لم تكن آلة الزمن (Time Machine) التي اخترعها الروائي الإنجليزي الشهير(هربرت جورج ويلز)(1866: 1946م) غير مركبة خيال علمي يمكنك استعارتها ذهنياً، والقيام تواً برحلة سياحية إلى أي حقبة زمنية في تاريخ الماضي أو “تاريخ المستقبل”، الزمن، بالنسبة إليك، وأنت على ظهر هذه الناقة الزمنية، يمثل حلقة مفرغة لا طرف لها، بوسعك البدء أو الانتهاء من أي نقطة، والحركة الحرة في أي اتجاه.. حسنٌ، أنصحك بالبدء رجوعاً إلى الماضي، من اليونان القديمة بالتحديد، فستتاح لك مباشرة فرص مستحيلة لسماع غناء “مورفيوس”، أو طمأنة “بنيلوبي” على زوجها المسافر “أوديسوس”، أو الحيلولة دون زواج المنحوس “أوديب” من أمه وقتله لأبيه.. وإذا تبين لك أن تلك القصص كانت كما هي الآن مجرد أساطير، فقد تسرك مشاهدة الألعاب الأولمبية في موسمها الأول في القرن الثامن قبل الميلاد، هذا فيما لو كنت مؤرخاً رياضياً، أما إذا كنت عاشق آثار فسيلفتك تمثال “زيوس”، فعندما كان هذا التمثال قائماً، كان أحد عجائب الدنيا السبع، ولعل أكثر ما قد يستحق توقفك شخص قصير سمين، قد لا تعبأ بالدنو منه، فهو دميم وثرثار، كان وثنياً لا يقدس الآلهة، ولكنه يقدس القانون، ولهذا لم يعول على وحي الآلهة عبر عرافات دلفي بأنه أحكم البشر، واختار بدلاً من الهرب الممكن من السجن أن يشرب السم، تنفيذاً لحكم إعدام صدر بحقه، ولم يكن الحكم بالضرورة عادلاً.. ذلك الرجل هو “سقراط”.. بوسعك فتح نافذة المركبة، وإذا ما استوقفك المنظر المهيب للغابة المقدسة، فسوف تميز من بين أشجارها الفارعة شجرة عملاقة بشكل واضح، سيمكنك لو اقتربت منها بما يكفي ملاحظة أن شجرة طفيلية ذات أغصان حمراء ذهبية، قد تعلقت ونمت على أحد أغصانها، أما في الأسفل، على الأرض مباشرة، فستشاهد فارساً مفتول العضلات، في عنفوان شبابه وقوته، يقف شاهراً سيفه، ويتلفت بحذر يميناً وشمالاً، لا تقترب من ملك الغابة هذا، فهو يتوقع محاولة تسلل من قاتل متربص يريد قتله ليصبح ملكاً على الغابة مكانه، لفترة تنتهي عادة بمقتله هو الآخر على يد فارس متربص ثالث، وهكذا تستمر دورة القتل، في سياق السباق المحموم إلى السلطة والعرش المشيد من جماجم الملوك السابقين.. ستشعر بالاشمئزاز بلا شك، من هذا التداول الدموي للسلطة في تلك الغابة، لكن هذا الشعور سيزول بالانبهار في شوارع أثينا، في موسم الانتخابات، حيث يتم تداول السلطة بطريقة ديمقراطية سلمية، وعبر اقتراع يتم كل عام، الاقتراع كل عام عملية منهكة، ومع الفارق الشاسع قد تتذكر معاناة ملك الغابة، وستكتشف أن هذا الشعب الديمقراطي العريق تمكن من تجذير الديمقراطية في مدنه عميقاً، وتنحية الطرق البدائية المتوحشة لتداول السلطة بعيداً إلى الغابة، حيث قانون القوة يمارس فعاليته الغريزية هناك بشكل طبيعي.. لو حركت مركبتك السحرية الآن نحو نقطة بارزة، تقع مكانياً في الشرق، وزمنياً في فترة سابقة لليونان بألفي عام، فستجد نفسك في بابل، ستدهشك الأبراج المعممة بالأشجار، والتماثيل والمعابد النافرة، من هنا أشرقت الكتابة وبدأ التاريخ. دعك من تماثيل عشتار العارية بشكل فاضح، وادخل أروقة معبد إله الماء والحكمة “إنْكي”، ستجد رجل دين يلقّن بعض التلاميذ الصغار جزءاً من الكتاب المقدس، يدور حول أحد اجتماعات كبار الآلهة في البرلمان الإلهي “البانثيون”، الشعور بنشوة النصر تهز الجميع، ويقررون في جو احتفالي تنصيب بطل الملحمة الإله “إنليل” رئيساً للمجلس وزعيماً للآلهة، لم يكن هذا المنصب يتضمن حصانة من أي نوع لكبير الإلهة، زير النساء هذا الذي سرعان ما اجتمع المجلس الديمقراطي نفسه في جلسة طارئة متوترة، وقرر انزال عقوبة رادعة عليه لارتكابه جريمة اغتصاب فتاة قاصرة من البشر .. ولم يكن أمام كبير الآلهة سوى الامتثال لقرار المجلس الموقر..!!. آلهة سومر وبابل الوثنية ديمقراطية وبسيطة مع قدر من الطيش، ربما كأصداء متأخرة لواقع ديمقراطي بشري بدائي غابر ظلت رواسبه ناشبة في الأساطير، أما خارج هذه الأساطير فيمكنك الطواف بمركبتك طولاً وعرضاً في مدن ودول ما بين النهرين والشام ومصر .. ولن تجد بالتأكيد أي مظهر للديمقراطية، من أي نوع، وكأن آلهة الشرق القديمة، بين دفتي الكتاب المقدس “إينوما إيليش” خلقوا الديمقراطية لأنفسهم، وعملوا على تنحية الاستبداد إلى عالم البشر، عالم النقص والفناء والتوحش..!!. ستجعلك الجولة تقارن بين الغابة اليونانية والشرق القديم والجديد، وبالطبع، لا يفكر حكام الشرق بنفس طريقة تفكير حكام الغابة اليونانية، لكنهم للأسف يمارسون نفس الممارسة، التربص بالعرش والانقلابات الدموية والبربرية.. ظواهر سائدة هنا وهناك، في تلك الفترة السحيقة أو التاريخ المعاصر، الطريق إلى السلطة محفوف بالدماء والرعب والأهوال، ويتوقف الفوز على مدى ضراوة وقسوة وهمجية الخصوم.. الأكثر عنفاً هو الأكثر حظاً بالعرش والألقاب الملكية المبجلة، ومقامه فوق كل مقام أو اعتبار أو مساءلة .!!. ربما حان الوقت لتجرّب السفر بمركبتك باتجاه المستقبل، توجه إلى المستقبل مباشرة، لا تتوقف في الحاضر العربي، فقد تنسفك مع مركبتك سيارة مفخخة في سوق السلام، أو حزام ناسف في مدرسة الخير، وقد تشتبه بك مليشيات الجيش الحر ، أو كتائب حزب الله.. المنطقة كلها متأججة بالثورات وعلى صفيح ساخن من العنف، ويستحسن أن تتوجه نحو الغرب، أتمنى لك حظاً طيباً، فقد لا يبدو المستقبل هناك مرعباً كما تصوره المتشائمون من كتاب ومخرجي أفلام الخيال العلمي، بما فيهم (ه. ج. ويلز) نفسه.. تحذير أمني: - لا تحاول الاقتراب أو الهبوط في المنطقة المحظورة المطابقة لخارطة “الواق واق”، تحت أي ظرف، هذه المنطقة عالقة خارج الزمن والتاريخ، والوضع خطر دائماً، السلاح جزء من الفلكلور، والجماعات المسلحة بمختلف مرجعياتها تشهد مؤخراً زخماً وتصاعداً درامياً طمر كل جوانب المشهد المطمور سلفاً بتداعيات الزمن الميت. - لا تثق أبداً بطاقية الإخفاء، أو حيلة “ويلز” في رواية (الرجل الخفي)، الجن أنفسهم توقفوا عن السياحة في هذه المنطقة..!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك