عبدالله كرمون أشاد جان مونتينو، في مفتتح الملف الذي خصت به المجلة الفرنسية Lire، سقراط (399_469 قبل ميلاد المسيح؟)، في عددها 380 لشهر نوفمبر/تشرين الأول، بأن هذا الأخير هو أب الفلسفة، وإن لم يكتب فيها سطرا واحدا. يبدأ بالتساؤل الجدير بنا طرحه: ما الذي نعرفه عن سقراط؟ نحن لا نعرف عنه أي شيء تقريبا، ماعدا أنه كان مواطنا أثينيا غريب الأطوار، ولم يغادر مدينته أبدا، حتى حوكم عليه بالإعدام، بتهمة تأثيره الفاسد والسيئ على مواطنيه، في الوقت الذي بلغ فيه سن السبعين. وللتعرف على حياته، مثله مثل كل كتاب القدم، لابد من الرجوع إلى المصادر التي ذكرت سيرته، والتي تم الطعن فيها، وانتقادها من طرف جهابذة كل عصر. يتم التفكير في الوهلة الأولى، من بين تلك المصادر، في صورة الفيلسوف العظيم الذي تربع على عرش حوارات أفلاطون، التي تسمى عادة "سقراطية"، بالرغم من أن الحوار السقراطي كان نوعا أدبيا منتشرا إذ ذاك. وليس حصيفا اعتبار أن أفلاطون سعى فيها إلى حفظ ميراث الأب. لقد أهمل النقد الحديث كثيرا شهادة المؤرخ كزينوفون، بذريعة أنه كان حاضرا في بعض الحوارات السقراطية. لأنه كان تلميذا معاصرا لسقراط. ولربما يعود الأمر في ذلك خاصة إلى ما عرف عنه من سذاجة. ومن الذين عرفوا سقراط في مراحل نضجه لا يفوتنا ذكر أريسطوفان (حوالي445/450 _385 قبل ولادة المسيح). وقد قدمه على أنه شخص كوميدي، في كاريكاتير هزلي، كنوع من السفسطائي ذي هيأة مضحكة، يقدم أجوبة عن بعض الأسئلة الغريبة والتافهة. وتنضاف إلى هذه المصادر المباشرة شهادة أرسطو (384_322 قبل ولادة المسيح)، الذي لم يلتق في الواقع بسقراط، ولكنه أعطى تدقيقات كثيرة حول تفكيره الخاص مما ساعد جيدا على التفريق بينه وبين تفكير أفلاطون، الذي كان أحد أساتذة أرسطو ومن مريدي سقراط. عمد هؤلاء الحواريون الأربعة إلى تقديم صورة، يحدد فيها كل واحد، في تنافر في الغالب، بين معطيات الآخرين، شخصية المسمى بسقراط. ألم يقل عنه كيركجارد بأنه الشخص الوحيد الذي لم ينغلق في نسق معين؟ نعلم أنه ولد في أثينا حوالي 469 قبل ميلاد المسيح، إبان نهاية الحروب الميدية التي مكنت أثينا من وضع حد لمحاولات الفرس للهيمنة على حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد اعتبرت تلك الفترة، تحديدا، من أكثرها ازدهارا بالنسبة للتاريخ الإنساني، حيث شهدت أثينا تجمعا كبيرا للمبدعين الكبار. انحدر سقراط إذن من ضاحية ألوبيس الذي كانت أيضا مسقط رأس كثير من مشاهير عصره، أمثال كل من أريستيد، رجل الدولة المعروف، والذي تزوج سقراط ابنته ميرتو كما ذكرت بعض المصادر، وكذا كريتون صديقه الدائم، والذي اقترح عليه أن يتكفل بمسألة فراره عشية تنفيذ حكم إعدامه. كما عاش فيها سقراط أيضا مع زوجته كزانتيب (التي عرف عنها أنها كانت شرسة الطباع، وكان سقراط