إن صياغة استراتيجية فعّالة لمكافحة الفساد، تتطلب بلورة تصورات واضحة لطبيعة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المطلوبة، وتحديد أولوياتها وفقاً لمناخ وعلاقات وأسباب الفساد القائمة، وتحديد ما إذا كانت الضرورة تتطلب البدء بالتركيز على الإصلاح الاقتصادي ثم السياسي، أم إن الأولوية للإصلاح السياسي، ويتبعه الاقتصادي، أم كليهما معاً. فإذا نظرنا إلى الفساد في الدول المتقدمة ديمقراطياً نجده ينحصر في شكل حالات فردية دون أن يتحول إلى ظاهرة عامة، كنتيجة طبيعية للمستويات العالية من الشفافية من خلال الإعلام والآليات المتطورة للمساءلة والمحاسبة. وبالتالي، فإن أولويات سياسات الإصلاح ومواجهة الفساد في هذه الدول، تتمثل في الإصلاحات الاقتصادية، وفي مواجهة البيروقراطية المالية والإدارية كبعد رئيسي، يتبعها البعد السياسي إذا اقتضت الحاجة، بمعنى أن الفساد في العالم الغربي يعتبر مشكلة اقتصادية صرفة. وهنا يتفق معي الجميع على أن الفساد في البلدان النامية ومنها اليمن ظاهرة شاملة، بعكس دول العالم المتقدمة ديمقراطياً. فالفساد في اليمن تتعدد أسبابه، حيث تتأثر سلباً من جرائه كل مجالات الحياة، لتبرز الحاجة أولاً إلى الإصلاحات السياسية كأولوية، أو مركزية الإصلاحات ذات البعد السياسي، المرتبطة بالبعد الاقتصادي، وهو ما يدل على ارتباط هذين البعدين في عملية الإصلاح، وهذا يعني عدم عزل السياسات المترتبة على هذين البعدين عن بعضهما البعض، أو الاهتمام ببعد واستبعاد وتناسي البعد الآخر. فالإصلاحات المختلفة تعزّز بعضها البعض، بل إن هناك تداخلات نسبية بين نوعي الإصلاحات حسب ظروف كل مرحلة. وهذه الإصلاحات السياسية والاقتصادية تمثل خطوة فعلية نحو الحكم الرشيد، والذي من شأنه هدم أركان الفساد، وبناء الدولة المدنية الحديثة، حيث لا توجد قوالب جامدة للإصلاح، ومكافحة الفساد، إذ يجب أن تتسم الاستراتيجية بالمرونة والتكامل في مساراتها وآلياتها، وفقاً للظروف الموضوعية للمتطلبات وتطورات كل مرحلة من مراحل الإصلاحات في البلاد، حيث أن الفساد بلا شك قد تحول إلى منظومة بنيوية، شملت آثارها مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية في بلادنا اليمن، وما عزّز ذلك تعاظم الإنفاق العسكري، وتزايد الاعتماد على الإيرادات الريعية، وامتداد فترة حكم السلطة لحقبة زمنية طويلة. وهو ما يعني بكل تأكيد مزيداً من التسلط، وإساءة توزيع الثروة، واستخدام الموارد، وتدني أكبر في مستويات ومعايير الحكم الرشيد، وهو ما ساعد على اتساع مساحة الفساد، وتراجع النمو، وتردي الأوضاع المعيشية، وهو ما عانى منه الجميع سابقاً، وهو أيضاً السبب الرئيسي وراء بروز وتزايد المطالب بالتغيير. ولذلك، فإن استراتيجية مواجهة الفساد، لابد أن تكون أيضاً شاملة على نفس المستويات الاقتصادية والقانونية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، مع مركز الإصلاح السياسي والنخبة السياسية في البلاد، والاستفادة من مخرجات الإرادة السياسية والشعبية والممثلة بمخرجات الحوار الوطني الشامل، بغض النظر عما إذا كانت حصيلة تجارب دول خارجية من عدمها، المهم بلورة المتاح من تلك الإرادة في شكل خطوات إصلاحية، تكرس آلية فعالة للمحاسبة أفقياً ورأسياً، والدفع بها إلى الأمام باتجاه إرساء قواعد نظام النزاهة الوطنية والحكم الرشيد. كما ينبغي النظر إلى مكونات استراتيجية مكافحة الفساد بشكل مترابط، ومراعاة تنفيذ كل عناصرها بشكل متوازن دون إهمال بعضها، وفي كل الاتجاهات، لأن كلاً منها يكمل الآخر، إلى جانب استهداف الركائز التي تعزز الفساد وتفرّخه، وتشكل مظلة حماية له. رابط المقال على الفيس بوك