على مدى ثلث قرن استثمر النظام السابق وأركان حكمه القبلي والعسكري وتحالفاتهما الواسعة في بنية المجتمع ، بذهنية حسبت لمستقبل العائلة أكثر من حسابها لمستقبل الوطن ،وتماسكه الاجتماعي ،لهذا كان تدمير الأساس الثقافي للذهنية العامة هدفاً استراتيجياً لنشاطه المسعور، والمدخل لذلك كان التعليم ، فمن خلال إتاحة المجال للقوى التقليدية المحافظة بشعاراتها الدينية الإمساك بزمام التعليم وتحديداً بمناهجه الدراسية جعل من إنتاج ذهنية غيبية غير مبدعة سمه بارزة من سمات مخرجات التعليم التلقيني غير المسكون بقلق الأسئلة الكبرى. ولم تقف القضية عند هذه الحدود بل تجاوزها النظام إلى جعل إدارة العملية التعليمية نوعاً من التكسب الوظيفي والولاء الحزبي، فمدراء المدارس والمديريات التعليمية ،يتم اختيارهم بعناية من أجل أداء مهام محددة تخدم التوجهات السياسية الضاغطة لإفراغ التعليم من قوته الأخلاقية قبل الابتكارية، لهذا انتشرت ظاهرة الغش وبيع الشهادات لتغدو في المجتمع سلوكاً طبيعياً ومن يمارسها يصنف في خانة الشجاعة والرجولة التي لم تهب لغيره (أحمر عين). من استثمارات النظام السابق دأبه على إنتاج مراكز قوى مشيخية ، تتنافس وتتناحر مع مراكز قوى موجودة من أجل إضعافهما معاً ليس حباً في إزاحتهما من المشهد السياسي وتأثيراته لصالح الاتجاهات المدنية وإنما للتمكن من السيطرة عليهما وتسييرهما في الاتجاه الذي يخدم مصالحه. النشاط التهريبي المهول (من وإلى اليمن) ظاهرة ارتبطت بالنظام، وكان الهدف منها إضعاف وتشتيت المراكز الاقتصادية للبيوتات التجارية والرأس مال الوطني المتراكم منذ عقود، وفي هذا الاتجاه عمد النظام أيضاً على إنتاج طبقة تجارية من المشائخ والقادة العسكريين المرتبطين بالعائلة وبتسهيلات من الخزانة العامة (ورمى من ذلك تحقيق هدفين الأول إنشاء اتجاه تجاري قبلي لإزاحة الرأسمال المحسوب على المناطق غير (الشمالية) ، أما الهدف الثاني فهو إشغال هذه القوى بالعمل التجاري والمقاولات وإخراجها من مساحة التنافس على السلطة).. استثمارات النظام في المؤسسة العسكرية كان هو الآخر في مساحة الولاء. فالمتابع لحالة الجيش سيرى مدى التآكل المريب في عقيدته العسكرية وولائه الوطني ،وانهدام روحه المعنوية والقتالية، بعد تسريح أبرز قادته المؤهلين والمحسوبين على المحافظات الجنوبية ومقابل ذلك عمل على تشكيل قوى نخبة فقط من أجل حمايته وحماية مصالحه واستيعاب شخصيات عائلية في مواقع قيادية فيها(أنموذج الحرس والقوى الخاصة). المقاربات المعمقة لهذه القضايا وغيرها (التي لم تعد خافية على أحد) ستتيح للباحثين بكل تأكيد الوقوف على واحدة من أخطر الاشكاليات التي جابهت المجتمع ووضعت سلمه الأهلي على المحك جراء ممارسة السلطة الهوجاء من قبل مغامرين آخر ما يفكرون به هو الوطن وأبناؤه. رابط المقال على الفيس بوك