فيما بين القضاء و “نعيم المعيشة وبؤسها” علاقة ترابطية وطيدة وثابتة.. لماذا؟ لأن “النعيم والبؤس” هما من النواتج الطبيعية للقضاء، فمثلاً إذا كان القضاء عادلاً في إصدار أحكامه ومنفذاً لحدودها الشرعية على القوي والضعيف والغني والفقير .. حتماً سيسود نعيم المعيشة على بؤسها وستتآزر المجتمعات المسلمة بلحاف الخير والبركة والأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولن تكون هناك جرائم إلا ما ندر ولتعفف الجميع عن ارتكاب المحرمات والمفسدات المتلفة للجسد والروح.. ولسوف تكون المعاملات الإنسانية مستندة على القاعدة الشرعية “الحلال بيّن.. والحرام بيّن” وأما إذا كان القضاء فاسداً وغير عادل فإن المعيشة ستظل مبلية بالبؤس والضنك في كل شيء والتعاملات الإنسانية ستطغي عليها صفة “الرجعية” إلى عصر ما قبل ظهور الإسلام “العصر الجاهلي” والذي كان فيه القوي ينتصر على الضعيف حتى لو كان هذا الأخير على حق.. ومن هنا فإني لا أستطيع الجزم بأن قضاءنا قد وصل إلى هذا المستوى المتدني إلا أنه يعاني من بعض الاختلالات والتي جعلته ينحرف قليلاً عن مسار العدالة وتطبيق كافة حدود الأحكام الفقهية والشرعية للدين الإسلامي والصالحة في كل زمان ومكان، وهذا يعني بأن هناك أملاً كبيراً في قابلية القضاء للإصلاح.. خاصة أنه لا يزال يوجد فيه القضاة الشرفاء والذين لا يخافون في الله لومة لائم وينطقون بالعدل حتى إذا كان هذا النطق يشكل خطراً يهدد حياتهم وتراهم كثيراً ما يطالبون بإصلاح القضاء وتنظيفه من الشوائب المفسدة .. فمنهم رأى بأن استقلالية القضاء تكفي لإصلاحه وآخرون أيدوا هذا الرأي ولكنهم رأوا أنه لن يحقق الإصلاح الكامل للقضاء إلا إذا قامت الدولة بتحسين وضعهم المعيشي. المهم أن مطالبة قضاتنا الشرفاء بإصلاح القضاء تذكرني بما حدث في إحدى الدول الأوروبية والتي كان القضاء فيها يعاني من اختلالات أثرت سلبياً على الجوانب الحياتية بما فيها الجانب الأمني والاجتماعي، ونظراً لذلك ارتفعت أصوات القضاة الشرفاء تشكو من سوء حال القضاء وضعفه وتهميشه من قبل الحكومة ولقد لاقت هذه الشكوى ترحيباً واسعاً واستجابة فعلية من المواطنين والذين قاموا بتنظيم وقفات ومسيرات احتجاجية مؤيدة للقضاء ومطالبة الحكومة بالعمل على إصلاح القضاء فتجاوبت الحكومة مع هذه المطالب وشكلت لجنة قضائية لدراسة ومناقشة المشكلة والخروج بالحل النهائي لها، وبعد مناقشات جادة توصلت اللجنة إلى حل مشكلة إصلاح القضاء والذي تضمن عدداً من الإجراءات، منها أن تقوم الحكومة بشراء العدالة من قضاتها وعن طريق منح كل واحد منهم دفتر شيكات مفتوحة وذلك حتى يكونوا عادلين في إصدار أحكامهم ولا يبيعون ذممهم ولا يرتشون أبداً وجعل السلك القضائي كياناً مستقلاً بذاته ويمتلك صلاحيات قوية ونافذة لردع تدخلات الآخرين في الضغط على القضاء لتغيير أحكامه القضائية أو التخفيف منها وأحقيته بالمطالبة في معاقبة كل من يمارس مثل هذه التدخلات.. فما كان على حكومة تلك الدولة الأوروبية سوى قبول هذا الحل والموافقة على تنفيذ تجربته فوراً وبدون قيد أو شرط وكانت النتيجة هي أن التجربة حققت فيما بعد نجاحاً كبيراً في إصلاح القضاء والذي ترافقت معه إصلاحات لكافة مناحي الحياة الإنسانية في هذا البلد الأوروبي.. وأخيراً أعتقد أن إصلاح القضاء في بلادنا بحاجة إلى تطبيق محتوى التجربة آنفة الذكر .. «ربما». رابط المقال على الفيس بوك