التكفير من الأمور الخطيرة سواء على المكفَّر أو المكفِر على حد سواء والتسرع في هذا الامر من الأمور الخطيرة، لذا راعيت أن أحيل الموضوع الى مفكر معروف للحديث حول أمر التكفير ورأي الاسلام فيه وهو الدكتور محمد عمارة المفكر الاسلامي المعروف صاحب تحقيقات كتب الشيخ المجدد المرحوم محمد عبده إلى جانب العديد من الكتب التي حفلت بها المكتبة العربية في الفكر الناضج .. معنى الكفر لما ثارت قضية الدكتور نصر حامد ابو زيد وتكفيره في عام 1995 والحكم عليه بالردة وتفريقه عن زوجه الدكتورة ابتهال يونس كتب الدكتور محمد عمارة أربع مقدمات لكتابه التفسير الماركسي للإسلام، من هذا الكتاب اقدّم رأي الدكتور عمارة في موضوع التكفير إذ يقول (وكما يحصل الكفر بالقول – الملفوظ او المكتوب – فإنه يحصل بالفعل ..والقول الموجب للكفر هو إنكار الاعتقاد الذي اجتمعت عليه الأمة والوارد فيه نص لا يحتمل التأويل ويكون الفعل كفراً إذا صدر عن تعمد او كان استهزاء صريحاً بعقيدة من عقائد الدين اذ يستوي في الكفر أن يكون صادراً عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء). ويبين الدكتور محمد عمارة بعد ذلك محل الكفر أين يكون فيقول: (والكفر كالإيمان اعتقاد قلبي والحكم فيه – في الدنيا وعن العباد- لا يتأتى إلا بالقول الصريح او الفعل الذي يترجم صراحة وبقصد عما في الضمير، أي أنه ليس هناك اتهام بالكفر أو ادعاء بالتكفير وإنما الكفر قول او فعل يفصح به الكافر عن كفره وليس اتهاماً أو ادعاء يحق للآخرين امتلاك سلطانهما على ضمائر الناس اما النزق الذي يسرع بأصحابه الى الحكم على العقائد والضمائر وتكفير المخالفين الذين لا يقرون بالكفر أو يتأولون ما يشبه الكفر في اقوالهم وافعالهم فهذا مما يخالف ثوابت الاسلام وروح شريعته ..بل إنه يؤدي بأصحابه الى الهاوية – هاوية الكفر – التي أرادوها لمن تسرعوا في تكفيرهم دون إقرار او برهان على “ الكفر البواح” وبعد ذلك يحدد صفات الذين يتسرعون في ذلك فيقول:( فالذين يتجاوزون حدود (الظاهر) إلى الحكم على ما في الضمائر لا يهدرون فقط ثوابت الاسلام وإنما أيضا يغتصبون لأنفسهم سلطان الله الذي تفرد بالعلم المحيط بما في سرائر القلوب). آراء واضحة بعد ذلك يسرد الدكتور محمد عمارة آراء السابقين عن موضوع التكفير فينقل قول الإمام محمد عبده ( إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر على مائة وجه ويحتمل الإيمان على وجه واحد حُمل على الايمان ولا يجوز حمله على الكفر ) ومن ثم رأي حجة الاسلام أبي حامد الغزالي عن التكفير في كتابه (فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة) حيث يقول: ( صنيع الجهال فينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الانسان الى ذلك سبيلاً والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم، والوصية أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ماداموا قائلين لا اله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذر أو بغير عذر فإن التكفير فيه خطر والسكوت لا خطر فيه). وينقل في مقالة له في موقع البلاغ الإلكتروني في موضوع تكفير المسلم آراء أبي الأعلى المودودي(1903 - 979 1م)- أمير الجماعة الإسلامية بباكستان- الذي انفرد من بين الدعاة الإسلاميين المحدثين ببعث هذا الشعار والموقف- الذي انفرد به الخوارج من قبل- شعار وموقف “تكفير المسلم”- من مرقده القديم!.. والمجتمعات التي استعاضت عن حاكمية الله كما تمثلت في شريعته بفلسفة الغرب القانونية وتشريعاته الوضعية، لا يمكن، بنظر الأستاذ المودودي، أن تكون إسلامية بحال من الأحوال هذا عن “المجتمعات” و”الدول والحكومات”.. أما بخصوص الأفراد، فإن المودودي يتحرج تحرجاً شديداً، ويدعو إلى التحرج في الحكم عليهم بالكفر، حتى لو خرجوا عن إطار الشريعة في ممارساتهم الحياتية.. فيقول: .. “أما أن يأتي فرد من المسلمين بعمل خلاف الشريعة في شأن من شئون حياته، فهو أمر غير خطير لا ينقض به الميثاق، وإنما يرتكب به جريمة من الجرائم..”