عن محورية الدور التركي في اليمن تشهد العلاقات اليمنية التركية اليوم تدشين مرحلة جديدة بأدوات الدبلوماسية الحديثة القادرة على تجاوز نقاط الضعف التي تسلل منها المنزعجون من التقارب القديم أو الجديد القائم على أساس التعاطي الندي بين دولتين وفقاً لبرتوكولات العصر الحديث الذي لا مكان فيه لمسميات الوالي القادم من الأناضول ولا السيد المدافع عن “شريعة الله” التي يود من خلال تصوره لها تملك البلاد والعباد. سادت علاقات البلدين حقبة انقضت بمختلف أدواتها وما لها وما عليها، الأمر الذي يقتضي التعاطي مع الواقع القائم اليوم بمسمياته وأدواته التي نعيشها، بعيداً عن اجترار سلبيات الماضي التي ضخمها الاستعمار بأدواته المختلفة ليس في اليمن فحسب انما في تركيا، فبينما كان يقال لليمنيين احتلكم العثمانيون كان يقال لهم في تركيا خانكم اليمنيون وقتلوكم. فصل جديد في علاقات البلدين يأتي النشاط المكثف لتركيا سواء من خلال سفيرها الأكثر نشاطاً في تاريخ الدبلوماسية التركية في اليمن، أو من خلال الزيارات الهامة التي أجراها وزير الخارجية التركي ونائب رئيس الوزراء وأبرمت خلالهما العديد من الاتفاقيات كدليل واضح على ربيع قادم في علاقات البلدين يتجلى في حيوية السياسة الخارجية التركية في سياق الاجماع الدولي القاضي بضرورة انجاح العملية السياسية في اليمن ومساعدته على الاستقرار. تهدف تركيا الى استقرار الوضع اليمني من خلال المساهمة في ادارة عجلة التنمية في البلاد عبر حزمة مشاريع تنموية تعتزم وكالة التنسيق والتعاون الدولية التركية تيكا تنفيذها خلال الفترة القادمة كترجمة عملية لتعهدات أنقرة في مؤتمر المانحين. وهناك اتجاهان آخران في العلاقات اليمنية التركية يتمثلان في التعاون الاقتصادي والأمني وهو ما أشار له وزير الخارجية التركي خلال استقبال الرئيس هادي له في صنعاء. أوغلو تحدث بشكل صريح وواضح حول هذا الأمر وهو يؤكد أن أنقرة لا تحبذ مجرد سماع أنباء تدخل أي دولة أجنبية في المساس بأمن اليمن الذي يتموضع في جغرافيا هامة لها تأثيرها على الاستقرار الاقليمي والدولي معتبراً أمن اليمن كأمن تركيا من وجهة نظر أنقرة. بالنسبة للجانب الاقتصادي لعبت زيارة بولنت أرنتش نائب رئيس الوزراء التركي لليمن دوراً في تفعيله من خلال حزمة الاتفاقيات التي أبرمها خلال الزيارة وأعلن رفع سقف التبادل التجاري بين البلدين الى مليار دولار بحلول العام 2015. نعتقد أن اليمن يعول كثيراً على الدور التركي في هذا الاتجاه ففي الوقت الذي كان يؤكد فيه الرئيس هادي خلال استقباله أرنتش عن اقتصار علاقات ما بعد الحرب الباردة على الجانب الأمني والاقتصادي كان يتحدث بإعجاب عن قوة تركيا الاقتصادية وأهمية رفع سقف التبادل التجاري معها، ويوضح للمسئول التركي تأثير الارهاب على الوضع الاقتصادي لليمن وهي باعتقادي اشارة الى ضرورة ترافق التعاون الأمني مع التعاون الاقتصادي بين البلدين. في ذات الوقت كان وزير التجارة اليمني يدعو الجانب التركي لمساعدة اليمن في الانضمام لمنظمة التجارة العالمية ولا نعتقد أن أنقرة ستألو جهداً في مساعدة اليمن سواء بشكل علني أو بصمت كما حدث بالنسبة لمساعدتها في انهاء سيطرة موانئ دبي على ميناء عدن الذي أبرم اتفاقه في تركيا الفترة الماضية. تأثير