يقول الفرنسي مونتسكيو إنه عند تأسيس دولة ما، يكون الرئيس هو الذي يشكل المؤسسة. فيما بعد تعود المؤسسة هي التي تشكل الرئيس”. والرئيس هنا ربما لا يكون شخصاً بعينه، إنما مجموعة تحدد شكل الدولة. في اليمن مازلنا بحاجة للشق الأول من أجل تشكيل مؤسسة الدولة. أحياناً هذا الرئيس ليس بالضرورة أن يراهن على الشكل المثالي للديمقراطية. الديمقراطية في روما كانت منتقاة. بدأت بهيمنة ارستقراطية. لكن ارستقراطية روما القديمة ممتلئة بالاعتزاز الوطني. أما الارستقراطية اليمنية المختلقة خلال ثلاثة عقود، قامت على ارتهان وطنيتها. مصالحها دائماً تعيش على ذلك. هل هي نفسها الارستقراطية التقليدية لليمن. في اليمن، تشكلت قبل قرون ارستقراطية طارئة. استباحت ظروف ايديولوجية، لتوظف مصالحها العامة. ارستقراطية نشأت بحس ديني، عصبية قبلية تلتقي بقرابة مع النبي. غير أن مصالح تلك النخب الطارئة كانت لا تتفق مع الشعور الوطني المحلي. في الواقع الوطنية اليمنية، تندرج في مصارف الخيال، أكثر منها احساساً بالمكان. إحساس متضارب بين المخيلة والحقيقة. وهذا الاحساس طمرته نزاعات ايديولوجية. منذ مذابح المسيحيين في عهد الملك الحميري يوسف (أبو نواس). غير أن هذا الوافد الجامح بمسلمات عقائدية، أوجد تحولاً في شكل الهوية المحلية. في صعدة لاحظت عند زيارتي العام الفائت أن الحوثيين لا يرفعون راية وطنية. كلها شعارات تخصهم، غير مرتبطة بالاحساس الوطني. هذا الأمر ينطبق ولو بصورة أقل، على خطاب الإسلام السياسي الذي يمثله الإصلاح. في الحقيقة لم يكن في اليمن حالة وطنية، كما لدى الرومان، بل شوفينية قبلية. قحطانية يقابلها الحالة المضرية. لكن الارستقراطية الطارئة، أو ما قصدته من ذكر الحوثي، هو الحالة القديمة التي تشكلت مصالحها على نبذ الحالة اليمنية. واحدة من استراتيجية الأئمة كانت طمس الثقافة المحلية. اخبرني صديق لديه بحث روائي حول الإمام عبدالله بن حمزة، قال: إنه اول حاكم يمني وضع حالة احتقار للمهن كما هو اليوم. أي جزار، حداد، أو مزين.. الانتقاص من اصحاب المهن لم يكن شعور يمني. غير أنه في المجتمعات القديمة، كانت الارستقراطيات تضع لأصحاب المهن حالة طبقية ادنى من طبقة الملاك، ومن طبقة المحاربين والمزارعين. الارستقراطية الطارئة، تشكلت على طمر الصنائع. عندما احتل الآريون اراضي الهند والسند، اقتبس من حضارة السكان الاصليون، تعايش معها، وإن بصورة هجينة من شخصيته. هذا ما حدث بالنسبة للاقوام السامية التي اجتاحت ارض الرافدين، وحلت مكان المدن السومرية، تحولت امتداداً حضارياً، واقتبست منها اساطيرها وأساليبها الزراعية وحتى التنظيمية. في اليمن، حدثت حالة ضمور، لكن الارستقراطية المحدثة بعصبية دينية، لم ترغب بأن تكون حالة هجينة، بل استفادت من العصبيات القبلية اليمنية، تعايشت مع ذلك الجانب القاسي، والقادرة على رسم خرائط صراعاته. بعد الوحدة، الدولة لم تتهجن إلا في الصور الأكثر سلبية. لأن المصالح الجامحة للصفوة، بحثت عن قوانين لعبتها. ووجدنا حالة شمالية محضة. ذلك ما كرسه الحكم الإمامي في اليمن. لعبة الأرستقراطيات الطارئة سادها شعور هيمنة، ليس بالطريقة السامية في ارض سومر، بل بلعبة منكمشة في ذاتها، تمسكها بمبادئ الغلبة المؤدية إلى الإذعان المطلق. تحويل اليمن إلى فكرة مذعنة بالمطلق لكهنوت الحاكم. تحقير الشخصية المحلية لأجل تضخيم الهوية الطارئة. مع ذلك لم تخلُ تلك النخب الطارئة من ذكاء، بحيث ايضاً تصالحت مع الارستقراطيات التقليدية اليمن حاولت ارضاءها، وتلك بشعور المذعن لمصالحه ارتضى الانقياد والانسياق وراءها. إنه التناقض اليمني. في اليمن كان الهادي هو شكل المؤسسة الكهنوتية، ثم تحولت إلى مؤسسة تصنع زعامات. الحوثي استعاد تلك المؤسسة، لكنه سيترك المكان لمن هم أعرق وأكثر ثقلاً في المستقبل. على عكس روما، مصالح الارستقراطية الرومانية نشأت على الحس الوطني. لذا لم تسمح لتجنيد مواطنين غير مالكين. بينما ظلت فكرة الإمام على تجنيد محاربين يسعون لنيل الغنائم. وهي في الواقع لم تأتِ من العدم، فاليمن كانت دويلات تتصارع. لكن اليمن شكلها الوجه الأكثر قسوة لمحاربين يرتزقون من حروبهم، يعتاشون من سلب الغنائم. قسمتها كأمة محاربة، تنهب أمة مسالمة. وهي الحالة التي تطورت عليها الارستقراطية الجديدة اليوم. ملكيات تتطفل على الحياة العامة. لكنها لا تدافع على الوطن، وقت الحاجة، كما فعل دائماً ارستقراطيو روما. بل على العكس تقبض لتبيع. في اليمن ليست ارستقراطية، وإنما محدثو نعمة من الدهماء. مقولة مونتسكيو حول الرئيس الذي يشكل المؤسسة، ثم المؤسسة التي تشكل الرئيس، تثير الجرح اليمني. نحن بحاجة لنخلق هذا الرئيس. التقاليد الوطنية العريقة لا تسمح للحكام التوقيع على صكوك مجحفة بحق شعوبها، حتى في لحظات الهزيمة. رابط المقال على الفيس بوك