من أمثلة الحكمة الحضرمية ذلك القائل: (قد قٌلت لك يا الجَرَد لا تأكل العُرِّي.. والحقيقة أن العراري تأكل الجردان). الجرد هو الفأر، والعُرِّي هو ذكر القط، والمعنى المُبطن أن الفئران يمكنها أكل القط الشرس في أحوال استثنائية. قلنا بالأمس إن الحزب الشيوعي الصيني استطاع هزيمة جيش حزب “الكومنتانج” الحاكم، عبر اعتماد الثوار اليساريين على الفرق الصغيرة التي انتشرت في كل أرجاء الصين، واستطاعت إسقاط جيش الكومنتانج الرسمي من خلال النهش في أطرافه، وإرباك استراتيجياته القائمة على الحرب النظامية، وصولاً إلى تقويضه. كتب زعيم الثوار في ذلك الحين “ماوتسي تونغ” 6 مقالات عسكرية استعاد فيها روحية كتاب “فن الحرب” للحكيم الصيني “صن تسو”، مُقرراً أن جيش الكومنتانغ الكبير لن ينهزم إلا بتوزيع المليشيات الصغيرة في مختلف أرجاء الصين، ومحاصرة ذلك الجيش عن طريق الاستنزاف، والنهش المتدرج لمقوماته المادية والعسكرية والنفسية، وهذا ما حصل بالضبط، فسقط الجيش العتيد أمام المليشيات التي توفَّر لها تأييدٌ شعبيٌ كان بمثابة الحاضن اللوجستي، والداعم المعنوي والمادي في استمرار الثوار على خط تقويض النظام السابق من خلال هزيمة آلته العسكرية. وفي فيتنام بدت عبقرة حروب الجماعات الصغيرة المقرونة بالعقيدة السياسية والدعم الشعبي ظاهرةً، حيث تمكَّنت الزعامة الروحية للقائد “هوشي منه” من تحقيق الالتحام بين الشعب وقيادته، كما ترجم الجنرال الفيتنامي العبقري “جياب” تلك العقيدة من خلال حروب العصابات التي أنهكت الوجود الأمريكي المُدجج بأحدث الأسلحة والمعدات. ما حدث ويحدث اليوم في سوريا يعيدنا إلى ذات المربع الذي يكشف كيف أن الفيل الضخم قد ينهزم أمام فيالق مرنة من الأسود القادرة على نهشه وتدويخه حتى يسقط من طوله. استراتيجية مقارعة المليشيات الصغيرة بالجيوش النظامية استراتيجية خائبة، ولا نريد هنا استعادة محنة حروب صعدة الست التي أثبتت أن الهدف النهائي منها كان توريط الجيش النظامي، وصولاً إلى هزيمته معنوياً وتهشيمه مادياً، لا تأديب “المتمردين” هناك، كما كنا نسمع في الخطاب الإعلامي المجلجل. مقطع القول أن سوريا الأسد راحلة لا محالة، وأن المُعطى العسكري على الأرض ليس إلا ترجماناً لحقيقة موضوعية تتأبَّى القوة الغاشمة على استيعابها. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك