عالم اليوم يضجّ بالمعلومات ويمتلئ بالمعرفة ,ومع ذلك فهناك من يحتكر صناعة المعلومات وتجارتها حتى باتت من أكبر وأعظم مصادر القوة , فشركاتٍ ومؤسسات عملاقة مثل مايكروسوفت وأبل تحتكر أعظم وأكبر مصادر القوة ,وما تدخله الواحدة منها من أرباحٍ سنوياً يفوق مليارات الدولارات . لقد أصبح ثمن المعلومة وثمن الوصول إليها وامتلاكها باهظاً جداً ,وهو مصدر لا يفنى متجدد ومستمر باستمرار البشرية ,بعكس مصادر القوة الأخرى من طاقةٍ وغذاء . ذلك العقل البشري القادر على صنع المعجزات لم ولن يتوقّف عن إنتاج المزيد والمزيد فطموحه الممتد وقدرته على الابتكار يجعلانه قادراً على الاستمرار في التجديد والإنتاج دونما توقّف ,ومع ذلك يظلّ العقل قاصراً عن إدراك المعاني الإنسانية التي يضفيها عليه البعد الأخلاقي ,لأن العقل الذي اخترع الكهرباء وأضاء العالم هو ذاته الذي اخترع القنبلة النووية وأغرق العالم خوفاً ورعباً في لحظاتٍ تنتهي عندها كل معنى للإنسانية ,ومازال هذا السلاح الخطير يقضُّ مضجع العالم الأول الذي أنتجه ويخشى أن يتحوّل إلى يد أعدائه فيكون لعنةً ونقمةً عليه وعلى البشرية كما يحدث في إيران وكوريا الجنوبية ,ومع ذلك يستمر الصراع بين الأطراف المختلفة بغرض السيطرة على العالم والتحكّم في موارده وأهم طرقه ومداخله الاستراتيجية ,ليستمر القتل والخراب والدمار الوحشيِّ . فهل هي أمنية لا مكان لها على أرض الواقع ..! أن تتحوّل ساحة المعركة الواقعية إلى ساحة حربٍ افتراضية ,حيث يُستخدم سلاح المعلومات بدلاً من سلاح النار الذي يزهق الأرواح . وعندما سمعت أنباءً عن اختراقاتٍ يقوم بها مجموعة من الشباب التركي والعربي لأنظمة المعلومات الإسرائيلية ,انتابني شعورٌ بالفرح في أسلوبٍ جديد كبديلٍ عن المقاومة التقليدية التي تفني النفس البشرية وتدمِّر إنجازاتها على الأرض ,إنها حربٌ من نوعٍ آخر الدم المسال فيها هو المعلومات ,وفي ذات الوقت شعرت بشيءٍ من الخوف ,ماذا سيحلُّ بهذه المنجزات المعلوماتية التي أصبحت حياتنا بدونها مستحيلة ,والتي تعتمد عليها الاتصالات الاقتصادية العالمية اليوم ,وماذا سيحلُّ بالتجارة العالمية التي تسرّبت إلى كل تفاصيل حياتنا؟ فالحكومات اليوم يرهبها سلاح المعلومة بقدر ما يرهبها السلاح النووي ,وربما أكبر فالمعرفة والمعلومة بوّابةً لصناعة السلاح النووي ,فهل يمكن أن تنتهي وتسقط هذه الإمبراطورية المعلوماتية ؟ لم تعد المقاومة تلك المقاومة الساذجة ,بل أصبحت مقاومةٌ محسوبة تبحث عن أقلِّ الخسائر للحصول على أكبر قدرٍ من النتائج ,سواءً أكانت مقاومة الاستبداد السياسي أو مقاومة الاحتلال ,وما رياح الربيع العربي التي هبّت إلاّ نموذجاً للدور الذي تلعبه تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في حياة الشعوب ,والتي بيدها أن تُحقّق العدل والسلام أو أن تسعى لفنائها ودمارها. لذلك قال سبحانه في سورة الرحمن والتي ابتدرها ب (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ) ..(خلق الإنسان) إشارةً إلى الجانب الجسدي المادي و(علّم القرآن) و(علّمه البيان) العلم واللغة ,الأول أساس التفكير والثاني أداة التفكير وعنوانه وقالبه في إشارةٍ إلى عقل الإنسان وقدرته على اكتساب العلم والتعبير عنه ونقله إلى الآخرين ,ثم يقول : (الشمس والقمر بحسبان) أيها الإنسان كل شيءٍ بحسابٍ دقيق فتفكر ,(والنجم والشجر يسجدان) وهناك خضوعٌ تامٌّ لخالق هذا الكون من قِبل كل من في السموات والأرض في إشارةٍ للجانب الروحي لكل شيءٍ وللإنسان على وجه الخصوص , (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) وهنا المفتاح... (الميزان) العدل والاعتدال في كل شيءٍ ولكل شيء ,وهذا هو دور الإنسان إقامة العدل على الأرض كخليفةٍ لله على أرضه ,بأن يتمكّن الإنسان من إقامة التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي لنستطيع قيادة عقولنا كما يريد سبحانه في سبيل قيام الإنسان بدوره الحقيقي.. فالعقل يمكنه أن يعمِّر كما يمكنه أن يدمِّر ,والعقل ليس منزَّهاً فكما اخترع ما ينمِّيه ويطوِّره اخترع ما يقتله وينهيه ,وهنا تأتي الأخلاق والروحانيات لتضبط انحراف هذا العقل وتقومه وتحفظه من الغرق في الماديات ,لذلك كان الإنسان مكرَّماً وكان هو المسؤول الوحيد عن حمل الأمانة...فتأمل! [email protected]