المثقف إذا أراد أن يكون “صاحب الامتياز” في زمن “الشفاهية” قال حكماء العرب: “المرء مخبوء تحت لسانه” لأنه إذا ما تكلم كشف عن حقيقة شخصيته, أي عن نوعه الثقافي أو الإنساني أو الاجتماعي أو السياسي, ثم انتقل الإنسان إلى زمن “الكتابية” ليصبح المرء بالأحرى مخبوءً تحت قلمه, وحين جاء العصر الحديث وتنوعت وسائل الاتصال بظهور الصحافة والإذاعة ثم التلفاز أصبح المرء مخبوءاً تارة تحت قلمه وتارة أخرى تحت لسانه, وظل الأمر كذلك حتى ازددنا تعمقًا في التكنولوجيا وصار الحاسوب والإنترنت أداة اتصال منافِسة, فعندها أدركنا أن المرء في جزء كبير من وقته لم يعد مخبوءاً تحت لسانه أو قلمه, وإنما هو مخبوء تحت مفاتيح الكيبورد في حاسوبه!!, فهو لا بد أن يستعمل لوحة المفاتيح سواء في تغريداته عبر “التويتر” أو في نصوصه التي ينشرها عبر “الفيسبوك”, واستعماله لها معناه أن الإنسان المعاصر يُخرج مكنون نفسه الذي يكشف عن حقيقة هويته الثقافية. هذا ما يتعلق بالمرء عمومًا جاهلاً كان أو متعلمًا, قبليًا كان أو مدنيًا, لكن يبدو اليوم أن المثقف/ الفرد النخبوي له وضعه الخاص .. إنني أعتقد أن المثقف في زمن حرية التعبير لم يعد مخبوءاً تحت رأيه المكتوب أو المنطوق؟ كيف يمكن ذلك ونحن نعيش زمن المناورات السياسية والتكتيكات المرسومة لإدارة الصراع مع الرأي الآخر أو الأيديولوجية الأخرى؟ ألستم ترون أن الواحد منا لو نشر رأيًا له مكتوبًا أو منطوقًا, وكان هذا الرأي متعصبًا أو إلغائيًا أو إقصائيًا للآخر فإننا لن نقول: إن هذا المثقف/ صاحب الرأي قد كشف عن عورته, ولكننا نبادر إلى تسويغ ذلك المنطق بأنه “سياسة”, أو ما تقتضيه التحالفات. نحن إذن من نعطي للنخبة الحق بأن تتعامل بخطاب مأزوم يتسبب في تبديد أحلام الجماهير, مدَّعين بأن هذه النخب تمارس السياسة عبر هذا الخطاب, ولكنها تضمر ما هو إيجابي ويحمل الخير الكثير للجماهير, وهذا اعتقاد خاطئ يكرسه فينا وعي لاشعوري بأن النخب التي تقود الرأي معصومة عن الخطأ وأنها إن قالت ما هو ظاهريًا غير منطقي فإن حقيقتها لا تزال مخبوءة, ولا تفعل إلا ما هو منطقي وإيجابي. وهكذا يتضح أن رأي المثقف اليوم لم يعد بتلك الأهمية, ولم يعد هذا المثقف مخبوءاً تحت لسانه أو قلمه أو حتى تحت مفاتيح الحاسوب.. إنه في قناعاتنا الثقافية - كجماهير - لا يزال حِلاً من أمره ما لم يسلك سلوكًا يضر بمصلحة الوطن, وهذا يعني أنه مخبوء تحت أدائه ودرجة مهنيته في هذا الأداء, وهذا الأداء/ السلوك هو الذي يأتي ليؤكد خطأ اعتقادنا في كثير من الأحيان. ولتوضيح ذلك نأخذ نموذج الكاتب/ صانع الرأي الصحفي .. فهذا النموذج هو في الأساس فرد أو عنصر في منظومة النخبة, لكننا إذا ما قرأنا له رأيًا مشوبًا بثقافة أنانية إقصائية متعالية على الآخر فإننا نلتمس لهذا الرأي عذرًا, بترديدنا أن هذا الرأي من قبيل المناورة السياسية, لكن إذا ما أتيحت لهذا الكاتب فرصةٌ ليقوم بوظيفة مهنية كأن يؤسس لنفسه صحيفة مستقلة, ويتحول من درجة “صحفي” إلى درجة “صاحب الامتياز” فإن أداءه ودرجة مهنيته تصبح هي مقياس الحكم الذي يُؤخذ اليوم بعين الاعتبار لدى جمهور القراء, فالجمهور اليوم لم يعد يفحل بنوع ما يكتبه هذا المثقف, حتى وإن كتب رأيًا عقيمًا أو عدائيًا ينطلق من فكر مناطقي أو أقصائي أو إلغائي للآخر, فالمهم أن يكون أداء هذا الكاتب مهنيًا في عمله الصحفي, لاسيما إدارته لهذا العمل إذا ما كان في موقع “الناشر – رئيس التحرير”. مؤخرًا نشرت “الجمهورية” كاريكاتيرًا يرى صاحبه أن المثقف اليوم إذا أراد أن يستر عورته أنشأ لنفسه صحيفة, وأنا أرى أن هذا الرأي فيه من الوجاهة إذا كان صاحبه يقصد ستر العورة من الناحية المادية, فالصحيفة المستقلة تعد اليوم مشروعًا مدرًا للدخل وإن كان يحتاج إلى التضحية المتكررة والصمود والتركيز الكبير, أما إذا كان قصد الرسام أن الصحيفة تغطي عيوب صاحبها الثقافية والسياسية, فهذا في نظري لا وجاهة له لأن الأحداث والوقائع علمتنا أن المثقف إذا أراد أن يكشف عورته أنشأ لنفسه صحيفة, ذلك أن الأداء غير المهني عند بعضهم كشف عن أمراضهم الثقافية, وكنا قبل ذلك نفتتن بآرائهم الواقعية ونتعمق في تفسير آرائهم الأنانية بأنها آراء مناورة يختفي وراءها ما هو إيجابي ومؤمن بالآخر. ومن هذا المنطلق وأنا أشاهد أن جوائح الثقافة أصابت كثيرًا من النخب بأمراض حب التهام الآخر أو على الأقل إسكات صوته أو تهميشه, أنصح من يفكر بتأسيس صحيفة مستقلة أن يقلع عن هذا الطموح؛ لأن المثقف أو صاحب الرأي لا يزال معافى حتى يكون في موقع المسؤولية المهنية, فإذا ما وقع فيها اقتضت منه التحالفات والتعصبات والأمراض الثقافية أو حتى التوازنات أن يحيد عن طريق المهنية والموضوعية وحينئذٍ تنكشف عورته للجمهور, وإذا ما حدث ذلك تأكد بالفعل أن المثقف أو النخبوي في عالم اليوم لم يعد مخبوءاً تحت لسانه أو قلمه أو مفاتيح حاسوبه وإنما هو مخبوء بين صفحات جريدته, فإذا فتحها القارئ ليتصفحها انكشف معدن ذلك المثقف, فإما الإفلاس المهني وإما ثراء التجربة المهنية وأصالتها. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك