يستهل الاستاذ مجدي كامل فصله الأول من كتابه القيم سقراط رحلة يبحث عن الحقيقة قائلاً لم يعرف التاريخ فيلسوفاً ملأ الدنيا صخباً وضجيجاً حتى يومنا هذا كما الفيلسوف اليوناني الأشهر سقراط(69 399) قبل الميلاد. فقد استطاع هذا الفيلسوف من حفر اسمه في سجل العظماء بحروف من ذهب ليس لكونه فيلسوفاً فحلاً، وإنما باعتبار أول من نزل إلى الشارع بفلسفته رافضاً أن تبقى أفكاره مجرد أطروحات نظرية، فأخضعها للتجربة العلمية. فكانت حياته وآراؤه وطريقة موته الشجاعة ،أحد أشهر الشخصيات التي نالت الإعجاب في التاريخ كرجل صرف حياته تماماً للبحث عن الحقيقة والخير، فدفع حياته ثمناً لأفكاره فلُقب بأول شهداء حرية الفكر بالتاريخ.. والغريب في أمر هذا الفيلسوف ، أن شهرته لم تأت من خلال ما خلفه من مخطوطاته أو كتبه فلم يترك أي أثر مكتوب، وإنما كان قد اشتهر وعرف من خلال خصومه أمثال المؤلف المسرحي الشهير(أرستوفانيس) في (مسرحيته) (السُحب) فصُوّر كشخص مثير للسخرية أو كسفسطائي خطير، أو من خلال أتباعه أمثال (سينوفانس، وأفلاطون وأرسطو) الذين صوروه كموقظ استثنائي للنفوس وللضمائر وقد عرفنا من أن سقراط قد ولد في أثينا من أب نحات وأم قابلة أي “مولّدة” فمارس بداية حياته مهنة والده برفقة زوجته التي لا تطاق، إلى أن جاءت كاهنة الهيكل لإخبار أحد أصدقائه من أن سقراط: هو أكثر البشر حكمة، الأمر الذي بدا في بداية أمره مشككاً بذلك الأمر، فاندفع يتلمس أبعاد تلك الكلمات والأخبار التي حددت مسار حياته. ويتفق أفلاطون وأكسانوف في سردهما ووصفهما لسيرة حياته وعاداته وأخلاقه، من أنه كان يقنع بثوب رثٍ بسيط يلبسه طيلة عام كامل، ويفضل السير حافياً بدون الأحذية والأخفاف.. حيث تحرر من داء التملك الوبيل، لحدٍ لا يصدق فكان يشعر بالغنى في فقره المدقع. وكان مضرب الأمثال في الاعتدال وضبط النفس، في حين كان أبعد الناس عن حياة القديسين. فلم يكن ناسكاً يعتزل الناس ، بل كان يحب مرافقة طيبة الناس.. وخلاصة القول: إنه كان رجلاً محظوظاً يعيش من غير كدِّ ويقرأ من غير ان يكتب.. وبلغ من عدالته إنه لم يفضل في وقت من الأوقات اللذة عن الفضيلة وبلغ من حكمته أنه لم يخطئ قط في تمييز الخبيث من الطيب. وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى نفسه ببساطة خلابة فقال إنه كان بحق أعقل وأعدل، وأحسن من عرفت من الناس في حياتي كلها فقد بدأ مسيرته متلمساً طريقه من خلال مواطنيه محاولاً استكشاف مكامن تفوقه المفترض ذلك المسار الذي أوصله إلى تلك النتيجة التي مفادها أن كل ما أعرفه، هو أني لا أعرف شيئاً بينما يعتقد الآخرون أنهم يعرفون ما لا يعلمون. تلك الحقيقة التي جعلت من فكره الثاقب أمراً مزعجاً، حينما يقارن بالامتثالية الفكرية للكثير من معاصريه، فقد كانت نقاشاته الطويلة تلقى اهتماماً كبيراً من قبل الشبيبة، مما أثار قلق أولياء الأمور الذين سرعان ما اتهموه بالإلحاد والتجديف وإفساد أبنائهم وهي التهم التي أدت إلى محاكمته الشهيرة والحكم عليه بالإعدام. وكانت فلسفة سقراط أولاً وقبل كل شيء إجابة عن طروحات فيلسوف معاصرٍ له اسمه ( أنا كساغوراسي الذي كان يعتقد بأن فطنة الإنسان إنما تعود فقط لامتلاكه يدين (أدوات عمل)..أما سقراط فقد كان يعتقد بأن فطنة الكائن البشري إنما تعود علتها إلى تلك الروح العاقلة القوامة على الجسد. و انطلاقاً من هذه القناعة وهذا الاعتقاد انبثقت العديد من تعاليمه القائلة: إن كانت نفس الإنسان ذات أصل إلهي (ونشير هنا إلى أن سقراط، خلافاً للمعتقدات السائدة لم يكن يعتقد بأن الآلهة تعاني من انفعالات بشرية) فإنه يصيب بوسعنا قبول ذلك المفهوم الداعي إلى ضرورة تفهم أفضل للنفس، أي اعرف نفسك(العبارة المنحوتة على واجهة هيكل دلفس التي اتخذها سقراط شعاراً: حياة لا يفحص عنها لا تستحق أن تعاش)لأن أكثر ما يشدّد العزيمة حينما يتعلق الأمر بفناء الجسد، هو الإيمان بخلود الروح. وتبدأ المعرفة بحسب سقراط بالتطهر عن طريق التخلص من الأفكار المسبقة بإظهار بطلانها، لتظهر مختلفة الخصال الحميدة(كالاعتدال والعدالة)الخ. تلك التي إن أحسن المرء استعمالها تتحول إلى فضائل، إذ لا شرير باختياره وإنما بسبب الجهل. فلقد صرف سقراط حياته تماماً للبحث عن الحقيقة والخير فلم يترك أي مؤلفات فقد عرفت معظم المعلومات عن حياته، وتعاليمه من تلميذيه المؤرخ رينوفون، والفيلسوف أفلاطون إضافة إلى ما كتبه عنه ( أريسطو فانيس) وأرسطو ويروى عن سقراط من أنه لم يكن سعيداً مع زوجته (زانثب) وأنها كانت حادة الطباع يصعب العيش معها، ففي أحد الأيام بينما كان يختلي بنفسه في ركن غرفته هادئاً متأملاً ومتفكراً في كيفية نزول الفلسفة من السماء إلى الأرض، أو من حكمة الآلهة إلى عقول الرجال كانت زوجته مشغولة منهمكة بتدبير شئون المنزل وإعداده ، فلاحظت أن زوجها غير مكترث بشقائها ، ومشغول عنها بتأملاته التي كانت تراها (فارغة) صرخت به: ألا تخجل أيها الرجل العاطل من نفسك؟؟ فكيف تتركني وحدي أتحمل كل هذا العناء دون أن تنهض من مكانك المقيت لتمد إليّ يد العون والمساعدة؟ فأجابها بهدوئه المعتاد: لقد كنت أفكر.. فمما لا ريب فيه أن امرأة بذلك الزمن الموغل بالقدم، ونظرة الرجل والمجتمع بوجه عام معروفة وأنها أي المرأة في وضع متدنٍ علاوة إلى أنها لم تؤت قدرة التفكير الذي أوتي لفيلسوف كسقراط.. وهنا تأتي ضرورة التكافؤ عند الاقتران بين الزوجين وهو الأمر الذي لم يحسم في شرقنا العربي حتى يومنا ، فما بالنا وسقراط وزوجته يعيشان قبل ميلاد السيد المسيح.. فسقراط كان يتصور من أن رسالته نشر الفضيلة والأخلاق وتعليم عامة الناس بالشوارع والأسواق والملاعب.. وعن الحكام فإنه كان يرى أن يكونوا من أولئك الرجال الذين يعرفون كيف يحكمون وليس بالضرورة أولئك الذين يتم انتخابهم.. وكان يؤمن من أن الأسلوب السليم لاكتشاف خصائص أي شخص هي الطريقة الاستقرائية المسماة بالجدلية، أي مناقشة الحقائق الخاصة للوصول إلى فكرة عامة.. رابط المقال على الفيس بوك