. ومن هذه التفرقة- التي قد لا يستسيغها البعض- بين “الفرد” وبين “المجتمع ” نلمح الوزن الذي يعطيه المودودي- بحق- للفروض الاجتماعية الإسلامية. فمثل هذه الفروض- كالجهاد. واقامة الدولة.. والعدل الاجتماعي.. إلخ.. هي مما لا يستطيع الفرد وحده إقامته، ومن ثم فإن “المعصية الفردية” في الفروض الاجتماعية يلتمس فيها من الأعذار للأفراد ما لا يلتمس للأمم والمجتمعات! ويمضي المودودي، في نصوص عديدة- من المفيد إيراد بعضها- داعياً إلى التحرج في قضية “تكفير المسلم” فيقول: “يجب ملاحظة قضية تكفير المسلم والاحتياط في هذه المسألة احتياطاً كاملاً، احتياطاً يتساوى مع الاحتياط في إصدار فتوى بقتل شخص ما، وعلينا أن نلاحظ أن في قلب كل مسلم يؤمن بالتوحيد وأن “لا إله إلا الله” إيماناً، فإذا صدرت عنه شائبة من شوائب الكفر، فيجب أن نحسن الظن ونعتبر هذا مجرد جهل منه وعدم فهم، وأنه لا يقصد بهذا التحول عن الإيمان إلى الكفر، لأنه يجب ألا تصدر ضده فتوى بالكفر بمجرد أن نستمع قوله، بل يجب علينا أن نفهمه بطريقة طيبة، ونشرح له ما أشكل عليه، ونبين له الصواب من الخطأ، واذا أصر على ما هو عليه ولم يتقبل ما عرض عليه، بعد أن نلجأ لكتاب الله، فنوضح له خطأ ما أصر عليه في ضوء كتاب الله، ونبين له النصوص الصريحة التي تفرق بين الكفر والإيمان.. وهل هناك مجال لتأويل ما يصر عليه، أم لا؟ فإذا لم يكن هذا يخالف مخالفة صريحة النصوص الواضحة فيجب ألا نتهمه بالكفر، ويمكن أن نعتبر هذا الشخص من الضالين.. ولكن إذا كان ما يصر عليه يخالف النص صراحة، ويخالف تعاليم كتاب الله، وأنه لا يزال رغم هذا يصر على قوله أو فعله، حينئذ يمكن إصدار الحكم بالفسق أو الكفر، وذلك لأن القضية هنا أصبحت واضحة، ولها نوعية خاصة تستلزم إصدار هذا الحكم، ولكن، رغم هذا كله، يجب ملاحظة درجات ومراتب مثل هذه القضايا، اذ لا يستوي الجرم في جميع الحالات، فيوجد بينها فرق في الدرجات والمراتب، ويستلزم العدل أن نلاحظ هذه الفروق حين نصدر حكمنا..”. وفي نص آخر يدعو المودودي علماء الإسلام للتمييز بين “النص” و“التأويل” ومراعاة الفروق بين “الأصول” و “الفروع” وهم يحكمون على أفعال الناس.. كما ينتقد تسرعهم وعدم تثبتهم في إصدار أحكام الكفر، التي هي أشد وأخطر من القتل المادي وإزهاق الأرواح.. ذلك: “أن من يلعن مؤمناً كان وكأنه قتله، وأن من يكفر مؤمناً كان وكأنه قتله. إن التكفير ليس حقا لكل فرد، والتكفير جرم اجتماعي أيضاً، إنه ضد المجتمع الإسلامي كله، ويضر كثيرا بالمسلمين ككل.. ومع الأسف فإن علماءنا الكرام ليسوا على استعداد لترك هذا الأسلوب بأي شكل من الأشكال، لقد أهلموا التفريق بين الأصول والفروع، وبين النص والتأويل، فجعلوا من الفروع أصولاً، طبقاً لما فهموه أو ما فهمه أسلافهم السابقون عليهم.. وكان من نتيجة هذا أن كفروا من يقوم برفض فروعهم أو تأويلاتهم الدينية، ليت العلماء يشعرون بخطئهم، أو يرحمون الإسلام والمسلمين، بل يرحمون أنفسهم، ويتراجعون عن هذا السلوك المشين الذي أخجلوا به أمتهم، هذه الأمة التي وضعتهم بين رموش عيونها..”. وفي نص آخر يقدم المودودي الدليل الشرعي على خطأ- بل خطيئة- تكفير المسلم.. فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله. إن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يبين في هذا الحديث قانون الإسلام الدستوري. وهو أن كل إنسان إذا آمن بتوحيد الله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم دخل في دائرة الإسلام، ويصير مواطناً من مواطني الدولة الإسلامية، وأما هل هو صادق في إيمانه في حقيقة الأمر، أم لا؟ فهذا ما على الله حسابه، وليس من حقنا أن نشق قلبه ونحكم عليه بشيء، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: لم أومر أن أشق على قلوب الناس ولا عن بطونهم إن الضمان بحفظ النفس والمال والعرض يناله الإنسان بمجرد شهادته بالتوحيد وإقراره بعقيدة الرسالة، وليس من حق غيره أبداً بعد هذا أن يسلبه حقاً من حقوق المواطنة في الدولة الإسلامية إلا بحق الإسلام، أي اذا أبى أن يؤدي شيئاً مما عليه من الحقوق لله وللخلق، فيعاقب بحجم جريمته..”. هذا هو غيض من فيض فكر الدكتور محمد عمارة حول هذه القضية الشائكة التي لم ينته الجدل حولها الى الآن. رابط المقال على الفيس بوك