يتحملها، ويقول أنه تزوج بها كي يرى إن كان يستطيع بالفعل تحملها، لأن ذلك، إن اتفق أن حدث، كفيل بأن تكون علاقاته طيبة وحسنة مع باقي الناس). يدل هذا إذن على أنه نشأ وترعرع في الضاحية الجنوب شرقية لسور أثينا. وقد وصف لنا أفلاطون مثله مثل كزينوفون كون سقراط كان فقيرا، وكان والده نحاتا أو قاطع أحجار. في حين أن تكوينه الثقافي قد أثار نقاشا مادام لم يتم فصله عن مجموع التفاسير التي وضعت لفكره. يرى نيتشه، أحد العارفين الجيدين بكل ما يمت بصلة إلى سقراط، بأن هذا الأخير، يتميز عن كل الفلاسفة الذين سبقوه، بأنه ينحدر من عامة الشعب وبأن تكوينه الثقافي لم يكن ذا شأن. على أن نيتشه، كما يلمح مونتينو بذلك، قد وصف سقراط كما يراه هو وليس كما كان عليه حاله. لأننا لا يمكن تخيل عصامي مثله، يتطرق إلى مختلف فروع العلم، خاصة وأن أثينا عصره كانت تعج بمختلف الشخصيات الذكية، من فنانين وشعراء وغيرهم. لقد تضاربت الأراء حول تتلمذه على يد فلان أو فلان، إذ أخذ الكثيرون هزل بعض حوارات أفلاطون مأخذ الجد. مثلما قال آخرون بأنه كان متتبعا لمباحث هيراقليطس، عن طريق تعاليم كراتيل. ويبدو، مع ذلك، أن تأثير ذلك عليه كان محدودا جدا. من الواضح أنه كان من أشد خصوم معلمي السفسطائية الكبار في أثينا، بالرغم من الإدعاء الذي جعل منه تلميذا لهيبياس الإليسي، الذي قيل عنه بأنه يتمتع بمعرفة موسوعية هائلة، وتلميذا لبروديكوس السيوسي اللغوي غزير الإنتاج. تختلف المصادر بالخصوص كثيرا حول هذه النقطة بالذات، إذ جعل أفلاطون وكزينوفون من سقراط الخصم الكبير للسفسطائية، في الوقت الذي قدمه أريسطوفان في ملهاته بأنه سفسطائي مثل الآخرين. لقد تم إهمال شهادة هذا الأخير طويلا، بالرغم من أنها الوحيدة التي كتبت في الوقت الذي ما يزال فيه سقراط على قيد الحياة. إذا كان أفلاطون وكزينوفون قد اعتبرا سقراط بأنه كان رجلا متدينا فإن أريسطوفان وصفه بأنه كان رجلا ملحدا. يؤخذ سقراط، كثيرا، على أنه من أحدث انعطافة في الفلسفة اليونانية، حاسما مع اهتمامات سابقيه، المتركزة أساسا في فهم الطبيعة وكيفية تركيب العالم، موجها إياها خاصة نحو سؤال الأخلاق ومعرفة الذات. لذلك قيل بتلمذته على أساتذة كثر. ومن ضمنهم ذكر أفلاطون كيف أن لامرأتين تأثير كبير على سقراط الشاب، خاصة منهما أسبازيه الميلية، والتي اشتهرت بكونها متحررة بالمقارنة مع ما كانت عليه نساء عصرها. غير أن من المتواتر عن سقراط أنه كان يدعي كونه أقل علما وحكمة. لكن سعيه نحو سد ثغرات جهله المفترى لا يتوقف. ما جعل منه، في خضم المعارف الكثيرة الرائجة حوله، "صانع فلسفته بنفسه". عرف عن سقراط أيضا بأنه كان مواطنا صالحا قد أدى بالتمام والكمال كل واجباته الوطنية. وشارك في المعارك بشجاعة ونبل. روي عنه أنه كان شديد التحمل ويرجع له الفضل في إنقاذ حياتَيْ صاحبيه ألسيبياد وكزينوفون على التوالي في معركتي بوتيدي ( 432 ق.م) وديليون (424 ق.م). وكان يعف، دائما حسب ما جاء لدى أفلاطون، عن المكافآت الحربية وينبو عن مخالفة الصواب. ولعل نجاحه في خلق هذه الصورة التي يغبط عليها هو ما جر عليه المتاعب التي سوف تعصف بحياته كما يعلم الجميع بذلك. اتهم الرجل بالإلحاد وبمحاولة إفساد عقول الشباب. بالرغم من أنه فند ما جاء به المدعين، وحاول رد التهمة عنه، وإن لم يستطع ذلك، خاصة بعدما أجري انتخابين، حسب التشريع الأثيني، الأول لتأكيد التهمة والثاني لتحديد نوعية العقاب اللازم إلحاقه بالرجل. سخر سقراط، من خلال مرافعته، من التهمة الملحقة به، وذكّر محاكميه بأنه من الحري بهم مكافأته على ما أسدى من خدمات للوطن، عوض التكالب عليه. لكن ذلك لم يُجْد، ولم يمنع القضاة الثمانين الذين أنصفوه أثناء الاقتراع الأول، من الانضمام إلى صفوف الأعداء. وحق له، على الأقل، أن يختار موته متناولا السم، ما ليس مؤلما ولا شائنا مقارنة مع دحرجته من عل شاهق أو صلبه على خشبة. نجد عند أفلاطون وصفا لهذه اللحظات الأخيرة في حياة سقراط. إذ انفرد قليلا بزوجته ثم التحق بأصدقائه وتلاميذه كي يحدثهم عن مسألة خلود الروح. لكن ألم ينتحر سقراط؟ أو على الأقل، بغض النظر عن شرب السم، القريب نوعا إلى سلوك انتحاري، فقد تم الارتياب من كونه قد رغب بنفسه في الموت. سواء لما أحجم عن الفرار إلى مدينة أخرى، وقد توفرت له الظروف، حتى تتحسن الأمور، ثم كذلك في مغالاته في التهكم أثناء مرافعته. ألم يقل أناغزاغور من قبله وأرسطو من بعده ببؤس الخضوع "لعدالة الإنسان"؟! كتب نيتشه، وكأنه متيقن من الأمر: "لم تقتل أثينا سقراط ولكنه هو الذي حثها على سقيه الزعاف". وبعد موت سقراط، هب كثيرون للحديث فعلا وعملا عن أبوته لهم، مثلما كان له نفسه آباء روحين كثيرين. سعى الكبار من هؤلاء إلى تنقية ساح ما أُطلق عليه مذ ذاك اسم الفلسفة. ولما ليست هناك كتب فلسفية موقعة باسم سقراط، فهناك سؤال يطرح نفسه أو يطرحه مونتينيو: هل يمكن الحديث عن فلسفة سقراطية؟ يوضح أفلاطون أن سقراط لم يكتب لأنه لا يرى في الكتابة قيدا للعلم كما يقال، بل تحريضا على الاستكانة إلى السهولة التي توفرها، ثم نسيان القول الأهم: الكتابة بالنسبة إليه ليست تدرأ النسيان. ألح كثير من الفلاسفة بعده على الاستحواذ بمقام ورثته. لكن هل سقراط، إذن، حكيم بلا نسق، معلم بدون أتباع؟ نموذج الفيلسوف بدون فلسفة؟ قد يمكن التمييز في محاورات سقراط لأفلاطون بين وجهين للفيلسوف: المتسائل والمحق دائما ثم هناك الوجه الآخر للذي يفشي كونه لا يعرف شيئا. قال بأن فرق ما بينه وبين الآخرين هو أنه لا يمكنه أن يتخيل أنه يدرك ما يجهله. فهو لم يأت بفكرة وجود المُثل لأن ذلك، حسب أرسطو، من عمل أفلاطون. ومن العبث أيضا، حسب هذا الأخير دائما، نسبة التقمص وتناسخ الأرواح إليه. عني سقراط بالهم الأخلاقي بعيدا عن الطبيعيات. ذلك ما جعل أرسطو ينسب إليه ما يسمى بالبرهان الاستقرائي. لأن الأمر يتعلق فيه بجعل النظرة الفلسفية تحيط بما هو أساسي. يشير أفلاطون مقدما كون سقراط رجل مبادئ؛ المبادئ التي ليس من اليسر تلقينها للناس، إلى قوله: لا يلزم عدم حسن التصرف ولو مع الخصوم. وفي هذا الصدد واجه صديقه كريتون، الذي دعاه إلى الفرار، بقوله لا يليق مجابهة الظلم بظلم آخر! لكن ماذا لو كانت الفلسفة، بهذا المعنى، فن الاتصال بالأرواح؟ أو هل كان سقراط ساحرا؟ على كل فقد عرف عنه، بشكل ملتبس، اتصاله المبهم بعالم الأرواح معالجا ومتنبئا عن وقائع مستقبلية. يقول أنه يرى، باستمرار، فيما يرى النائم، طيلة حياته حلما يدعوه فيه صوت إلى تعهد الملهمات. ما يفسره بأنه تحريض على ممارسة الفلسفة. سرد تلميذه وصديقه ألسيبياد بأن أمور غريبة تحدث أحيانا لسقراط، مثل ما رواه أفلاطون على لسانه في "المأدبة"، إذ أزاح اللثام عن فيلسوف واقف طيلة النهار حتى الفجر يبحث مفكرا عن حل لأمر أشكل عليه. عاينه الناس وتساءلوا إن كان سيظل واقفا لزمن طويل. من هنا يستنكر مونتينو مرة أخرى بقوله: "ماذا لو كان ما نسميه الفلسفة هو مجرد ارتجاجات سقراط المختلة! على كل حال فقد طور سقراط فنه من خلال استعماله لعدة أدوات معرفية، سواء تعلق الأمر بالقولة المنسوبة إليه "اعرف نفسك بنفسك" والتي فند فرنسوا روستون صحة نسبتها إليه. كما يعتبر في الغالب مدخل السخرية إلى الخطاب الفلسفي ومولد الأفكار في أذهان الناس. أما مينون فقد نعته بأنه ساحر. ولم يأنف من تشبيهه بعد ذلك بسمك الطوربيد المفلطح والذي يشلل كل من يلمسه. لكن سقراط ينفي عنه ذلك، إلا بشرط أن يكون الطوربيد مخدَّرا قبل أن يخدر الذين يقتربون منه. ويشبه نفسه بحيوان يوقظ الناس وينعشهم ويحرضهم على الحفاظ على رباطة الجأش. يبقى القول بأن أتباع سقراط وتلاميذه كثيرون. كما ساهم الفكر السقراطي في ظهور تيارات يتم حصرها على العموم في أربعة من أهمها التيار الكلبي الذي يمثله ديوجين المعروف. كانوا يتصرفون بشكل أقرب إلى الطبيعة ويركزون على عنصر السخرية في خطابهم، خاصة وأنهم يهاجمون الأقوياء ويستمنون في قارعة الطريق. ثم هناك التيار السفسطائي ويمثله أعلام كبار أمثال الفلاسفة فيثاغورس، غورجياس، هيبياس، وبروديكوس وهم من أبرز السفسطائيين. يمكن أن نذكر أيضا التيار الذي يمثله أكثر كل من أقليدس وأبيليد، وقد طور الجدل السقراطي بالتفريق بين تقنيات الحجاج والسلوك الأخلاقي، وإن كان الأمران لا ينفكان لدى المعلم. إنها جولة سريعة في بعض محطات حياة وأفكار الفيلسوف، والتي لا تقدم سوى ما يشبه برقا خاطفا بالمقارنة مع غنى حياته وعمق رؤيته المرحة للعالم. كي لا ننسى الفلسفة. أليس كذلك؟