الدور التركي في اليمن على علاقات الرياضأنقرة أتاح تموضع اليمن باعتبارها جزءاً من المحيط الاقليمي لمجلس التعاون الخليجي أتاح بشكل طبيعي للرياض أن تلعب الدور الأبرز في المشهد اليمني وصولاً الى توقيع المبادرة الخليجية. وخلال هذه الفترة شهدنا عدم وضوح منطقي الى درجة كبيرة للدور التركي كونها ليست جزءاً من الفاعل الإقليمي “الخليج” ولا الفاعل الدولي المؤيد للمبادرة الخليجية “مجلس الأمن” واقتصر موقف أنقرة من الثورة اليمنية خلال فترة اندلاعها الى توقيع المبادرة على تنسيق المواقف مع شركائها الاقليميين والدوليين الأمر الذي يعكس مدى الاحترام والثقة المتبادلة بين هذه الأطراف. وفضلاً عن ذلك فإن عدم وضوح الموقف التركي المهتم الى درجة كبيرة باليمن يبرز حجم التوافق القائم بين الرياضوأنقرة فالأخيرة كانت على ثقة بكون تحرك ساسة المملكة سيذهب باتجاه استقرار اليمن وبالتالي لم تحشر نفسها في الموضوع كونها أكبر من أن تسجل موقفاً ليس الا. عقب التوقيع على المبادرة حضرت تركيا في اليمن كداعم رئيسي لانجاز التسوية السياسية وفق المبادرة التي حظيت بدعم دولي غير مسبوق وبالتالي فلا تقاطع بين الدورين السعودي والتركي في اليمن كون الطرفين يسعيان الى استقرار البلاد ونجاح التسوية السياسية فيها. تقاطع الدور التركي الايراني في اليمن مبدئياً لا ترغب أنقرة في لعب دور مناهض لعلاقة أياً من دول العالم في اليمن أو غيرها على اعتبار حق كافة الدول في نسج علاقات دبلوماسية مع أي من نظيراتها على مستوى العالم وفقاً للقوانين الحاكمة للعلاقات الدولية. وتاريخيا الأطراف المتعددة بما فيها الدول تتقارب مع طرف ما رغبة في خيره وتلتقي مع طرف آخر اتقاء لشره، وبالتالي تختلف آليات وأدوات العلاقات وهنا ينشأ الاختلاف بشكل طبيعي بناء على اختلاف أدوات الأطراف. فحين تعتمد تركيا في علاقتها باليمن على منهجية الإسهام في إدارة عجلة التنمية في البلاد ونسج شراكات اقتصادية تأتي منهجية إيران وفقاً للمصادر الرسمية في اليمن على النقيض من ذلك وتخرج علينا هذه المصادر بحديث إما عن القبض على خلية تجسس ايرانية أو محاولة إنشاء مصنع للصواريخ تحت غطاء الاستثمار من قبل عناصر مرتبطة بالحرس الثوري أو تمويل طهران لتوجهات مسلحة في البلاد ومجاميع مناهضة للتسوية السياسية وهي ممارسات أكدها الرئيس هادي في تصريحاته. لو أردنا قياس الفارق الطبيعي بين علاقة صنعاء بكل من أنقرةوطهران نتيجة اختلاف أدوات وأهداف الطرفين فلنرجع الى تعاطي الرئيس هادي معهما وهو سلوك غير اعتباطي انما محصلة لجهود ومعلومات دقيقة لأجهزة الأمن اليمنية، ففي حين رفض عروض طهران المغرية للملمة فضيحة خلية التجسس ورفض مقابلة مبعوث نجاد الى صنعاء كما رفض مقابلة نجاد ذاته في نيويورك، نراه يشيد بعمق الروابط الأخوية بين اليمنوتركيا بل يؤكد أنها علاقة حميمية نسجتها وشائج القربى وهذا حديثه لدى استقباله أوغلو في صنعاء. أحياناً قد يمارس الطرف الفاشل أو وكلاؤه عملية النيل من نجاح الطرف الذي يعتقد مناوءته له عن طريق إلصاق أسباب فشله بمناوئه وهو ما يفسر لنا في الحالة التركية الإيرانية في اليمن الهجمة الإعلامية الشرسة على تركيا بحجة تهريبها أسلحة إلى اليمن الأمر الذي يذكرنا بالمثل العربي الشهير “رمتني بدائها وانسلت”. ابعاد متعددة يمثل التموضع الجغرافي لليمن في ركن بحر العرب من جهة والبحر الأحمر من الأخرى حلقة وصل لآسيا بأفريقيا ويهيمن على أهم ممرات التجارة العالمية مصدر قلق للعالم اذا ما انفرط عقده باتجاه الفوضى. وهنا يفرض السياق العام للدور البارز الذي تلعبه تركيا على مستوى الشرق الأوسط والثقة المتنامية التي تحظى بها في الشرق أو الغرب مزيداً من التحرك المفضي الى استقرار الحالة اليمنية التي سيمثل نجاحها المسنود بإرادة محلية وإقليمية ودولية عاملاً مساعداً على إنجاز استقرار مماثل في القرن الأفريقي الذي يعتبر أحد مربعات التحرك التركي المتنامية فخلال العام الحالي افتتحت أنقرة فيه أكثر من 15 سفارة وقنصلية وذراعها التنموية وكالة تيكا التابعة لرئاسة الوزراء دشنت عملها التنموي في القرن الأفريقي واليمن. أعتقد أن العالم اليوم يثق بشكل أكبر في أنقرة كأحد أدوات الاستقرار الهامة في الشرق الأوسط كون أدائها يستند الى عمق تأريخي وثقافي وارتياح رسمي وشعبي يتسع في المنطقة يوماً بعد آخر ويتحلى بمسئولية عالية تتجاوز الانتماءات العرقية والطائفية والدينية الى الاعتبار الانساني المجرد. لقد أبهرت أنقرة العالم وهي تقف الى جوار الإنسان بشكل مجرد دون التفات لعرقه أو دينه أو لونه أو حتى سلوكه.. تعمل على فك الحصار عن غزة ولا تتوقف عن إطفاء حرائق جبل الكرمل التي بثت الرعب لدى الإنسان “الإسرائيلي” مع أن كيانه للتو كان يلغ في دم الإنسان التركي على متن مرمرة الزرقاء دون حق، ويوم ساعدت مسلمي بورما لم تنس فقراء البوذيين الذين يتم التنكيل بالمسلمين على يد متطرفيهم. تدرك تركيا ويدرك الغرب مكاسب أنقرة من استقرار المنطقة وحاجتها الاقتصادية للسوق الشرقية التي أنقذتها من غول الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالغرب وهو أمر لا يخفيه ساسة أنقره بل أعلنه وزير مالية تركيا الشهر الماضي ويتعايش معه الغرب كحكومات عاقلة تدرك حاجتها الملحة للاقتصاد التركي المتصاعد ومدى فداحة أن يلعب الدور التركي في المنطقة آخرين لا يتمتعون بنقاء ساسة أنقرة الخالية رؤوسهم من العقد الأيدلوجية والنفسية التي أفرزتها التصورات المحرفة للعقائد السماوية. الغرب العاقل الذي يدرك تحدياته الاقتصادية غير مستعد للعمل كرجل اطفاء لحرائق اللا أسوياء في الشرق بما فيهم الحمل المدلل اسرائيل التي أيقنت بمركزية الدور التركي الموثوق به غرباً وشرقاً ففي 23 نوفمبر كان كبار المحللين الأمريكيين في نيويورك تايمز يدعون تركيا للعودة الى دورها التقليدي في الصراع العربي الاسرائيلي مؤكدين ان هذا الدور اكثر فاعلية من دعم طرف والتشاجر مع الطرف الآخر وفي 25 نوفمبر بالفعل كانت اسرائيل وفقاً ليدعوت أحرنوت ترضخ لذلك وتبحث مع تركيا في جنيف صيغة للخروج من الأزمة التي خلفها غرور القوة الاسرائيلية يوم الهجوم على مرمرة ولو تم ذلك فستكبح أنقرة بقوة تصرفات تل أبيب اللا مسئولة خلال الفترة القادمة. عين على اليمن وأخرى على القرن الأفريقي أعتقد أن النجاح التركي المسنود بتوافق اقليمي ودولي في اليمن ربما سيفضي الى توافق مماثل له في الصومال التي كان أوغلو منتصف نوفمبر يتعهد من عاصمتها بأن أنقرة لن تترك الصومال بمفرده في الظروف الصعبة