لم يكن عام 1905م عاماً عادياً بل استثنائي ،فقد ظهرت في ذلك العام واحدة من أهم الأفكار العلمية في كل العصور، إنها النظرية النسبية لأينشتاين، وفي نفس العام غادرنا مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده ، لكن الأقدار لم تكن بخيلة علينا فقد ولد في نفس العام المفكر الجزائري مالك بن نبي ، واحد من أهم المفكرين المسلمين في القرن العشرين الذين تناولوا مشكلة التخلّف الحضاري الذي يعاني منه المسلمون. فرغم تعدد اهتمامات مالك بن نبي الفكرية والحياتية، ولكن عينه كانت لا تتحول عن سؤال النهضة الحارق: لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ رغم أن هذا السؤال قد طًُرح كثيراً إلا أن مالك بن نبي كانت له رؤيته الخاصة به …فما هي ؟ وكيف كوّن هذه الرؤية؟ .. من هو مالك بن نبي؟ ولد مالك بن نبي (1905-1973) في قسنطينة / الجزائر في أسرة فقيرة، لكن الفقر لم يكن حائلاً دون تحقيق طموحه بالعلم، فدخل الكتّاب في المسجد ليحفظ القرآن ويتعلم اللغة العربية، والتحق بعدها بالمدرسة الفرنسية. في عام 1930م سافر بن نبي إلى باريس لمواصلة تعليمه في معهد الدراسات الشرقية، لكن إدارة المعهد لم تقبله بحجة “أنه مسلم جزائري”، فلم ييأس الشاب حينها، فدرس في “مدرسة اللاسلكي” هندسة الكهرباء، ومن باريس اتجه بن نبي نحو القاهرة عام 1956م، وكانت الثورة الجزائرية قد اندلعت قبل عامين، ليعود إلى وطنه الجزائر بعد الاستقلال 1963م، حيث تقلّد مناصب عديدة منها، مستشار التعليم العالي، ومدير جامعة الجزائر، ووزير التعليم العالي، ولكنه في عام 1967م استقال وتفرغ للعمل الفكري، وتنظيم الندوات والمحاضرات.. وفي سن متأخرة صمّم بن نبي على تعلم اللغة العربية، فتعلمها، وألّف أول كتاب باللغة العربية “الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة”، وظل بن نبي مواظباً على عمله الفكري، إلا أن الإجهاد أخذ منه مأخذاً فتدهورت صحته، وفي 31 أكتوبر 1973م انتقل إلى رحمة الله. المشكلة حضارية .. أمضى مالك بن نبي حياته للإجابة عن سؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ ذلك السؤال المركزي الذي ظل يهيمن على أغلب كتبه التي وضعها جميعها تحت عنوان ( مشكلات الحضارة ) ، لأنه يرى أن مشكلة العالم المتخلِّف يمكن اعتبارها قضيَّة حضارة أوَّلاً وقبل كلِّ شيء، ففي كتابه (مشكلة الأفكار) يقول :« إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية.. وهذه الرؤية تبتعد عن الإشكاليات الجزئية التي تكوّن المشكلة الكبرى، ففي (شروط النهضة) يقول: “ فرأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية ، بينما يرى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تُحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ ... على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه » ولا عجب حين يصرّح قائلاً: إننا منذ عقود من الزمن لا نعالج المرض وإنما نعالج الأعراض. ولأن الحضارة مصطلح كغيره من المصطلحات يخضع لرؤية وتحليل لا يمكن الإجماع عليها بشكل نهائي ، فإن ابن نبي له نظرته حول الحضارة أنها ذات أبعاد وأطياف مختلفة ولا يمكن اختزالها في البُعد المادي الذي تعج به الأسواق العالمية ،ويمكن متابعة أطياف الحضارة في بعديها المادي والمعنوي وما يربط هذين البعدين من روابط نسيجية تشكّل هيكل ولب الحضارة. فالجوهر الحضاري عند مالك بن نبي في دراسته التحليلية للحضارة يعود إلى معادلة هذه هي صيغتها : الحضارة = الإنسان + التراب + الوقت. الإنسان المتكامل بجوانبه وأبعاده النفسية والجسدية والجمالية والفكرية، والتراب بإمكاناته المادية الطبيعية كمورد أساسي لإنتاجه الحضارة ،والزمن الذي يدور فيه الفعل الإنساني والتفاعل بين التراب والإنسان. هذا النموذج التحليلي للحضارة في عناصرها الأولية ، والذي جاء على صيغة معادلة رياضية - ربما لكونه مهندساً دوره في ذلك- يمر بتفاعلات دقيقة يكون ما يسمى بالحضارة، ووفق قوانين وسنن تاريخية معينة يمكن استقراؤها من خلال التجربة الحضارية لكل أمة من الأمم،هذه التجربة تمر بدورة تاريخية يرصدها بن نبي - مثل ابن خلدون - حيث أن كل حضارة لها مخطط صعود وخط سواء ومرحلة انتكاس وانحدار مثل الجسم تماماً، وتحلله حركة المجتمع الإسلامي، وجد أنه في دورة ذات أربع مراحل: الروح والعقل والغريزة والانبعاث، وأنه توقف مع معركة صفين