عنده هو عند الناس والعلماء الذين تراخوا في إعلان القتال في سبيل الله على كل العالم . هذه هي المعتقدات التي يؤمن بها ذلك الشخص الذي يقدم على تفجير نفسه , فماذا تتخيل منه غير تلك الأفعال , خاصة إن وجد من يسهل له الطريق ويفتحها أمامه ويدربه ويدعمه بالمال , إن هؤلاء الأفراد حين يقدمون على تلك الأفعال يكونون في يقين عال وإيمان قوي بصواب ما يعملون, فمن أراد أن يوقفهم عن تصرفاتهم تلك فليبدأ بتفكيك تلك الأفكار التي عشعشت في عقولهم , وليبحث عن أماكن نشأتها , وليعالجها من جذورها. إنها دعوة لمراجعة تراثنا الفكري الذي انتجناه خلال أربعة عشر قرنا , وخاصة تلك الأفكار المذكورة سابقا, فكما آمنا أن صيد أسماك التراث يساعدنا على الحياة , فعلينا أن نؤمن كذلك بأن قتل تماسيحه يساعدنا على البقاء أحياء حتى نصل إلى نهاية النهر . رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=465551946817219&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater