حينما تنظر للصحف اليمنية، يخيل إليك من زحمتها وكثرتها أنّك في شوارع نيويورك أو لندن، حيث تتباهي تلك المدن العريقة بصحافتها الرائدة، وحراكها الصحفي والإعلامي، الذي يغيّر ويفعلُ الأفاعيل في الرأي العام، صياغة وتحريكاً وتفعيلاً، وربما صداماً وفق مواثيق شرف يمتهن كل من الصحفي والإعلامي عملهما وفق أدبياتها وتحت مظلتها، أما في اليمن فالأمر لا يعدو كونه تراكم صحف، وخواء مضمون بل تشويه لمعنى الصحافة ورسالتها التي من أجلها أنشئت. قلة قليلة، هي الصحف التي استطاعت، أن تؤمن لنفسها استقلالاً مادياً بالمعنى الصحيح. في كتابه “مدخل إلى السياسة”، يذكر “موريس دو فرجيه”، ثلاثاً..ثلاثاً فقط: «التايمز»، «لوموند»، و«النيويورك تايمز».. وقد علّق بعضهم على هذا القول: “إن ما يعوض بعض الشيء عن هذه الاساءة الدائمة للحرية.. وعن استغلالها أيضاً من قبل قوى المال، في عالم الغرب هي هذه الكثرة في وسائل الإعلام. فلا احتكار من هذا القبيل، يحرم الفرد، والرأي العام، من حقه في الاختيار.. من القدرة الذاتية على اكتشاف الحقيقة.. ولا تدخّل من قبل السلطة والدولة”. كثرة الصحف في بلد ما، قد يدلُّ على أن هذا البلد بلغ مستوى أرقى من المعرفة والثقافة، ودرجات عالية في القراءة والإطلاع، قد يكون ذلك صحيحاً في البلدان المتقدمة والمتحضرة، أما في بلدان الوطن العربي والإسلامي فالأمر لا يعدو أن يوسم بالفوضى والتشتيت المتعمد للرأي العام، حتى تضيع الحقيقة ويستمر التخبط، وبالتالي ينشط النزاع السياسي إلى حد الصدام والتهديم لكل إنجاز أو إعجاز!! وتبع لذلك، تكثر الأكاذيب والتلفيقات، والدجل الإعلامي، وغياب المهنية والصدقية في العمل الصحفي، فالخبر الذي تسمعه اليوم ستكذبه غداً، وربما في نفس اليوم، فهذا صحفي يزعم ويدعي أن خبره من “مصادر مطلعة”، أو “مصادر مقربة”، أو “مصدر مسؤول رفض الكشف عن اسمه”؛ كعذر للتنصل عن المسؤولية، ولكنه قبيح بحجم الكذب الذي ينتج عنه، ومن المعيب جداً أن توزع الشتائم والاتهامات يميناً وشمالاً بغير دليل ولا رقيب ولا حساب، وتطل الصحف يومياً وأسبوعياً بكم هائل من التلفيقات والافتراءات التي تدعم الفوضى والقلق والتهويل من الأحداث وخدمة أطراف أقل ما يقال عن هكذا تعامل، إنه بعيد كل البعد عن الرسالة الحقيقية للصحافة. وهنا يأتي الدور المُلِح والمهم على عاتق المؤسسات الإعلامية سواء كانت رسمية أم نقابية، أم مراكز توجيه وإرشاد إعلامي في تفعيل دور القيم والمواثيق الصحفية، والتأسيس لعمل صحفي حر، بعيد عن الاستغلال والابتزاز والدجل والأغلوطات، وفي تفعيل أساسيات المهنة الصحفية القائمة على قيم الصدق والشفافية والنزاهة والنقل المجرد عن النزعات الشيطانية التي لا يستمر حبلها طويلاً، فسرعان ما ينكشف زيفه وكذبه، وللصحفيين في تاريخ الصحف العملاقة قصص شتى من المواقف والمشاهد التي وقعت فيها هيئات تحريرها هي مطبات في عملها منها ما دمرها ومستقبلها الصحفي ومنها ما هز الثقة العميقة التي وضعها القراء فيها كمؤسسات رائدة للصحافة. العجيب في الصحافة الحزبية وما يسمى ب “المستقلة”، أغلبها تمتهن الكذب والتلفيق وتدعي الصدقية والحقيقة في نفس الوقت، ثم تأتي الأحداث لتثبت وتكشف زيف هذه الدعوة المفتراه، فليتهم اعتذروا عن الخطأ والكذب وليتهم تراجعوا وعملوا تحقيقاً عن سبب المصادر الكاذبة التي تُستقى منها، وليتهم حسّنوا من الصورة القاتمة والموحشة ليس شيئاً من ذلك يحصل وهذه هي السفسطة بعينها. في اليمن الآن سيل م ن الصحف والمواقع، بالرغم من أن مستوى التعليم والمعرفة والقراءة والإطلاع متدنٍ، مستوى الدخل ضعيف، لكن في المقابل مستوى الصراع السياسي على أشده، الكل يصرف ويمول والمطابع تطبع. لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار كثرة عدد الصحف والمجلات والمطبوعات الصادرة مقياساً أو دليلاً على وجود حرية الصحافة. رابط المقال على الفيس بوك