عام 32ه فكانت أعظم من معركة عسكرية، حيث تزحزح مفهوم القيم في المجتمع الإسلامي ،وكان هذا إيذاناً بانشقاق الضمير الإسلامي بين الواقع والمثال، قال بن نبي : ثم كانت(لحظة) ابن خلدون حيث انكسر مخطط الحضارة الإسلامية حتى انطفأت. فقد فسّر بن نبي كل شيء في نقطة الانبعاث الحضارية، بما فيها كل الفنون وحينما سُئل عن الموسيقى أجاب: أنا أنظر للمسألة من زاوية الحضارة؛ فحين تنحط الحضارة تخرج نغماً سقيماً، وحين تنهض الروح يخرج اللحن أعذب ما يكون. معركته مع سيد قطب اشتبك مالك بن نبي مع سيد قطب الذي ينفي سمة الحضارة عن أي مجتمع ما لم يكن إسلامياً، وعلى ضوء ذلك أخرج كتاب له بعنوان( نحو حضارة إسلامية)، ثم غيّر العنوان إلى (نحو مجتمع إسلامي)، وقال في تبرير التغيير إن كلمة إسلامي تعني تلقائياً الحضارة، مما دفع مالك بن نبي للتعليق: “إنها آليات غير ذكية للتعويض النفسي.” مالك بن نبي يرى أنه يجب أن نفرّق بين الحضارة كإنتاج بشري وصناعة أممية، وبين دين الله الخالد المبدأ الذي لا ينتهي ولا يموت، هذه الجدلية بين البشري والإلهي تقود إلى الإجابة عن سؤال النهضة: لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ فالإجابة عند سيد قطب: إن السؤال من أصله خاطئ.. المسلمون تخلّفوا لأنهم تركوا الإسلام، فينبغي دعوتهم إليه من جديد، فنعلّمهم معنى لا إله إلا الله باعتبارها منهج حياة. أما غيرهم فلم يتقدموا، بل هم في جاهلية جهلاء، لأن الإسلام هو الحضارة.. أما عند بن نبي فالأمر غير ذلك، ليس الإسلام هو الحضارة، الإسلام وحي نزل من السماء بينما الحضارة لا تنزل من السماء وإنما يصنعها البشر عندما يحسنون توظيف ملكاتهم في التعامل مع الزمان والمكان.. الإسلام لا يصنع الحضارة بذاته، وإنما بالبشر عندما يفهمونه على حقيقته فيتولّون التفاعل الجاد به وخلطه بالتراب والزمان والمكان فيصنعون من ذلك حضارة. الحضارة الإسلامية هي هذا التفاعل الجاد بين الإنسان والتراب والوحي.. قد ينجح المسلم في هذا التفاعل فيصنع الحضارة، وقد يفشل وهو المسلم وينجح غيره ،أي غير المسلم فينتج حضارة بقيم ونيات غير إسلامية، لأنه أحسن التعامل مع سنن الله توظيفاً جيداً لعقله وللوقت وللتراب. أفكار أخرى يرى بن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك “القابلية للاستعمار” التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثّل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية، فذهبوا إلى تكديس المعارف، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، والمصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد نزعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب، فيقول بن نبي: “البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة. إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة، فالحضارة هي التي تُكوّن منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكوّن حضارة، فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدّس ثم لا نخرج بشيء. يرى بن نبي إن أول عمل يؤديه المجتمع عند ولادته هو بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب لذلك مثلاً بميلاد المجتمع الإسلامي في المدينةالمنورة ، وعلى العكس من ذلك عند أفول المجتمع تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، كما كانت حالة المجتمع الإسلامي المتفسّخ الذي غزاه الاستعمار.. و المجتمع في رأيه - يتكون من ثلاثة مركبات هي أشخاص و أفكار و أشياء، وأول عمل للمجتمع هو تحويل الكائن الذي صفته أنه “فرد” في “نوع” أي صفته شبه البيولوجية إلى “شخص” أي إلى كائن اجتماعي، والثقافة هي المحيط الذي يصوغ كيان الفرد ويقدّم له الروابط الاجتماعية ،وإذا كان المجتمع يتألف من أشخاص و أفكار و أشياء فإن غنى المجتمع يقاس مبدئياً بما فيه من أفكار لا من أشياء، ويضرب بن نبي على ذلك مثلاً ألمانيا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خسرت “أشياءها” بالكامل ولكنها استعادتها بسهولة بسبب غناها بالأفكار! لكن الأفكار لوحدها لا تكون فعّالة عند تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب بن نبي لذلك مثلاً الأسبان الذين هزموا مسلمي الأندلس، فهم كانوا أفقر بالأفكار من المسلمين بكثير ولكن شبكة علاقاتهم الاجتماعية كانت أقوى و أفضل. رابط المقال على الفيس بوك