التي يمر بها وسيمثل في حال وقوعه انجازا عالمياً يحسب لأنقرة من ناحية مشاركتها في مساعدة هذه الدول المطلة على أهم ممرات التجارة العالمية على الاستقرار وبالتالي حفظ أمن طرق التجارة العالمية من أعمال القرصنة من جهة ومخططات الجماعات الإرهابية التي حاولت في اليمن السيطرة على محافظة أبين وخططت للتوسع باتجاه المياه الإقليمية. ارتياح دولي وتذمر لوبي متعدد هذا التحرك التركي يقابل بارتياح دولي كما يقابل بتذمر لوبي عالمي يمتد في كثير من بلدان العالم وينحدر زعماؤه من مختلف الأديان والأعراق ويقبضون من خلال مناخ اللا استقرار في هذه المناطق وغيرها عوائد الثروات المبعثرة للشعوب التي لم تمكنها الصراعات من بناء الدولة القادرة على إدارة خير أرضها لصالح شعبها. هذا اللوبي يلتقي في طابعه العام مع أمزجة مختلفة منها المزاج العام الذي شُحنت به رؤوس بعض التيارات الاسلامية السنية أو الشيعية التي تجنح باتجاه العنف في تسويق مشاريعها السياسية. كما يلتقي هذا اللوبي مع المزاج الصهيوني التائق لرؤية هذه الشعوب في حالة من التخلف تمكنه من بناء الصورة التي يرغب أن يرسمها لدى الغرب عن المسلمين كجماعات متوحشة تتوق الى الجنة من خلال الدمار والقتل وغير مؤهلة للتعايش معها على خلاف الديمقراطية القائمة في اسرائيل التي تعتبر إحدى الأدوات الكبيرة لهذا اللوبي الذي يخسر أدواته في الغرب ويطوقه الربيع العربي في الشرق بعمل جاد لبناء دول مستقرة وفاعلة في المنظومة العالمية. انتقام أعتقد أننا سنشهد محاولات انتقامية من الدور التركي الماضي في اتجاه استقرار المنطقة من خلال اتجاهات متعددة منها المحاولات المستميتة لإفشال التحركات التركية وربما تنامي العمليات الارهابية في تركيا عبر أدوات هذا التيار الذي حكم تركيا من خلال بعض أبنائها لقرون وكاد أن يدمرها ويفككها و من خلال نظام الاسد في سوريا كأحد قلاع هذا التيار المشارفة على الانهيار و من خلال افتعال أزمة في مصر الثورة التي تراهن تركيا ودول العالم عليها في لعب دور بارز في استقرار المنطقة ومن خلال الأدوات الاعلامية التي تشوه الصورة النقية للدور التركي وتحرفه عن سياقه الرئيسي كدور إنساني تنموي قائم على أدوات الدبلوماسية الحديثة إلى دور سيئ قائم على أساس تصدير العنف. ستفرمل أنقرة بعض هذه الاتجاهات بمساندة المجتمع الدولي المحتاج لتنامي الدور التركي في المنطقة وسيبقى بعضها أشبه بظاهرة كلامية لا تأثير لها في القرار الرسمي. أخيراً لا أعتقد وجود أي رغبة لدى تركيا في استعداء أي طرف يمني فهي أكبر من هكذا تصرفاً فضلاً عن كون الثقة العالمية في أدائها تحتم عليها ذلك، ودائماً ما يؤكد سفيرها في صنعاء وقوف بلاده على مسافة واحدة من اليمنيين بمختلف انتماءاتهم، ويوم افتتح وزير خارجيتها مكتب تيكا المسئولة عن تمويل برامج التنمية في اليمن كان يوجه منسق الوكالة في صنعاء بتلمس احتياجات كافة اليمنيين في مختلف مناطق اليمن ويسمي محافظة صعدة بالاسم ضمن المناطق التي يجب تلمس احتياجاتها وهو أمر ينبغي على مختلف الأطراف التعاطي معه بمسئولية عالية والنظر للدور التركي في اليمن كما هو على الأرض في سياق الإجماع المحلي والإقليمي والدولي بضرورة استقرار اليمن لا كما تمليه المصالح والحسابات الضيقة.